مجلة الرسالة/العدد 354/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 354 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 15 - 04 - 1940 |
الحرب والرياضيات
للأستاذ قدري حافظ طوقان
تتقدم فروع المعرفة ويتناولها التغيير والتبديل، وكلما اقتربت من الأرقام زادت دقة ونحَتْ نحو الكمال. قال أحد الفلاسفة: (يكون العلم دقيقاً إذا استعمل العلوم الرياضية في بحوثه. . .) ولم يستطع العلماء أن يستفيدوا من فروع الطبيعة أو الهندسة ولا أن يتفننوا في صنع السابحات في السماء، والعائمات على الماء، ولا أن يغوصوا إلى أعماق البحار، ولا أن يطوّقوا القارات بالأسلاك الكهربائية، وأن يملئوا الجو بعجيج الأمواج اللاسلكية، وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والصور - أقول لم يستطع العلماء أن يسيطروا على الطبيعة هذه السيطرة القوية إلا بفضل الرياضيات.
قد يكشف العالم بعض النواميس الطبيعية، ولكن لا يستطيع أن يتوسع فيها، ولا أن يخضعها لتقوم بأعمال المدنية الحديثة المعقدة إلا إذا استعان بالرياضيات.
فلقد أحدث اكتشاف (فراداي لإحداث التيار في لفة السلك حين أمرارها في حقل ممغطس أثراً بعيداً عظيم الخطر في الصناعة. . . هذا الاكتشاف قد يبدو بسيطاً ولكن أليس من العجيب المدهش أن كل الصناعات الكهربائية بنيت عليه؟ والأعجب أنه لم يكن في الإمكان جعل هذه الصناعة بمحركاتها ومولداتها في حيز الإمكان إلا حينما دخلت الأرقام والمعادلات قوانين (فراداي) بعد توسيع نطاقها.
ولقد تنبأ (فراداي) أيضاً بأنه لا بد أن يأتي يوم يثبت فيه أن هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية في الأثير، ثم جاء كلارك ماكسويل العالم الرياضي الشهير، وبعد درس وتحليل خرج بمعادلات رياضية أثبت منها أن في الفضاء اضطرابات كهربائية مغناطيسية تتصف بصفات الضوء، أي أن الاضطرابات الناشئة من شرارة كهربائية تبدو في مظهر أمواج في الأثير لا نراها، ولكنها كالأمواج التي تُحدث الضوء والحرارة والطاقة الكيميائية تسير جميعها بسرعة الضوء التي هي (186000) ميل في الثانية. وجاء بعد (ماكسويل) غيره من العلماء وجروا على القواعد التي وضعها فأحدثوا هذه الأمواج وأرسلوها في الفضاء مسافة ثم التقطوها، وبذلك صار تحقيق التلغراف اللاسلكي محتملاً، وقد تنبأ به السير وليم كروكس ثم حققه لودج على مسافات قصيرة، ثم تلاه علماء آخرون فأتقنوه وتوسعوا في صنعه؛ فإذا المخاطبات اللاسلكية على أنواعها منتشرة ومتغلغلة في العمران
لم يكن في الإمكان أن يسخر العلماء بحوث الضوء لخير الإنسان إلا بعد أن أفرغوا قوانين الانكسار في قالب رياضي، وبذلك استطاعوا أن يستعينوا بالمعادلات والأرقام في العدسات لإصلاح عيوب العين وتكبير الصور وعمل التلسكوب والسبكترسكوب والميكرسكوب على اختلافها
