مجلة الرسالة/العدد 352/نشر الثقافة وكيف يكون
→ مزامير للنفس العربية! | مجلة الرسالة - العدد 352 نشر الثقافة وكيف يكون [[مؤلف:|]] |
في الاجتماع اللغوي ← |
بتاريخ: 01 - 04 - 1940 |
للأستاذ محمود العمري
نشرت الصحف في المدة الأخيرة أن وزارة المعارف قررت تكليف بعض المؤلفين وضع كتب في سير أبطال الإسلام، وعهدت إلى بعض المترجمين ترجمة مؤلفات أجنبية إلى اللغة العربية
ولا شك أن عناية وزارة المعارف بنشر الثقافة أمر توجبه عليها مهمتها، إذ الحقيقة التي لا مفر من الاعتراف بها أنه لا يغنى عن البلاد كثرة حملة الشهادات الدراسية فيها، وليس مما يشرفها أن يقال في التدليل على انتشار التعليم إن الناجحين في امتحان شهادة كذا بلغ عددهم كذا ألفاً. ولكن الذي يدل دلالة حقيقية على انتشار التعليم أن يقال إن أحد المؤلفات قد بيع منه كذا ألفاً. فهذا وحده هو القياس الصحيح الدال على أن التعليم انتشر انتشاراً حقيقياً كان له أثره في أمرين لا غنى عنهما في كيان أمة، أولهما انتشار الثقافة وسريانها سرياناً طبيعياً اختيارياً تتكيف به حياتها الفكرية، وثانيهما عيالة طبقة من المؤلفين
أما أن تقتصر الحياة العلمية على البرامج الدراسية وتحصيل الشهادات فحالة سطحية مصطنعة. وقد شعر المفكرون منذ مدة بعدم كفاية هذه الشهادات في تكوين الحياة الفكرية، بل لقد نزل مستوى التعليم لدى حامليها، وفطنت الأمة إلى ذلك بعد أن قطعت شوطاً بعيداً في الإكثار منهم. كما تبين أن من أكبر أسباب ضعف التعليم المدرسي عدم وجود المؤلفين والباحثين الذين يتغذى التعليم بمؤلفاتهم وبحوثهم، وتقوم الحركة العلمية على جهودهم قياماً مستقلاً يرفعها إلى حيث تمد البرامج بعناصرها وتنشئ المثل الفكرية العليا نشأة قائمة بذاتها مما يجعلها أساساً للتعليم والتطبيق بدلاً من أن تكون مقصورة عليهما
ولا شك أيضاً أن مساهمة وزارة المعارف في زيادة الثروة الفكرية على النحو الذي انتحته لا تخلوا من فائدة، ولا سيما إذا أحسنت الاختيار وتوخت ملء فراغ، كما فعلت في سير أبطال الإسلام، وفي ترجمة كتاب هانوتو في تاريخ الأمة المصرية
إن أولى الكتب بالنقل إلى العربية وأحقها بالجهود المحدودة التي في طاقتنا في الوقت الحاضر الكتب التي لا تفقد شيئاً من معانيها إذا هي ترجمت إلى لغتنا، والتي تتسق مع حياتنا الفكرية في المرحلة التي نجتازها الآن. أما مؤلفات شكسبير وإضرابه من أعلام الأدب الغربي الذين ترجمت وزارة المعارف كتبهم في عهود مضت وتزمع الآن ترجمتها، فإن كثيراً منها يعد نقلها إلى العربية من الكماليات
يعرف الملمون بالأدب الغربي أن اختيار المؤلفات التي تفيد ترجمتها أمر في غاية الدقة، إذ أن كثيراً منها ترجع قيمته إلى اللغة الأصلية وإلى الفنون الأدبية والأوضاع الاجتماعية المحلية، فهي حافلة بإشارات لها مدلولها في ذهن قارئها في بلادها أو على الأكثر في البلاد القريبة الشبه بها في البيئة. ولسنا نأتي بجديد إذا قلنا إن الناحية الفنية في الأدب الغربي تتأثر كثيراً بالنقل إلى العربية لبعد الشبه بينها وبين اللغة الأصلية. بل إن المعاني الأدبية العميقة في الأدب الأوربي العويص كثيراً ما تخفى على غير المتعمقين فيه من المبتدئين في الاطلاع، معتمدين على مجرد فهم المعنى اللفظي دون أن يغوصوا إلى ما وراء اللفظ وما بين السطور
فخير لوزارة المعارف أن تختص بعنايتها بالنقل إلى العربية الكتب التي تستساغ لدى قراء العربية دون غيرها من اللغات، فتنسجم ضمن غذائهم العقلي ولا تفقد معانيها شيئاً بالترجمة لأنها تتناول مادة عامة وعلى الأخص الكتب التي تتناول مادة أصلها عربي ككتاب هانوتو، فإن معانيها تزداد في العربية وضوحاً
والكتب التي من هذا القبيل كثيرة في اللغات الأوربية، من أهمها كتب المستشرقين في تاريخ العرب والإسلام، وقد سبق أن عرض كتاب هذه السطور مقترحاً بترجمتها أيام وزارة المرحوم زكي باشا أبو السعود، كما تكلم في هذا الشأن مع المرحوم الشيخ شاويش
ولا جدال في أن ترجمة المؤلفات المذكورة تعد من قبيل رد مادة إلى أصلها العربي فتزداد بالترجمة وضوحاً كما أنها تدخل مع ثقافتنا في نسق واحد مستساغ
على أن أهم ما أقصده من كتابة هذه الكلمة أن أتناول الرأي الأساس في نشر الثقافة عن طريق تكليف بعض المؤلفين أو المترجمين وضع كتب أو ترجمتها
هذا الرأي على عدم خلوه من فائدة كما قدمت لا يؤتى في النهاية إلا ثمرة محدودة الفائدة، وليس فيه دواء حاسم للمشكلة الأصلية وهي فقر الثقافة وعدم انتشارها
لا شك أن أفاضل المؤلفين والمترجمين الذين كلفتهم الوزارة القيام بذلك العمل سيبذلون جهداً مشكوراً وستظهر لهم كتب قيمة، إلا أن الداء الأساسي سيظل كما هو قامت الوزارة منذ مدة بعمل آخر في تشجيع الثقافة فجرت على عادة شراء مقادير من المؤلفات التي تصدر من وقت إلى آخر تعضيداً للمؤلفين وتعويضاً لهم عن قلة ما يباع من كتبهم. ولا ريب أن هذا التشجيع بشراء الكتب ولو لوضعها في مخازن الوزارة كان فيه بعض الفائدة في ذاته، إلا أنه كان من قبيل دخول الحكومة في سوق القطن بالشراء إنقاذاً لقيمة المحصول من أن يباع بقيمة دون قيمته، وضنا بثمرة جهود المنتجين أن تضيع هباء، وتشجيعاً لهم على المضي في الإنتاج
غير أن الناس لم يلبثوا أن فطنوا إلى ما نبه إليه المستر طود الاقتصادي المختص بشئون القطن وهو أن هذا العلاج محدود الأثر؛ فإن القطن الذي تشتريه الحكومة اليوم لابد أن تبيعه غداً، وعندئذ يزيد المعروض فيهبط السعر. وإن شراء الحكومة ليس شراء بمعنى الكلمة لأنها ليست مستهلكة له في واقع الأمر، وإنما الشراء الحقيقي من الوجهة الاقتصادية شراء المصانع التي تستهلكه في الصناعة وتستبعده نهائياً من عداد المادة الخام وتقوم بتصريفه في شكل جديد
يحضرني عند التفكير في حل هذه المشكلة حلاً طبيعياً أساسياً ذكر ما توصلت إليه دول أوربا للنهوض بالزراعة ووضعها على أساس علمي
بذلت تلك الدول في أول الأمر جهوداً عظيمة من الناحية المباشرة فذهب عناؤها هباء. ثم أتتها فترة تهيأت فيها ظروف ساعدتها على رفع أسعار المحاصيل الزراعية بسبب اتساع الأسواق العالمية وسهولة النقل، فما هي إلا أن أصبحت الزراعة مهنة رابحة، وسرعان ما انشحذت الملكات وانطلقت نحو الزراعة بأقصى ما أوتيت من قوة فازدهرت الفنون الزراعية من الناحيتين العلمية والعملية. وهكذا عولجت المشكلة من صميم أسبابها.
