مجلة الرسالة/العدد 352/في الاجتماع اللغوي
→ نشر الثقافة وكيف يكون | مجلة الرسالة - العدد 352 في الاجتماع اللغوي [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 01 - 04 - 1940 |
تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات
وأثر انتشارها في هذا التفرع
للدكتور علي عبد الواحد وافي
تختلف اللغات الإنسانية في مبلغ انتشارها اختلافاً كبيراً فمنها ما تتاح له فرص مواتية، فينتشر في مناطق شاسعة من الأرض، ويتكلم به عدد كبير من الأمم الإنسانية؛ كما حدث للاتينية والعربية في العصور القديمة والوسطى؛ وللإنجليزية، والأسبانية، والبرتغالية، والفرنسية، والألمانية في العصور الحديثة. ومنها ما تسد أمامه المسالك، فيقضي عليه أن يظل حبيساً في منطقة ضيقة من الأرض، وفئة قليلة من الناس؛ كما حدث للأبنو والبسكية والليتونية، ومنها ما يكون حاله وسطاً بين هذا وذاك، فلا تتسع مناطقه كل السعة، ولا تضيق كل الضيق؛ كما هو شأن الحبشية والفارسية
هذا، ولانتشار اللغة أسباب كثيرة يرجع أهمها إلى ما يلي:
1 - أن تشتبك اللغة في صراع مع لغة أو لغات أخرى وتقضي نواميس الصراع اللغوي المتقدم ذكرها في المقالات السابقة أن يكتب لها النصر، فتحتل مناطق اللغة أو اللغات المقهورة، فيتسع بذلك مدى انتشارها، وتدخل أمم جديدة في عداد الناطقين بها: كما حدث لللاتينية في العصور القديمة، إذ تغلبت على اللغات الأصلية لإيطاليا وإسبانيا وبلاد (فرنسا وما إليها) والألب الوسطى فأصبحت لغة الحديث والكتابة في منطقة شاسعة في القسم الجنوبي الغربي من أوربا بعد أن كانت قديماً مقصورة على منطقة ضيقة في وسط إيطاليا، هي منطقة اللاتيوم وكما حدث للغة العربية إذ تغلبت على كثير من اللغات السامية الأخرى وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية، حتى بلغ الآن عدد الناطقين بها نحو 40 مليوناً ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة بعد أن كانوا قديماً لا يتجاوزون بضعة آلاف يقطنون منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من بلاد العرب؛ وكما حدث للألمانية إذ طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لها بأوربا الوسطى (بألمانيا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا. . . الخ). وقضت على لهجاتها الأولى، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 70 مليوناً من سكان أوربا بعد أن كانت قديماً مقصورة على بعض المقاطعات الألمانية
2 - أن ينتشر أفراد شعب ما - على أثر هجرة أو استعمار - في مناطق جديدة بعيدة عن أوطانهم الأولى، ويتكون من سلالاتهم بهذه المناطق أمة أو أمم متميزة كثيرة السكان، فيتسع بذلك مدى اتساع لغتهم، وتتعدد الجماعات الناطقة بها، ويكثر أفرادها. والأمثلة على ذلك كثيرة في العصور الحديثة. فقد نجم عن استعمار الإنجليز السكسون لأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقية أن انتشرت الإنجليزية في هذه المناطق الشاسعة، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 170 مليوناً موزعين على مختلف قارات الأرض، بعد أن كانت قديماً محصورة في منطقة ضيقة من الجزر البريطانية. ونجم عن الاستعمار الأسباني في الدنيا الجديدة أن أصبحت الأسبانية لغة المكسيك وجزر الفيليبين وجميع دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية ما عدا البرازيل، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 70 مليوناً ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من أوربا. ونجم عن الاستعمار البرتغالي في الدنيا الجديدة وأفريقيا والأوقيانوسية أن أصبحت البرتغالية لغة سكان البرازيل بأمريكا الجنوبية وسكان المستعمرات البرتغالية بأفريقيا وجزر المحيط الهندي، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 50 مليوناً ينتمون إلى عدة أمم، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في بلاد البرتغال نفسها
3 - أن يتاح لجماعة ما أسباب مواتية للنمو الطبيعي في أوطانها الأصلية نفسها فيأخذ عدد أفرادها وطوائفها في الزيادة المطردة، وتنشط حركة العمران في بلادها، فتكثر فيها المدن والقرى وتتعدد الأقاليم والمناطق، فيتسع تبعاً لذلك نطاق لغتها ومدى انتشارها، كما حدث لليابانية والفرنسية والإيطالية. فبفضل هذا العامل بلغ عدد الناطقين باليابانية في اليابان نفسها نحو 60 مليوناً، وبفضله كذلك مع مساعدة العاملين السابقين بلغ عدد الناطقين بالفرنسية نحو 50 مليوناً وبالإيطالية نحو 45 مليوناً.