إن الصناعة الحربية قائمة على الرياضيات، فالأسلحة على تعددها وتنوعها تعتمد في صنعها على الكهرباء والمولدات والمحركات وآلات ميكانيكية أخرى معقدة وعلى دقة لا تأنى إلا عن طريق المعادلة. فصناعة الغواصات والطائرات قائمة على مبادئ ميكانيكية وكهربائية وطبيعية تدعمها قوانين رياضية لولاها لما كان في إمكان الأولى أن تغوص إلى الأعماق ولا الثانية أن تجوب رحاب الفضاء
لقد برع المهندسون في صنع الآلات المقاومة لبعض أدوات القتال، فلقد (تفننوا) مثلاً في صناعة كاشفات الأصوات (الهيدروفين) الذي جعل الغواصات بواسطته أقل خطراً وخفاء من ذي قبل. ويمكن القول إنهم استطاعوا أن يتخلصوا من خطرها إلى حد كبير، ولا سيما بعد أن أدخل بعض علماء الإنكليز تحسينات على هذا الجهاز تمكنوا بها من تحديد مكان الغواصة بالضبط. وفوق ذلك فقد جهزوا الطائرات المائية بآلات دقيقة تستطيع أن تكشف مسافات من أعماق البحار. وتقوم جميع هذه الآلات وغيرها على حسابات دقيقة أساسها الجداول والمعادلات الرياضية
وكذلك هناك أجهزة دقيقة قائمة على مسائل عويصة معقدة من شأنها إصابة الطائرة بإحكام. وتقوم هذه الأجهزة بعمليات حساب مدى ارتفاع الطائرة عن الأرض وحساب سرعتها التي تسير بها، كما أنها تحدد النقطة التي تصل إليها الطائرة في اللحظة التي تصل فيها قذيفة المدفع. ومن الغريب أن هذه العمليات لا تستغرق أكثر من نصف دقيقة، وفي هذه المدة لا تستطيع الطائرة تغيير اتجاهها، ويمكن عندئذ وعلى ضوء هذه الحسابات إطلاق القنابل إلى المكان الذي تلتقي فيه بالطائرة أو مكان قريب جداً من الطائرة تنفجر فيه وبذلك تصاب الطائرة بالقنبلة أو برشاشها لقد تقدمت صناعة الطائرات على اختلافها من مطاردات وقاذفات ومهاجمة تقدماً سريعاً، وتفنن مهندسو الدول في صنعها وثبت أن المصانع البريطانية امتازت على غيرها في إنتاج طائرات من نوع المطاردات، وتحقق لدى خبراء الطيران العسكري أن خير المطاردات، هي المطاردات المعروفة باسم (قاذفات اللهب). وسرعة هذه المطاردات تزيد على 362 ميلاً في الساعة وتستطيع أن ترتفع من أرض المطار إلى علو (11) إلف قدم في أقل من خمس دقائق، ومداها (600) ميل، وهي مجهزة بثمانية مدافع رشاشة، بينما المطاردات الألمانية لا تزيد سرعتها على (350) ميلاً في الساعة، ومداها (600) ميل، ومجهزة بأربعة مدافع رشاشة. أما المطاردات الفرنسية، فسرعتها (305) أميال في الساعة، ومداها (600) ميل، ومجهزة بمدفعين رشاشين ومدفعين آخرين قطر كل منهما (120) مليمتراً
أما طائرات الهجوم أو قاذفات القنابل، فعلى نوعين: المتوسطة والضخمة: فقاذفات القنابل المتوسطة البريطانية لها سرعة (315) ميلاً في الساعة، ومداها (1900) ميل، وحملها من القنابل (2000) رطل إنكليزي يقابلها في السلاح الجوي الألماني (280) ميلاً للسرعة و (1400) ميل للمدى و (1900) رطل للعمل، وفي الفرنسي (300) ميل للسرعة و (1290) ميلاً للمدى و (3300) للحمل
وأما القاذفات الضخمة، فأقصى سرعتها (220) ميلاً للإنكليزية، ومداها (1315) ميلاً، وحملها (400) رطل يقابلها في الألمانية (205) أميال للسرعة و (995) ميلاً للمدى و (8100) رطل للحمل، وفي الفرنسية (200) ميل للسرعة و (750) ميلاً للمدى و (9300) رطل للحمل
