الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 35/العُلوم

مجلة الرسالة/العدد 35/العُلوم

بتاريخ: 05 - 03 - 1934


في البحوث الروحية

للأستاذ عبد الغني علي حسين

خريج جامعة برمتجهام

- 3 -

أمامي الآن ذلك الكتاب الصغير (كيف ثبت لي خلود النفس البشرية) لذلك العالم الكبير (سر ألفرلدج). كتاب خليق بأن يفتح لرجال العلم ميدان بحث جديد لا يمكن التكهن بمدى اتساعه، فهو يلفت النظر بشدة إلى حقيقة كبرى، تتراءى من وراء ظواهر غامضة، لم يلتفت إليها العلم حتى الآن لما يحف بها من دجل يبدو معه البحث فيها عاراً ومنقصة.

لقد كمن الرجل في ظل العلم بشتى الصور في كل العصور. وقديماً بينما كان آباء الكيمياء الحديثة - جابر بن حيان الصوفي، وأبو بكر الرازي ومن أخذ عنهما من الفرنج - يستنبطون المركبات الجديدة، ويستقطرون الزيوت والحوامض، كان أخوهم الدجال، يزور عباد المال موهماً إياهم باسم الكيميا إن في مقدوره قلب رصاصهم ذهبا، ثم يذهب عنهم وقد استلب ما كان لديهم من ذهب وترك رصاصهم كما هو، فينتبهون بعد فوات الوقت إلى أن الذي يعرف سر صنع الذهب من الرصاص لا يكون بحاجة لعرض خدماته على الناس.

ولكن إذا اجتمع العلم والدجل في ميدان، فهل للعلم أن يهرب؟ كلا. بل عليه أن يغزو.

سلخ لدج في بحوثه تلك زهاء الأربعين عاما، وكون فيها رأياً نهائياً لم يتحول عنه قيد أنملةَ منذ كونه، ولم يفرط في إذاعته وبسطه بمختلف التواليف في صراحة تامة، ومع شيء من التضحية أيضا، فقد تعرض اسمه الضخم للتجريح، وعقله الكبير للاتهام.

قلب معي صفحات تاريخ العلم الحديث. هل ترى نظرية ضخمة جاءت وليدة ساعة أو يوم؟ من المعلوم المشهور أن دارون قضى عشرين عاما تختمر نظريته في ذهنه، وهو يقدم على البوح بها ثم يحجم، ولما أذاعها أخيراً قوبلت بوجوه مستطيلة، وأفواه فاغرة، ولم تتخذ سبيلها إلى عقول الناس بعد إذاعتها إلا ببطء شديد، ولا يزال لها إلى اليوم أعداء متحمسون.

أغلب الظن أننا اليوم أمام نظرية علمية جديدة من هذا الوزن الثقيل، سيتفسر بها الكثير مما يحير اللب اليوم، وحيره في كل العصور، بل ربما أفضت إلى تفسير كل شيء على أساس جديد. نظرية روحية سيقال إن بطلها ألفر لدج. والحقيقة أن النظرية الضخمة لا يتفرد بتشييدها عادة عقل واحد مهما تجبر، وهذه النظرية قد ساهم فيها آخرون لن تكون جهودهم منسية، نخص بالذكر منهم (كروكس) و (ولاس) من علماء الجيل السابق، والعالم الفرنسي المعاصر (شارل ريشيه).

ولكن إذا كانت هناك حقيقة ظواهر من هذا النوع، ينتفي عنها الدجل، وتشعر بأقل أمل في الوصول إلى كشف خطير كالذي يجاهر به لدج، فلماذا نرى جمهور رجال العلم يغمضون عنها عيونهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم كلما صاح فيهم لدج وأهاب بهم؟ هل يعقل أن يوجد ميدان بحث كهذا، جليل النفع، خطير الغاية ثم لا يلجه من العلماء إلا الشاذ النادر، وترفض الاعتراف به المجامع العلمية، وتظل قاعات البحث في الجامعات خالية من كل أثر له؟ لقد عهدنا رجال العلم ككلاب الصيد، تشتم ريح الفريسة من بعيد، فلماذا نرى منهم البرود والجمود في هذا الموضوع؟

هي حال غريبة حقا. ولكن يظهر أن صيحات لدج قد بدأ صداها يدوي في الآفاق العلمية. فقد جاء في عدد 23 ديسمبر سنة 1933 من مجلة نايتشر الإنجليزية (مجلة علمية يعرفها كل مشتغل بالعلوم تمثل الرأي العام العلمي أصدق تمثيل) مقال من قلم التحرير الذي يرأسه (سر رتشارد غريغوري) بعنوان (العلم والبحوث الروحية) نقتطف منه ما يلي: -

(إن الظواهر غير العادية، التي تشاهد في حالة النوم المغنطيسي وفي حالات الذهول والكتابة الأوتوماتيكية ونحوها، قد أصبحت الآن جديرة بالتفات الباحثين من حملة الدرجات الجامعية. . . . إن الحاجة إلى البحث الصريح الجريء في تلك الظواهر لتزداد يوما عن يوم. . . . من الواضح الجلي أن تبعة عدم الوصول إلى تعليل لتلك الظواهر تقع على عاتق الهيئات العلمية الرسمية. . . . تلك الظواهر الغامضة الخارقة للعادة قد أصبحت من مواد البحث الجدي في كثير من المراكز العلمية بأوربا وأمريكا، وقد حان الوقت على ما نظن لأن تعد العدة لمثل هذا البحث في بريطانيا. . . . لا يتسربن إلى الذهن أن أي جامعة تعترف بهذا الموضوع الواسع الغامض، ستجد في الخطوة التي خطتها مساسا بكرامتها، بل العكس، ستكون إرادتها الحرة في خدمة العلم وتقدمه سبباً في ازدياد قدرها كمركز للتقدم المستنير.)

