مجلة الرسالة/العدد 350/من وحي الفوضى
→ حول لقب (السفاح) أيضا | مجلة الرسالة - العدد 350 من وحي الفوضى [[مؤلف:|]] |
النسر المهيض ← |
بتاريخ: 18 - 03 - 1940 |
الدكتور مبارك يناظر
للأستاذ شكري فيصل
منذ أيام وقف الدكتور (زكي مبارك) يناظر الأستاذ (لطفي جمعة) في موضوع: (يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية). وكان طبيعياً أن يؤيد الدكتور المبارك هذه الفكرة وأن ينتصر لها، ويدافع عنها؛ ويجرد حملاته على خصومها ويسوق عليهم القوى والهجمات من منطق العقل ومنطق العواطف
وقد ود الناس لو سمعوا الدكتور خطيباً يرتجل حججه وسط هذا الحماس المضطرم، وينتزع آراءه من قلب هذا التيار العاصف، ويمتع سامعيه بلفتاته الذهنية البارعة. ولكن الدكتور زهد - كما يقول - في البراعة الخطابية، فانصرف عنها، وأوى إلى قلمه في ساعة من ساعات الفوضى والاضطراب فكتب خطابه في دائرة محدودة وصفحات معدودة ونهج بيّن
وكان هذا في الواقع صدمة شديدة الأثر. . . تناثرت معها أماني وأحلام. فالناس يعجبهم من هذه المناظرات أنها متعة من متع الفكر، يستفيق فيها الحس؛ وستفتح معها الذهن وتضطرم فيها الحياة، وتنبثق في خلالها المعاني والخطرات كما ينبثق الماء الثر فإذا هم - هذه المرة - في نطاق من الفكر، وفي مدى من الجدل، وفي مجال ضيق قد رسمت فيه الخطوط، وعينت الاتجاهات وصدرت عن أصل مكتوب
ولئن فات الناس أن ينعموا ببراعة الدكتور الخطابية التي زهد فيها، فقد عوضهم أن يروا نظراته المزدوجة (المتفلسفة) من فوق عينه
وأنا أشهد يا سيدي الدكتور أنك استطعت أن تأسر الناس، وأن تأخذهم بالإعجاب بك، والتصفيق لك، والانسياق معك في هذه الوديان المترعة بالحسن التي حملتهم إليها، وهذه الربوع المليئة بالجمال التي دفعتهم نحوها. . . وتلك الأجواء العبقة التي حلقت بهم فيها. . .
ولقد حدثتَ يا سيدي حديث العواطف الثائرة والشعور الطاغي والقلب الذي كونه النار والصدر الذي اضطرم فيه اللهب. . . وسمعك الناس تقرأ لهم صفحة من بلائك بالدنيا، وصدامك مع الناس، وحربك مع هذا العالم. . . وأنصتوا يصغون لهذا النشيد الدائم الخالد: نشيد (الأحلام والأوهام) و (الحقائق والأباطيل) و (الأزهار والأشواك) و (العقول والقلوب). . . فنفثت فيهم ببراعتك لباقتك السحر والعطر والجمال. . .
ولم تنس يا سيدي أن تقص علينا طرفاً من حياتك. . . فأنت في كلية الآداب، ولكلية الآداب في تاريخك صفحات وصفحات. . . فَلِم لا تنشر هذه الصفحات في مدرج الكلية، وعلى عيني طلبتها وطالباتها. . . ليروا مدى برّك بها، وميلك إليها، وغيرتك عليها؟! ولم لا تغتنم هذه الفرصة فتضع أيديهم على أمور وأمور تعتقد أن من واجبك أن تنبه إليها، وتتحدث عنها؟!. . .
وحديث ليلى يا سيدي. . . حتى ليلى هذه كان لها في خطابك نصيب، وفي موضوعك حظ. . . وفي أوراقك ذكر. . . وكانت ليمينك يمين. . . ولجيشك جناح. . .
ولقد استطعت يا سيدي بما آتاك الله من طلاقة ووهبك من اندفاع وبما أفضت من روعة ونثرت من رياحين أن تهدئ ثورات وتسكن نفوساً، وتسكت غاضبين. . . وأن تخرج من وسط الضجة الناقمة، والصخب الثائر بالهتاف الذي ملأ الجو، والتصفيق الذي كان يمثل نبضات القلوب الخافقة. . .
وضمن لك هذا الأسلوب البارع، وهذه القدرة الخطابية، أن تمر بكثير من القضايا. . . فتعرض على الناس طرفاً منها ووجهاً لها؛ ثم تخلص منها إلى غيرها على أنها قضية مسلمة، وحقيقة واقعة. . . ولقد بلغت أكثر من ذلك. . . حين خضت طرفاً شائكاً وعراً. . . وقدت الناس فيه، وخرجت منه مظفراً. . .
لم تدم لك قدم، ولم يقف في طريقك ما يقف في طريق الناس من عقبات وحواجز. . .
ولكن، أليس من حق الناس، وقد اكتسبت المعركة، وظفرت بالنصر، واكتسحت الخصوم الأقوياء، أن يقفوا عند هذه القضايا التي طويت عليها كتابك أمس. . . فيتحدثوا عنها، وقد هدأ الحماس الثائر، وسكنت الأكف المصفقة، وتنفس الصبح عن الوضح المبين؟!. . .
نحن نحب أن نتساءل عن قولك: (إن أكثر أهل الجنة من البَله). كيف استطعت أن تنجو معها من إخواننا الأزهريين الذين كانوا يملئون جنبات المدرج؛ وكيف سكتوا عنها حتى لكأنك لم تمر بها؟. . . إن تعليلك طريف حقاً. . . ولكن هل ترضاه الآن بعد أن خرجت من ميدان المعركة؟!
وشئ آخر يا سيدي. . . إنك تقول إن الأدب لا يزدهر في البيئات الساكنة، وإن رجال الدين ومن في مثل منزلهم لم يصدر عنهم أدب صحيح قيم. . . فهل أنت مؤمن بهذه الدعوى العريضة؟. . . وهل يستطيع أحد أن ينكر أن للبيئة الهادئة أدبها الهادئ الجميل. . . وأن كثير من الرجال الدين والمتدينين قد صاغوا من هذا الهدوء الذي نعموا به، وهذه اللذاذات العقلية التي عاشوا فيها الوجدانيات من الأدب الرفيع؟!
وهل يغفل الإنسان عن الحقيقة الناصعة في أن طائفة كبيرة من أدباء الشرق العربي في جيل الماضي وفي الجيل الحاضر هم من هموم من رجال الدين الذين قرأ لهم الناس الشعر، وقرءوا لهم النثر، وكانوا من عمد هذه النهضة الجديدة؟!. . .
أو ليس صحيحاً أن الأكاديمية الفرنسية تضم فما تضم بعضاً من رجال الأكليروس. . . أم أن ذلك كان بعد رجوع الدكتور من باريس؟!. . .
وماذا بعد؟ إني لأحاول أن أجوز إلى الناحية الثالثة التي استوقفتني في خطاب الدكتور لولا أني أخشى أن أهتم بالعصبية أو الإقليمية أو الهوى. . . وإنما هواي مع مصر، وعصبيتي لها. . . ولكن ما يمنعنا أن نكون أقرب إلى الدقة والى الأنصاف؟!. . . وهل يعاب الحق إن هو لم يساوق بعض الأهواء الجامحة؟!
ما علي إذن إن أنا وقفت عند كلمة الدكتور: (إن مصر أقدر الأمم الإسلامية على التفكير الدقيق وعلى التأليف) وما عليّ أن أتساءل ويتساءل معي كثيرون، وأن نرجوا الدكتور أن يكون متئداً هادئاً، لا يدل ولا يتيه فمصر زعيمة العالم العربي. وهي موطن أمله، وموضع رجائه، ومحط أمانيه؛ وهي بلد رجاله ومنبت أبطاله، ومبعث النور فيه. . . ولكن هذا لا يعني يا سيدي الدكتور ألا تكون الأقطار الإسلامية الأخرى قادرة على مثل هذه الدقة في التفكير، وهذه الكثرة في التأليف. . .
والذين هم في مكان القيادة يا سيدي، ليأخذوا بيد الضعيف، ويمدوا في قوة العاجز، وينيروا السبيل للضال. . . لا يعيبون على الضعيف ضعفه، ولا يأخذون عليه عجزه، لأن هذا لا يتسق مع تواضع النعمة؛ وحق الاخوة، وشكر الله. . .
وفي الأقطار التي تعنيها يا سيدي نهضة وحركة. . . وقدرة على (التفكير الدقيق) غير أن ألواناً من الجهاد تطغى على هذه النهضات، وتكبت هذا النشاط، وتفل هذه القدرة، وتحاول أن تطفئ شعل النور فيها. . .
لقد كنت وقفت منذ حين أرد على الذين أعماهم الغرور في لبنان وغير لبنان، فادّعوا الدعاوي وتقوّلوا الأقاويل وحاولوا أن يغمزوا الأدب المصري وأن ينالوا منه، وأن يتعرضوا لطائفة كبيرة من الأدباء. . . وأنا أجدني اليوم مضطراً أن أقف مرة ثانية موقفاً لا يختلف في حقيقته عن الموقف الأول. . . فنحن في الأقطار الإسلامية الأخرى نؤمن بكل هذه الجهود التي تبذلها مصر؛ ونحن نكبر هذا النشاط الذي يتراءى في أجوائها ساطعاً كالنور؛ ونحن نغذي نهضتنا وأدبنا بكل ما ينطلق من قيثارة شعرائها، وصفحات كتابها؛ ونحن ننعم بهذا العطر الذي تنشره مع النسائم، وهذا الألق الذي تشمه في سموات الفكر. . . ولكننا نريد أن لا نُغفَل هذا الإغفال، ولا نُهمل هذا الإهمال
إن زعامة مصر أمر لا شك فيه. . . وليس ثمة من يناقش في الأمور البديهية المسلمة؛ فلم نخرج بالأمور إلى مفاضلات ومقارنات لا تفيد في تقرير رأي، ولا تنفع في الوصول إلى نتيجة، ولا يكون من ورائها إلا اللغط؟
وبعد. . . فإن لك يا سيدي في قلوبنا حرمة، وفي نفوسنا منزلة، ونحن نحاول هنا أن نحملك على أن تجلو هذا الذي استغلق على الناس، ولقد متعهم بصفحة رائعة؛ ووقفت منهم موقف الخطيب الموفق. . . واهتزت لك أفئدة وتولاّك الإكبار من كل جانب. . . وتهافتت عليك البطاقات معجبة راضية مغتبطة، فتقبلتها باسماً ضاحكاً مغتبطاً. . . فهلا تقبلت معها هذه الكلمة؟. . .
(القاهرة)
شكري فيصل