الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 35/بين الضحك والبكاء

مجلة الرسالة/العدد 35/بين الضحك والبكاء

مجلة الرسالة - العدد 35
بين الضحك والبكاء
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 05 - 03 - 1934


للدكتور احمد زكي

يسر الإنسان لأمر، لمنظر واقع حاضر يُمتْعُه، أو لذكرى طيبة ماضية يسترجعها، أو لفكرة يؤلفّها خياله لا تتصل إلى الكائن الراهن بسبب، فلا يلبث أن ينتقل هذا السرور الذي بروحه إلى جسده، والوجه أكثر أجزاء الجسد تخصصّاً في إظهار الآثار الروحية، والكشف عن انفعالات النفس الخبيثة، وهو يفعل ذلك بقبض العضل وبسطه، وتقصيره وتمديده، وبالتأليف في كل هذا بين مجموعات منه متخالفة. فقد تنبسط الأسارير، وقد تفتر الشفاه، وقد تنفتح انفتاحاً ويصحبها انطلاق الهواء من الرئة واندفاعه إليها بسرعة تزيد على سرعة الزفير والشهيق كثيراً فتحدث القهقهة. وقد ينقلب سرور النفس إلى ثورة تعم الجسد كله.

وقد حاول كتاب تفسير الضحك. قال أحدهم إنك تنظر لرجل تزل قدمه في الطريق فينقسم إلى أجزاء ثلاثة أو أربعة فتضحك لأنك تقرن نفسك به دون قصد، فتحس بالتفوق والعلو، فيسرك (المجد الذاتي الباغت). وردّ (شوبنهور) أسباب الضحك إلى تناقض بين أجزاء الصورة أو تعارض غير مألوف بين معاني الفكرة الواحدة، على أن يكون إدراك ذلك سريعا. وقال (برجسن): إن سبب الضحك أن تتعطل في المضحوك منه الإرادة اليقظة الموجهِّة القاصدة، فيأتيأفعالا لا هيمنة للعقل عليها، ومثل ذلك الزَّلَق وما يحدث من الغافل الذاهل، ومن السكران الذي فقد السيطرة على أعضائه. كل هذه لا شك أسباب تكون للضحك، ولكن لا شك أيضاً أن هناك أسباباً عديدة أخرى ليس من السهل الميسور تحديدها أو تعريفها.

وبقدر ما تتعد أسباب الضحك تتعدد أنواعه، فالضحكة قد تضيق وقد تستعرض، وقد تسرف في الضيق كما تسرف في الاتساع، وقد تتخذ أوضاعا عدَّة بين هذا وذاك، وهي في جميعها ضحكة بسيطة خالصة نشأت عن سرور بسيط خالص. ولكن قد تكون الضحكة عن ألم شديد وحزن عميق يحدث في النفس توتّرا لابد من إرخائه، وتأزّما لابد من تفريجه، وتركزاً في طاقة البدن لابد من تخفيفه، وضغطاً حاراً تحسه في القلب أو بين الأضلاع لابد من انطلاقه، فان كان معتدل الكم انطلق من مخارجه المعتادة، ومن الشؤون ف العيون، وان ضاقت عنه تلك المخارج أو عزَّت طلب سبلا غير معتادة فكان حزناً ضاحكاً، فالضحكات كالدمعات إن اختلفت أصولها فقد اتحدت مراميها

وكما يضحك الباكي فكذلك يبكي الضاحك، فالضحك والبكاء صنوان. كلاهما فيض الكأس عند الامتلاء، كلاهما فضل الطاقة الفسلجية الخبيثة كالتي يفيض بها جسم المحموم عندما تنكسر حمّاه عن قطرات تبكيها مسامّ الجسد العديدة. فان أنت سررت وضاق صدرك بالسرور فلا تكتمه بل أضحك وازأط، وان أمكنك فابك، يسترح جسمك وينتعش ويستفق. وان أنت اهتممت أو حزنت أو داخلك الوجد المضني فابك وأفض وافتح شئونك وُسْعَها، وان أمكنك فاضحك وازأط كذلك، وأنا ضمين لك بالعزاء وبالشفاء

والضحكة قد تمتزج بها عواطف أخرى لا تمت بسبب إلى السرور أو إلى الحزن، فقد تكون ضحكة هازئة، أو ضحكة مرة حاقدة، أو ضحكة غَزِلة

والإنسان في عالم الحيوان أكبر ضحاك، وربما كان هو الضاحك الوحيد، ويقول بعض العلماء الخبثاء إنه أكبر مضحوك منه كذلك ومن الضحك ضحك مَكنْىَ آليّ تثيره الدغدغة وان شئت (فالزغزغة) ولا أظنها كلمة تضيق بها صدور العرب وان ضاقت عنها المعاجم. وهذا الضحك الآليّ لا يعوزه السرور الذي يصطحب الضحك التلقائي ولذا يعود الطفل إلى طلب الدغدغة وقد كان أباها. وذلك لما وجد فيها من الغبطة.

وكذلك الحيوان يتدغدغ فيحس في الدغدغة سرورا وغبطة. ولكنه لا يضحك ولا تجري دموعه منها. فمن الثعابين أنواع إذا مسحتَ أظهرها بأناملك في لطف ورفق سرها ذلك فاستكانت، وان سكتَّ عادت في خشوع تطلب المزيد.

وفي جزيرة سيلان يمسكون التماسيح بالحيلة، وحيلتهم في ذلك الدغدغة. يلوّحون للتمساح بالطعم في الماء، حتى إذا استدرجوه إلى المياه الضحلة، أتاه المروّض فتمتم بعض التعاويذ، حتى إذا اقترب منه دق رأسه بعصا دقا خفيفا متتابعا، حتى إذا تلهَّى تجرأ الصيّاد فركب كتفيه وأخذ يمسح بالأصابع جلده الأسفل اللين، بينما اليد الأخرى تشده بالحبال وفي الملايا يستخدمون نفس الحيلة في أسر نوع من السمك ويسمونه (السمك الأحمق) وهو سمك كبير يعيش على بعد من سطح البحر يتراوح بين العشرة الأقدام والعشرين، وهو يرقد ساكنا فإذا تحقق السّماك من وجوده غاص من قاربه إليه في سكون، وأسرع فوضع يده تحته وأخذ يدغدغه دون زعانفه، فلا يلبث أن يدخل السمك في شبه سكرة من السرور العميق فينقاد طوعا إلى سطح الماء حيث القارب وهو يحتضن الكف التي تدغدغه. ثم يسير به القارب برجاله إلى المياه الضحلة من الشاطئ. فإذا حانت الساعة انهالوا عليه بكل سكين جارح، ومقصل حاد فقتلوه. وكم قتلةجاءت من بعد سرور، وكم لذة خلفت حسرات.

احمد زكي