وعلى ذكر القاذفات الضخمة نقول: إن أحدث ما أخرجته المصانع الأميركية طائرات تعرف باسم القلعة الطائرة تفوق مثيلاتها في البلاد الأخرى في السرعة والمدى، فسرعتها (260) ميلاً (يقابلها 220 ميلاً في الإنكليزية و (200) ميل في الفرنسية و (205) أميال في الألمانية) ومداها (2000) ميل. ولقد أخرجت المصانع البريطانية طائرة ضخمة جديدة تفوق (القلعة الطائرة) بلغت سرعتها (267) ميلاً في الساعة وحملها (4600) رطل ومداها (3600) ميل، وهذه الناحية - ناحية المدى - محل دهشة مهندسي الأمم وإعجابهم وهناك اختراعات واكتشافات لم يتوسع نطاق استعمالها واستغلالها لمنافع الإنسان إلا على أساس التجربة والمعادلة الرياضية
ويمكن القول إن علمي الفيزياء والفلك بفروعهما المتنوعة قد وصلا إلى درجة كبيرة من الدقة والكمال بفضل الأرقام والمعادلات. جرّدْ هذين العلمين من رياضياتهما بل جرد الكيمياء الحديثة من معادلاتها وقوانينها فلا يبقى إلا تعاريف ومبادئ أولية لا يمكنك ولا بحال الاستفادة منها أو تطبيقها فيما يعود على البشرية بالنفع والخير. ولن يستطيع العالم مهما كان قوي العقل خصب الفكر أن يقف على أسرار الطبيعة والكون، بل لن يستطيع الغوص ليقف على كنوزهما وعجائبهما إلا إذا ألمّ بالرياضيات وكانت عنده خبرة بها. وإن الكيمياء الحديثة لفي حاجة إلى الرياضيات حاجتها إلى التجربة والاختبار، وناهيك بالكيمياء فهي الأساس الذي شيد عليه صرح الصناعة في هذا العصر، وقد ازدهرت ازدهارها العجيب. إن هذا العصر لهو عصر الهندسة والآلة. وكل هذه في حاجة إلى الرياضيات، ولا يمكن الاستفادة منهما أو تطبيقهما على مقتضيات العمران إلا بذلك، ويمكن القول: (إن مدنيتنا التي ترتكز على الاستفادة من الطبيعة والسيطرة على عناصرها مبنية على أسس العلوم الرياضية) وقد أثبت العالم الأمريكي الشهير (ملكن أنه (إذا أزلنا من العمران الحالي أحد القوانين الرياضية التي ابتدعها وحققها نيوتن لوجب أن نزيل كل آلة تجارية وكل محرك ومولد كهربائي بل كل آلة تستعمل لتحويل القوة إلى حركة لأنها كلها بنيت على هذا القانون الرياضي الشامل. ولسنا بحاجة إلى القول إن نيوتن لم يقصد من قانونه استنباط آلة تجارية أو سيارة أو طائرة. ولكن أليس من المدهش حقاً أن هذه المخترعات وغيرها بنيت على قانونه وأننا إذا أزلناه تهدم عمراننا كأنه بيت من ورق). فالهندسة بأنواعها والملاحة والصناعات المختلفة أكل هذه تحتاج إلى الرياضيات، ولا يمكنها أن تزدهر وتثمر بدونها، بل إن أسس إنشائها وتقدمها قامت على الأرقام والمعادلات. وما يقال عن هذه يقال عن علوم أخرى إلى حد ما، فإن هذه كلما تقدمت وكلما استطاعت أن تدخل الأرقام والمعادلات في بحوثها أصبحت دقيقة واقتربت من الكمال. فالعلوم على اختلافها وتعددها إذا اقتربت من الكمال فإنها لا بد محلقة في سماء الرياضيات وفي جواء من المعادلات والأرقام (نابلس)
قدري حافظ طوقان