ومتى انتشرت اللغة في مناطق شاسعة من الأرض تحت تأثير عامل من العوامل السابق ذكرها، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد، وطوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً، فلا تلبث أن تتشعب إلى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، فلا تلبث مسافة الخلف أن تتسع بينها وبين أخواتها، حتى تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها، وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللغات يختلف أفرادها بعضها عن بعض في كثير من الوجوه، ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة، ولحمة نسب لغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منه؛ ولكنه لا يلبث أن يتنحى عن ذلك بعد أن يكتمل نمو هذه اللغات.
ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها إلى العصر فاللغة الهندية - الأوربية الأولى، قد انشعبت في ضحى الإنسانية إلى مجموعات كثيرة، وكل مجموعة منها تفرعت إلى عدة طوائف، وكل طائفة انقسمت إلى شعب، وكل شعبة إلى لغات وهكذا دواليك. . . ومثل هذا حدث للغة السامية الحامية الأولى ولجميع الفصائل اللغوية الأخرى.
وقد شهدت عصورنا التاريخية نفسها كثيراً من آثار هذا القانون، فاللغة اللاتينية، وهي إحدى لغات الفرع الإيطالي المتشعب من الهندية - الأوربية، قد أخذت هي نفسها في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى تتشعب إلى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها، حتى انفصلت عنها انفصالاً تاماً، وأصبحت لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها (الفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا. . .) ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات
والعصر الحاضر نفسه يشهد كثيراً من آثار هذا القانون. فلانتشار اللغة الأسبانية في مناطق شاسعة من الأرض ولاختلاف الطوائف المتكلمة بها، أخذت تفقد وحدتها، فانشعب عنها في أمريكا الجنوبية لهجات كثيرة تختلف كل منها عن الأسبانية الأصلية اختلافاً غير يسير في كلماتها وأصواتها؛ بل إن بعض هذه اللهجات أخذ يختلف عن الأسبانية الأصلية في القواعد نفسها
وهذا هو ما يحدث الآن للإنجليزية والألمانية. فقد أخذت إنجليزية الولايات المتحدة بأمريكا تختلف عن إنجليزية الجزر البريطانية في كثير من المفردات وأساليب النطق؛ وأخذت ألمانية سويسرا تبتعد عن أصلها ويزداد تأثرها بجارتها الفرنسية، حتى توشك أن تكون لهجة متميزة عن ألمانية الألمان وقد اتسعت مسافة الخلف بين اللهجات المتشعبة عن العربية حتى أصبح بعضها غريباً عن بعض؛ فلهجة العراق في العصر الحاضر مثلاً لا يكاد يفهمها المصري. غير أنه قد خفف من أثر هذا الانقسام اللغوي بقاء العربية الأولى بين هذه الشعوب لغة أدب وكتابة ودين
والعامل الرئيسي في تفرع اللغة إلى لهجات ولغات هو سعة انتشارها. غير أن هذا العامل لا يؤدي إلى ذلك بشكل مباشر، بل يتيح الفرص لظهور عوامل أخرى تؤدي إلى هذه النتيجة. وباستقراء هذه العوامل في الماضي والحاضر يظهر أن أهمها يرجع إلى الطوائف الآتية:
1 - عوامل اجتماعية سياسية تتعلق باستقلال المناطق التي انتشرت فيها اللغة بعضها عن بعض، وضعف السلطان المركزي الذي كان يجمعها ويوثق ما بينها من علاقات. وذلك أن اتساع الدولة وكثرة المناطق التابعة لها، واختلاف الشعوب الخاضعة لنفوذها. . . كل ذلك يؤدي غالباً إلى ضعف سلطانها المركزي، وتفككها من الناحية السياسية، وانقسامها إلى دويلات أو دول مستقل بعضها عن بعض. وغنى عن البيان أن انفصام الوحدة السياسية يؤدي إلى انفصام الوحدة الفكرية واللغوية
2 - عوامل اجتماعية نفسية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في النظم الاجتماعية والعرف والتقاليد والعادات ومبلغ الثقافة ومناحي التفكير والوجدان. فمن الواضح أن الاختلاف في هذه الأمور يتردد صداه في أداة التعبير
3 - عوامل جغرافية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في الجو وطبيعة البلاد وبيئتها وشكلها وموقعها. . . وما إلى ذلك، وفيما يفصل كل منطقة منها عن غيرها من جبال وأنهار وبحار وبحيرات. . . وهلم جرا. - فلا يخفى أن هذه الفروق والفواصل الطبيعية تؤدي، عاجلاً أو آجلاً، إلى فروق وفواصل في اللغات
4 - عوامل شعبية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في الأجناس والفصائل الإنسانية التي ينتمون إليها والأصول التي انحدروا منها، فمن الواضح أن لهذه الفروق آثاراً بليغة في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات
5 - عوامل جسمية فيزيولوجية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في التكوين الطبيعي لأعضاء النطق فمن المحال، مع فروق كهذه، أن تظل اللغة محتفظة بوحدتها الأولى أمداً طويلاً
فانقسام المتكلمين باللغة الواحدة، تحت تأثير هذه العوامل، إلى جماعات متميزة، واختلاف هذه الجماعات بعضها عن بعض في شئونها السياسية والاجتماعية، وفي خواصها الشعبية والجسمية والنفسية، وفيما يحيط بها من ظروف طبيعية وجغرافية، كل ذلك وما إليه يوجه اللغة عند كل جماعة منها وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها، ويرسم لتطورها في النواحي الصوتية والدلالية وغيرها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها، فتتعدد مناهج التطور اللغوي حسب تعدد الجماعات، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بين اللهجات الناشئة عن هذا التعدد، حتى تصبح كل لهجة منها لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها
ويبدأ الخلاف بين هذه اللهجات من ناحيتين: إحداهما الناحية المتعلقة بالصوت، فتختلف الأصوات (الحروف) التي تتألف منها الكلمة الواحدة، وتختلف طريقة النطق بها تبعاً لاختلاف اللهجات؛ والأخرى الناحية المتعلقة بدلالة المفردات، فتختلف معاني بعض الكلمات باختلاف الجماعات الناطقة بها
أما سواء في ذلك ما يتعلق منها بالبنية (المورفولوجيا) أو ما يتعلق منها بالتنظيم (السنتكس)، فلا ينالها في المبدأ كثير من التغيير. وإليك مثلاً اللهجات العامية التي انشعبت عن العربية بالعراق والشام والحجاز واليمن وبلاد المغرب. . . فإنه لا يوجد بينها إلا فروق ضئيلة في نظام تكوين الجمل وتغيير البنية وقواعد الاشتقاق والجمع والتأنيث والوصف والنسب والتصغير. . . وما إلى ذلك؛ على حين أن مسافة الخلف بينها في الناحيتين الصوتية والدلالية قد بلغت حدا جعل بعضها غريباً عن بعض، كما سبقت الإشارة إلى ذلك
ولكن هذه الوحدة في القواعد لا تقوى على مقاومة عوامل التفرقة إلا لأجل معلوم؛ ثم تهن قواها وتستسلم لهذه العوامل، فيصيبها منها ما أصاب الصوت والدلالة من قبل، وحينئذ تقوى وجوه الخلاف بين اللهجات، وتبدأ مرحلة تحولها إلى لغات مستقلة، ولا تنفك تذهب حثيثاً في هذا الطريق حتى تبلغ غايته
غير أنه يبقى بها، على الرغم من هذا كله، وجوه شبه قريبة أو بعيدة في أصول المفردات وبعض مظاهر القواعد العامة. وإليك مثلاً طوائف اللغات الهندية الأوربية، فعلى الرغم من استحكام ما بينها من حلقات الخلاف، فإن الأصل الأول قد ترك في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة وتشهد بتفرعها عن أرومة واحدة
ومن هذا يتبين أن اللغة لا تموت حتف أنفها. فما لم تصرعها لغة أخرى على الوجوه التي تقدم شرحها في المقالات السابقة، لا يتطرق إليها الفناء. وخلودها هذا يبدو في أحد مظهرين. فأحياناً تحتفظ بوحدتها، وذلك إذا ظلت حبيسة على منطقة ضيقة وفئة قليلة، وأحياناً تتشعب إلى لهجات ولغات، وذلك إذا انتشرت في مساحات شاسعة من الأرض وتكلم بها طوائف مختلفة من الناس
ومن ثم يظهر كذلك خطأ من يحاولون علاج تعدد اللغات بإنشاء لغة عالمية (إسبرنتو يتحدث بها الناس من مختلفي الأمم والعصور. وذلك أن هذه اللغة الصناعية على فرض إمكان اختراعها وإلزام الناس باستخدامها، لا تلبث بعد تداولها على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية والتي خضعت لها أول لغة تكلم بها الإنسان. فما دام أفراد الأمم الناطقة بها مختلفين في أصولهم الشعبية وفي التكوين الطبيعي لجسومهم وأعضاء نطقهم، وفي الظروف الجغرافية والطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، وفي قواهم الإدراكية والوجدانية، وما دامت سنة الطبيعة تقتضي أن يختلف كل جيل عن الجيل السابق له في كل هذه الأمور، فلابد أن تختلف هذه اللغة الصناعية في كلماتها وأصواتها ودلالاتها وقواعدها باختلاف العصور وباختلاف الشعوب الناطقة بها، وتنقسم إلى لهجات يختلف كل منها عما عداه، وتتفرع منها لغات عامية، وتتسع الهوة بين لهجاتها قليلاً حتى تنفصل كل لهجة منها عما عداها انفصالاً تاماً وتصبح غير مفهومة إلا لأهلها، شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات، وهكذا لا يمضي زمن قصير أو طويل حتى يتولد من هذا العلاج نفس المشكلة التي يحاولون القضاء عليها: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم. . .). (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين) علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون