الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 355/في الاجتماع اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 355/في الاجتماع اللغوي

بتاريخ: 22 - 04 - 1940


نشأة اللغة الإنسانية

للدكتور علي عبد الواحد وافي

اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها

عرضنا في المقال السابق إلى أهم أنواع التعبير الإنساني، فذكرنا أنها ترجع إلى أربعة ضروب:

1 - التعبير الطبيعي عن الانفعال بأمور مرئية، كتفتح

الأسارير وانقباضها، واحمرار الوجه واصفراره، ووقوف

شعر الرأس وارتعاد الجسم وما إلى ذلك من الظواهر المرئية

الفطرية التي تصحب مختلف الانفعالات

2 - التعبير الطبيعي عن الانفعال بظواهر مسموعة،

كالضحك والبكاء والصراخ. وما إلى ذلك من الظواهر

الصوتية الفطرية التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن

والسرور

3 - التعبير الإرادي عن المعاني بأمور مرئية، كالإشارات

اليدوية والجسمية التي تستخدم مستقلة أو مع غيرها بقصد

الدلالة على المعاني والمدركات

4 - التعبير الإرادي عن المعاني بظواهر مسموعة، وهي

الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات.

وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة اللغة إذا أطلقت

وسنشرح في مقال اليوم مدى مشاركة الحيوانات للإنسان في كل نوع من هذه الأنواع الأربعة

تشترك معظم فصائل الحيوان مع الإنسان في النوعين الأول والثاني من أنواع التعبيرات السابق ذكرها (التعبير الطبيعي عن الانفعالات بمظهريه المرئي والمسموع). فانفعالات الحيوان، جسميها ونفسيها: كالجوع والعطش والسرور والفرح والاطمئنان والحزن والاشمئزاز والغضب. . . وما إلى ذلك، يثير كل منها لدى المتلبس به طائفة خاصة من الحركات الفطرية غير المقصودة، وهذه الحركات بعضها بصري، أي يصل عن طريق حاسة النظر: كاتساع الحدقة وضيقها، وبسط الأذنين وخفضهما، والتكشير عن الناب، ووقوف الشعر، وانتفاخ الجسم والأوداج، والهرب والاختفاء. . . وما إلى ذلك؛ وبعضها سمعي، أي يتمثل في صوت يصل عن طريق الأذن: كرغاء الناقة وبغامها، وصهيل الفرس وقبعه عند نفوره من شئ وحمحمته عند الجوع أو الاستئناس، وشحيج البغل، ونهيق الحمار، وخوار البقر، وثغاء الغنم، وزئير الأسد، وعواء الذئب، وتضوره وتلعلعه عند الجوعه، ونباح الكلب، وضغاؤه إذا جاع، ووقوقته إذا خاف، وهريره إذا أنكر شيئاً أو كرهه، وضباح الثعلب، ومواء الهرة، وضحك القردة، وصرصرة البازي، وقعقعة الصقر، وهدير الحمام، وسجع القمري، وزقزقة العصفور، ونعيق الغراب، وفحيح الحيات وكشيشها وحفيفها عند تحرش بعضها ببعض إذا انسابت، ونقيق الضفدع. . . وهلم جراً. . .

وتشترك كذلك بعض فصائل الحيوان مع الإنسان في التعبير الإرادي البصري، وهو التعبير بالإشارة. ويبدو هذا على الأخص لدى الحيوانات التي تعيش جماعات كالنحل والنمل والقردة والبقر والغنم والوعول وما إليها - فقد ثبت أن كثيراً من هذه الفصائل وغيرها تستخدم أحياناً بعض إشارات جسمية للتعبير بشكل مقصود عن بعض شئونها. ففحل الأوعال (الأيل) يستخدم في أثناء قيادة قطيعه بعض إشارات برأسه وقرونه للوقوف فيقف جميع أفراد القطيع، وبعض إشارات للسير فيسير جميع أفراد القطيع؛ ويستحث المتخلفات بأن ينطح كلا منها نطحاً خفيفاً. ويستخدم الأذكياء من الكلاب مع أفراد فصيلتها ومع الآدميين بعض إشارات بالرأس وغيره للتعبير بطريق إرادي عن أمور خاصة، كأن تمر بأظافرها على الباب ليفطن أصحابها إلى وجودها فيفتحوا لها، أو تدفع إناء طعامها برأسها للتعبير عن حاجتها إلى الغذاء. . . وهلم جرا