عانت فرنسا في السنين الأخيرة أزمة نسبية هي ضعف انتشار المؤلفات الفرنسية وذلك لأسباب منها انتشار الراديو والسينما والألعاب الرياضية، فخشي مفكروها ضعف ثقافتها وهي سند مدنيتها، وخافوا أن يهبط بذلك نفوذ بلادهم الأدبي في العالم كما خافوا أن ينحط الإنتاج الفكري عندهم لقلة ما يباع من مؤلفاتهم عن القدر الكافي لعيالة طبقة مؤلفيهم وشحذ هممهم
أجمع هؤلاء المفكرون أمرهم وأنشئوا جماعة برياسة جورج دوهاميل الكاتب المشهور واستعانوا بوزير معارفهم جان زاي وهو الوزير الذي رآه المصريون عندما جاء منذ عامين لافتتاح معرض الفن الفرنسي الذي كان للكتب الفرنسية فيه حظ كبير؛ وقد تمت إجراءات مهمة بتعاون الوزير المذكور مع تلك الجماعة.
لا شك أن تصريف الكتب في مصر قليل جداً لأسباب تختلف عن أسبابه في فرنسا، وأن ما يباع عندنا من الكتب لا يكفي لسد حاجة البلاد إلى طبقة من المؤلفين المحترفين الذين يستطيعون أن يعيشوا من ثمرة أقلامهم. فعبثاً نحاول أن تخرج البلاد ما فيها من الملكات إلا بإيجاد الحافز.
قال أحد الأدباء في عصر شبيه بعصرنا: (كان الناس في الزمن الغابر يسألون: ما صناعة هذا الرجل؟ فيقال: هو أديب. والآن إذا عرفوا أدبه يسألون: ما صناعة هذا الأديب؟!)
هذه حال لا يصح السكوت عليها، ولا سيما أن لنا مزية انتشار لغتنا في خارج حدودنا انتشاراً من شأنه أن يجعل لمؤلفينا من القراء في غير بلادنا ما يزيد على عددهم في مصر أضعافاً مضاعفة.
لا أريد في هذه الكلمة أن أتكلم عن أسباب قلة الميل إلى القراءة، ولكنني لا أشك في أن الكتب، حتى على أساس هذا الميل القليل غير منتشرة، وأن عدم انتشارها أمر غير طبيعي؛ ومن الأدلة على ذلك كثرة انتشار الصحف والروايات الخفيفة انتشاراً يدل على أن عدم الإقبال على القراءة قد بلغ هذا المبلغ المشاهد في الكتب.
صحيح أن الجمهور أميل إلى القراءة الخفيفة السطحية، غير أن هذا السبب لا يكفي لتعليل البون الشاسع بين انتشار الصحف وانتشار الكتب. إنما العلة الكبرى أن للصحف والروايات الخفيفة أصحاباً يتعهدون نشرها على أساس تجاري وإداري محكم. أما الكتاب في مصر فيتيم ليس له من يتولى أمره، إذ أن كل مؤلف على حدته لا يستطيع شيئاً، والحركة التجارية غافلة عنه، وذلك لسببين: أولهما أن التجارة في مصر رائجة لسبب نأسف له وهو نشاط الأجانب، وهؤلاء لا يقبلون على الكتب العربية إقبالهم على النواحي الأخرى. والثاني أن تجارنا تعوزهم ملكة الابتكار، فتجارة الكتب تختلف عن غيرها في أن الطلب في أمرها يتبع العرض إلى حد بعيد، مع أن العرض في أمر غيرها يتبع الطلب بدرجة عظيمة. وهذا ملموس في كل بلاد وفي كل جهة ليخيل للإنسان أنه لا يوجد ميل إلى الاطلاع إلا بين الذين اعتادوا المرور في حي معين فيه مكتبة يستوقف ما في واجهتها من الكتب نظر المارة، بل قد يدخل أحدهم بغير قصد شراء كتاب بذاته فيخرج وإذا بيده كتب
يعرف المؤلفون في مصر أن كتبهم لا تباع إلا حيث توجد المكتبات في مدينة واحدة وهي القاهرة، فيخيل إليهم أن الميل إلى القراءة غير موزع بين سكان القطر وأنه مقصور على حي معين. ثم ما هي إلا أن يتطوع صديق في جهة نائية فيبيع له عدداً كبيراً
لا ريب أن تشجيع نشر الكتب أمر حيوي وفيه شفاء للعلة الأصلية من أساسها بشكل يؤدي حتى في ظروفنا الحالية إلى انتشار الثقافة فتربح التجارة، وتنشط المطابع، وتقوم في البلاد طبقة من قادة الفكر على أساس الدافع الطبيعي الذي لا يقتصر على ما لابد منه للمؤلفين من الاستقلال المادي والأدبي. بل إن في انتشار مؤلفات أحدهم ما يقوم في نفسه دليلاً على أنه أدى رسالته، كما أن في الإقبال على كتبه انتخاباً من القراء له وعملاً فيه الكثير من الصدق في التعبير عن أنهم أولوه زعامة طبيعية نابتة من الحركة الفكرية في ذاتها
ولست أريد أن أرسم خطة معينة تتبعها وزارة المعارف في تنفيذ برنامج عملي لنشر الثقافة عن طريق الكتب، ولكنني أورد على سبيل المثال ما يعن لي من الوسائل:
1 - أن تتفق الوزارة مع مراقبات مناطق التعليم ومجالس المديريات على أن تقصر معاملاتها بقدر الإمكان على المكتبات الواقعة في الجهات نفسها
2 - أن تتفق مع مصلحة البريد على إعطاء الأفضلية في بيع طوابع البريد وطوابع التمغة للمكتبات دون الصيدليات ومحلات العطارة وحوانيت التبغ
3 - أن تحفظ لديها سجلاً بالمكتبات في كافة جهات القطر ليرجع إليها الناشرون وأصحاب المطابع والمؤلفون للتعامل معهم، وأن تقوم مراقبات مناطق التعليم بالاستيثاق من أن هذه المكتبات مكتبات حقيقية
4 - أن تذيع بالراديو أسماء الكتب وخلاصات مشوقة موجزة عن محتوياتها
5 - أن تتفق مع وزارة الشؤون الاجتماعية على أن تدمج في المراكز الاجتماعية التي تزمع إنشاءها برامج ثقافية
6 - أن تشجع على إنشاء هيئة مركزية في القاهرة تجمع لديها فهارس ما يصدر من الكتب وتوزعها على جميع المكتبات في القطر، ويشترك أصحاب المكتبات في هذه الهيئة بضمان أو تأمين لكل منهم بمائتي جنيه مثلاً يجعل لكل منهم حق أخذ كتب بقيمتها حسب اختياره عن طريق الهيئة، وكلما سدد ثمن ما أخذه فتح له اعتماد بدلاً منه بقيمة ما يسدد، حتى إذا كان نشاطا في البيع دار معه مبلغ الضمان خمس مرات أو عشراً، فيكون قد اتجر في رأس مال قدره ألف أو ألفا جنيه دون أن يدفع شيئاً، اللهم إلا ضماناً قدره مائتا جنيه. وهذه الطريقة تتبعها شركة من شركات المنسوجات الأجنبية في مصر
ولابد لي أن أختم هذه الكلمة بتكرار ما قلت فيما سبق، وهو أنني لم أتعرض لمعالجة موضوع عدم الميل إلى القراء، إذ أن هذا أمر يتصل بمشكلة التعليم وبالرأي السائد في البلاد وفي الحكومة عن غاياته وأقيسته
محمود العمري