نغمة جديدة، واتجاه فيه الخير حتما، سواء أأفضى إلى النتيجة المتوقعة أم إلى غيرها، لأن نتائج البحث العلمي الصحيح لها دائما قيمتها. والآن نورد مثالا من المشهدات التي تعرض كثيرا للعلماء القليلين المشتغلين اليوم بهذه البحوث.

في سنة 1903 تلقى السر ألفر لدج من صديقه الأستاذ شارل ريشيه رسالة فحواها أنه في الليلة التي قتلت فيها ملكة الصرب وأخواها في بلغراد كان الأستاذ ريشيه مجتمعا بوسيط وبعض الأصدقاء في جلسة روحية بباريس، وكانت حروف الهجاء تملى عليهم بطرقات على المائدة. فبعد ورود عدد من الرسائل العادية بدا من القوة المتسلطة على المائدة اهتمام وإلحاح، وأمليت الحروف الآتية بطرقات أعلى من المعتاد عندئذ توقع ريشيه أن تكون الرسالة باللاتينية، واستمر الإملاء وجاءت الحروف الآتية ولم يجد ريشيه في الرسالة أي معنى، ولكنه استمر في التدوين آليا، وكانت الحروف الباقية ولم يكن يفهم من هذه الرسالة سوى أنها تشير إلى عائلة ما. ثم لاحظ ريشيه بعد ذلك أنه يمكن تقطيعها إلى كلمات هكذا (بانكا الموت كامن للعائلة.)

هذه الرسالة وردت في يوم الأربعاء 10 يونية سنة 1903 الساعة 10 والدقيقة 30 مساء. وبعد يومين كانت الصحف الفرنسية غاصة بخبر مقتل الملك إسكندر وزوجته الملكة (دراجا) وأخويها في بلغراد. ومن بين ما ذكرته الصحف ان والد الملكة توفى من عهد غير بعيد وكان اسمه (بانسا) وقد دهش الأستاذ ريشيه عندما رأى هذا الاسم في الصحف. ولاحظ اتفاقه مع الكلمة الأولى غير المفهمومة في الرسالة والخطأ الوحيد هو إملاء بدلا من

وبالبحث علم ريشيه ان القتل حدث بعد منتصف الليل بقليل، فهو في وقت ورود الرسالة لم يكن قد وقع بعد. ثم علم ريشيه ان الساعة 10 والدقيقة 30 في باريس توافق منتصف الليل في بلغراد. وهو الوقت الذي غادر فيه القتلة فندق (لا كورون دي سريا) لارتكاب الجريمة المروعة. إذن فكلمة تناسب الظروف تماما، إذ تشعر بقط يتحفز للوثوب على فأر. ولم تكن لتناسب الظرف لو أن الرسالة وردت بعد حدوث القتل، أو وردت قبله بزمن طويل

وفي يوم الخميس 11 يونية الساعة 2 مساء ورد الخبر إلى باريس ولم يطللع ريشيه على تفاصيله إلا يوم الجمعة.

تلك هي الرسالة وظروفها. والطريقة التي أخذت بها تعد أبسط تجربة روحية. وهي أن تجلس عدد من الأصدقاء أو الأقارب حول منضدة: ويكون بينهم وسيط، ثم يضعوا أيديهم على المنضدة بخفة، فتسمع على المنضدة طرقات لا شأن لأي واحد من الحاضرين بأحداثها. عندئذ تتلى الحروف الأبجدية فتسمع طرقة عند النطق بكل حرف ما عدا الحرف المراد إملاؤه، فيدون، وبعد الانتهاء تقسم الحروف إلى كلمات.

كيف نعلل حدوث هذا الطرق على المائدة؟ أقرب تعليل له هو أن الوسيط يحدثه بطريقة شعوذية لا يتبينها الحاضرون. ولكن لو سلمنا بأن الوسيط هو الذي يحدثه عمد، كيف نعلل ورود رسالة كهذه التي ذكرناها؟ كيف علم الوسيط بوجود المؤامرة لاغتيال الأسرة المقتولة وحلول وقت التنفيذ؟ إن سر هذه المؤامرة كان بطبيعة الحال مصونا أشد صيانة، ولولا ذلك لحبطت، فبعيد أن يكون الوسيط على علم بها وهو في باريس.

يعلل لدج هذه الظاهرة بأن واحداً ممن ماتوا وكانوا يشاركونه هو وريشية بحوثهما قد انتهز هذه الفرصة ليضع أمام ريشيه دليلا على الاتصال الروحي.

أما ريشيه فمع اعتقاده بانتفاء الشعوذة من هذه المشاهدة ومثلها بالنسبة لما يتخذه من التحوطات، لا يذهب في تفسيرها فذهب لدج بل يعزوها إلى انتقال الفكرة من عقول القتلة في هذه الحالة إلى عقل الوسيط بطريق التلباثي، ثم طرق المائدة بقوة مستمدة من العقل الباطن للوسيط.

ريشيه يرى وجوب البحث الجدي في تلك الظواهر، وجمع المشاهدات ووصفها بدقة علمية، ولكنه لا يرى التعجيل بنسبتها إلى مصدر روحي ولدج يرى أن مشاهداته الخاصة قد تركته على تمام اليقين من وجود المصدر الروحي. أما الذي لا خلاف بينهما عليه، فهو أن هناك ظواهر نفسية وآلية شاذة غريبة تتطلب جيوشا من الباحثين.

عبد المغني علي حسين خريج جامعة برمنجهام