وتستخدم كذلك فصائل القردة، وبخاصة الفصائل العليا منها (الغوريلا والشمبانزيه والجيبون والأورانج - أوتانج)، وفصائل النحل والنمل بعض شارات من هذا القبيل. فقد كشف العلامة كوهلر عن ظواهر كثيرة من هذا النوع عند فصائل القردة العليا: منها ما يعمله الشمبنزيه حينما يريد أن يرافقه آخر في طريقه، أو يرغب أن يعطيه أحد زملائه شيئاً مما في يده، أو يطلب نداءه عن بعد: فإنه في الحالة الأولى يحتك به بخفة ويجذبه من ذراعه محدقاً فيه ومتقدماً بعض خطوات في الطريق التي يود أن يسلكاها معاً؛ وفي الحالة الثانية يمد يده إلى زميله مد الاستجداء؛ وفي الحالة الثالثة يمد يده ويقبض كفه ويبسطها كما نفعل نحن في مثل هذه المناسبة. وقرر الأساتذة فرانكلين وكيربي وسبنسر وبورميستر وهوبير , , , , أن كثيراً من طوائف النحل والنمل يستخدم أفرادها، بعضها مع البعض، إشارات مقصودة للتعبير بها عن بعض شئونها، وأن هذه الإشارات تتمثل في احتكاك بعض أعضاء المتكلم أو أطرافه أو ذؤاباته بجزء من جسم المخاطب بطريقة خاصة. قام العلامة لوبوك هذا الصدد بطائفة كبيرة من التجارب، فتبين له صدق ما ذهب إليه هؤلاء الأساتذة

وأما النوع الأخير من أنواع التعبير التي أشرنا إليها أول هذا المقال، وهو اللغة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، أي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات، فيظهر أن الإنسان قد اختص بها من بين سائر الفصائل الحيوانية

حقاً إن بعض طوائف الحيوان تصدر عنه أصوات شبيهة في ظاهرها بهذا النوع من التعبير، ولكن بالتأمل في هذه الأصوات، يتبين أنها عارية من خصائص اللغة في صورتها الصحيحة، وأنها ترجع إلى فصيلة أخرى من فصائل الأصوات. وسنعرض فيما يلي لأهم ما يبدو عند الحيوان من هذا القبيل، معقبين على كل مظهر منها بما يبين وجوه الفرق بينه وبين اللغة الصوتية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة

يرجع أهم ما يلفظه الحيوان من هذه الأصوات إلى ثلاث طوائف: (الطائفة الأولى) أصوات فطرية الأصل يستخدمها الحيوان قاصداً بها التعبير عن بعض شؤونه: كالحمحمة التي ترددها الفرس بشكل إرادي عند رؤية صاحبه للتعبير عن حاجته إلى العلف، والمواء الذي يلجأ إليه الهر لينبئ به عن جوعه، والنباح الذي يلفظه الكلب قاصداً به إيقاظ أهل المنزل أو إرشادهم إلى أن شخصاً أجنبياً يحوم حول البيت. . . هلم جراً

وهذه الطائفة ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ وإن أشبهتها في ظاهرها ووظائفها. ذلك أنها أصوات مبهمة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر. ومن أهم خصائص الكلام، كما لايخفى، اشتماله على مقاطع وكلمات وتمييز عناصره بعضها من بعض. هذا إلى أنها في الأصل أصوات فطرية تصحب الانفعالات، وأن كل ما يعمله الحيوان حيالها في هذه الحالة أن يرددها هي نفسها بشكل إرادي للدلالة على نفس انفعالات التي تعبر عنها في شكلها الفطري أو للدلالة على أمور انفعالية قريبة منها (الجوع، العطش، الخوف. . . الخ). وأصوات هذا شأنها لا يصح عدها كلاماً؛ لأن أهم خصائص الكلام أنه أصوات موضوعة للدلالة، أنه يعبر عن معان لا عن انفعالات

(الطائفة الثانية): أصوات متنوعة تلفظها القردة في اجتماعاتها بطريقة يتبادر منها إلى الذهن أنها وسائل تعبير إرادي، وأن أفراد القردة تتجاذب بها الحديث بعضها مع البعض. وتبدو هذه الظاهرة بشكل واضح في الفضائل العليا من القردة وبخاصة (الجيبون)

وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ وإن أشبهتها في ظاهرها ومناسبات استخدامها. فقد ظهر بالبحث فيها أن بعضها تعبير طبيعي عن الانفعال، وبعضها مجرد ترديد إرادي لهذا التعبير، وبعضها من ظواهر التداعي الآلي أو العدوى الصوتية أو تقليد الحيوان بطريق فطري غير إرادي لأصوات نفسه أو أصوات غيره. - هذا إلى أنها على الرغم من تنوعها، وعلى الرغم من تشابه أعضاء النطق عند فصائل القردة بأعضاء النطق الإنسانية أصوات مبهمة بسيطة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر. ومن أهم خصائص الكلام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، اشتماله على مقاطع وكلمات وتمييز عناصره بعضها من بعض

(الطائفة الثالثة) أصوات مركبة ذات مقاطعة تلفظها بعض الطيور كالببغاء، وما إليها من الفصائل التي امتازت أعضاء صوتها بخصائص طبيعية تتيح لها إخراج هذا النوع من الأصوات.

وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ، وإن أشبهتها في الظاهر. وذلك أن الطائر لا يقصد بهذه الأصوات التعبير، فهي تصدر عنه في ثلاث حالات كلها فطرية آلية عارية بتاتاً عن هذا القصد:

الحالة الأولى: حينما يكون الطائر متلبساً بانفعال جسمي أو نفسي. وهي في هذه الحالة من نوع التعبير الطبيعي عن الانفعالات: تصدر عن غير قصد، ويثيرها بشكل آلي الانفعال المتلبس به الطائر. وإثارتها مؤسسة على الروابط الطبيعية الفطرية التي تربط أعضاء الصوت بحالات الجسم والنفس بطريقة تجعل هذه الأعضاء تتحرك وحدها بشكل آلي أو منعكس، وتلفظ أصواتاً مركبة ذات مقاطع عند وجود حالة من الحالات الجسمية أو النفسية المرتبطة بها. فهي حينئذ من قبيل الضحك والبكاء وما إليهما من مظاهر (التعبير الطبيعي السمعي) وكل ما هنالك أن التعبير الطبيعي السمعي يبدو عند الحيوانات الأخرى في صورة أصوات بسيطة مبهمة، ويبدو عند هذه الطيور أحياناً في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع

والحالة الثانية: حينما تكون محاكاة لصوت إنساني سمعه الطائر. وهي في هذه الحالة كذلك تصدر بشكل آلي عار عن قصد التعبير بل عن قصد المحاكاة نفسها. وذلك أن هذه الفصائل مزودة بروابط طبيعية تربط جهاز سمعها بجهاز صوتها بطريقة تجعل أعضاء الجهاز الثاني تتحرك وحدها وتلفظ بشكل آلي نفس الأصوات التي يحسها الجهاز الأول. فكلما وصل الصوت إلى سمعها، في ظروف خاصة، انبعث صداه من أفواهها

(والحالة الثالثة) قد تسمع الببغاء أحياناً كلمات أو أصواتاً في مناسبة ما فتكررها كلما حدثت هذه المناسبة أو المناسبة أخرى تشبهها يتبادر منها إلى الذهن أنها تقصد بها التعبير عن أمر معين: فقد تسمع مثلاً أصحابها ينادون طفلاً باسمه فتكرر هذا الاسم كلما رأت الطفل أو رأت دميته أو متاعاً من أمتعته

وهذه الأصوات كذلك ليست من اللغة في شئ وإن التبست بها في بادئ النظر، وذلك أن الطائر لا يقصد بها، في الواقع، التعبير عن أمر ما؛ وإنما تصدر منه بشكل غير إرادي على صورة التي تصدر فيها ظواهر (التداعي الآلي). فمن كثرة تكرار الكلمة أمام الطائر، بحضرة الشخص أو الشخص أو الشيء الذي تدل عليه، يرتبط صوتها بصورة مدلولها، فينبعث الصوت من الطائر بشكل آلي كلما ظهر أمامه المدلول أو ما يتصل به

هذا، ولا يمتاز الإنسان بهذا الصدد عن بقية فصائل الحيوان باللغة الصوتية فحسب، بل يمتاز عنها كذلك بطائفة من المراكز المخية التي تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة: (مركز إصدار الألفاظ، مركز حفظ الكلمات المسموعة. . . هلم جراً). . .

فقد ثبت أن هذه المراكز ليس لها نظير في مخ أي فصيلة حيوانية أخرى، حتى الفصائل العليا من القردة نفسها.

فالبحث في نشأة اللغة يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة الكلام في الفصيلة الإنسانية؛ وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني.

وسنعرض لهذين الموضوعين في المقالات التالية إن شاء الله.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون