الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 348/فداء الصلح

مجلة الرسالة/العدد 348/فداء الصلح

بتاريخ: 04 - 03 - 1940


أبو جندل سهيل بن عمرو

للأستاذ شكري فيصل

جلس أبو جندل بن سهيل بن عمرو في غرفته، وقد طغى الليل على مكة، فلفها برداء من الصمت والسكون؛ فما تسمع فيها إلا همسات الريح، وحديث النجوم؛ وحفيفاً خفيفاً تبعثه أشجار النخيل من أعماق الوادي، كأنها بث الشكاة، أو نجوى المحبين

واستسلم الفتى الجريء إلى نفسه؛ وأسلس قياده إلى الذكريات تحمله على جناحيها الرفيقين. . . فتخرج به من هذا الأسر الذي أراده له أبوه، واضطره إليه، لتطوف به في دنياه الحبيبة من الأرض، حيث يشرق النور، وتشع الهداية، ويتنزل الوحي، ويعيش النبي الكريم في طائفة من المهاجرين المجاهدين، والأنصار المدافعين، والصحابة الذين آمنوا بهذا الدين؛ فوهبوا دمهم له، وهجروا عشيرتهم من أجله. . .

وعرضت لعينيه صور، وتدافعت في نفسه أخيلة؛ واتقد في قلبه الحنين؛. . . وبكى. . . بكى لأنه بعيد عن رسول الله؛. . . وأين منه يد رسول الله تمسح آلامه، وتبارك إيمانه، وتشع في قلبه الراحة والهدوء؟!. . . إن بينه وبينه لآماداً بعيدة؛ ولقد صدوه عن هجرته إليه، وأقاموا من دونه الأرصاد والرقباء؛ ورموا به في هذه الغرفة الضيقة، لا يملك أن يخرج منها أو ينصرف عنها

وتناثرت دموعه على خديه، كقطرات الندى الناعمة. . . فبللت الشعرات المبعثرة على أطراف وجهه، وفي أسفل ذقنه، على غير نظام، كالنبت السائب. . .

ومضى في هذه التأملات العميقة، واستغرق فيها. . . وعاش ساعاً من الزمن، في دنيا الذكريات، وظلال النبوة، وعبق الإسلام. . . وأحس النشوة تجري في عروقه، وتسري في دمه، ورفع بصره إلى السماء، يسأل الله العافية في دينه أن يفتنه عنه أهله وذوو قرباه. . .

ولم يطل به هذا السكون، فقد سمع حركة خفيفة في صحن الدار؛ فقام يسترق الخطو إلى النافذة. . . فإذا فتاة في ريق الشباب ومقتبل العمر، تشق ظلام الليل باشراقتها الرائعة، فيرى لعينيها بريقا، ولجبينها وضاءة، وإذا هو يتحسس في صوتها صوت أخته، فيقبل على الباب يفتحه؛ وما يلبث أن يتبينها حتى يرتمي يقبلها، وترتمي تقبله، في حنان الأخوة، واتقاد العاطفة؛ وحماس الحب

لشد ما كان يذكرها في أيامه ولياليه!. . . فقد أنس ألواناً من وفائها الحنون، وبرها الجميل؛ حين كان يشتد عليه أذى أبيه، سهيل بن عمرو، فيدفع به إلى رمضاء مكة؛ في لهب الظهيرة واشتداد الهاجرة، مع طائفة من المستضعفين يكتوون باللظى المشبوب، ويلتوون فوق الرمل المكروب، ويذوقون أصناف العذاب الأليم، ليرتدوا عن هذه البدعة التي ابتدعها محمد، فما يزيدهم ذلك إلا إيماناً فوق إيمانهم العتيد

ويجلس إليها. . . ويلقى إليها برأسه، فتمر عليه بيديها الناعمتين، تهدهد أحزانه، وتكفكف أشجانه، وتبعث فيه العزم

ويسألها عن أبي بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وعن أم كلثوم أخت الوليد، وعن فلانة وفلان، من جيرانه وإخوانه. . . هل ثبت الله أقدامهم، فصبروا على العذاب، وصمدوا للفتنة؛ وسكتوا على الإهانة؟!. . . ويستنطقها خبر (يثرب) والنبي؛. . . وهذا النور الذي يغالب الظلمات، ويكافح الضلالات ويخترق السحب. . . ما شأنه؟!!. . . ألم تلمح سناه في أفق مكة؟. . . ألم تر بريقه في سماء البيت الحرام؟. . . ألم يبلغ بعد هذا الوادي غير ذي الزرع؛ فينبت في حفافيه الإيمان؛ وينشر في أجوائه الرحمة؛ ويفجر من حجارته الصلدة القاسية ينابيع الخير والحكمة؟. . .

وتتحرك نفسه لهذا الأمل الخاطف يلمع في خاطره، وهذه الأخيلة الفاتنة تداعب روحه الحزين، فيهتز هزة الواثق المطمئن ويتحرك. . . فتسمع لحركته أصوات الأغلال في رجليه. . . فتذعر أخته، ويتملكها الخوف، وتخشى أباها أن تصل إلى سمعه هذه الحركة في هدأة الليل فيكشف من أمرها ما أخفته عنه وتطلب إلى أخيها أن يستقر في مكانه فإن لها معه لحديثاً؛ وإن الكلام ليتدفق في فمها فلا تعرف كيف تبدأ

وينصت أبو جندل إلى أخته، وقد أحس هذه الكلمات تتواثب على شفتيها؛ وأدرك أن وراء هذه الزيارة المفاجئة في حلكة الظلمة وامتداد الليل لأمرا جللا. . . فلعل الله جاعل له فرجا. . . ولعل السماء قد أنصتت إلى صلواته الخاشعة في ساعات النسمة الهادئة

وتلتفت أخته هنا وهناك. . . كأنها تخشى الرقباء؛ ثم تنهض إلى النافذة، وتلقي نظراتها التائهة على غرف البيت وصحن الدار، وتجلس لتحدثه في همس رفيق: - إن مكة يا أخي لتنام منذ أسبوع في مهاد من القلق، وإنها لتتقلب على الشوك. . . فما تدري ما هي صائرة إليه. . . لقد نمى إليها أن محمدا غادر المدينة (وأنه استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه)؛ وأنه سار نحوها في سبعمائة رجل. . . يقول إنه يريد زيارة البيت. . . فما تصدقه قريش في دعواه

وتنبسط أسارير أبي جندل. . . وتملأ شفتيه ابتسامة عريضة وتتواثب الآمال في صدره؛ وتتراءى له هذه الجموع في طريقها إلى مكة، ويهم ينادي: (الله أكبر). . . ولكن أخته لا تلبث أن تضع يدها على فيه، تسأله أن يكتم الفرحة الطافرة، ويكبت الصيحة الظافرة؛ ويخفي هذا المرح الشديد. . . فما يرضيه أن يسلط عليها سهيل أبوه سوط العذاب

ويتظاهر أبو جندل بالخضوع للرجاء، ويتمنى عليها بقية الحديث، ويسألها:

- وماذا فعلت قريش يا أختاه؟

- لقد خرجت حين سمعت بمسيره بالعوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا يدخلها عليهم أبداً، فلما رأوا أن النبي قد خالفهم عن طريقهم رجعوا منذ أيام إلى مكة، واستقبلهم الناس في فتور، وما أدري ماذا صارت إليه خيل قريش يا أخي. . . لقد كانت زاهية فخورة، تقرأ في وجهها النصر، فإذا هي اليوم كالحة كابية، ليس لها ذاك الزهو، ولا تلك الإشراقة النيرة. . . ترى ألست معي في أن ذلك هو أول الانحلال ومبدأ التراجع، وطلائع الفتح المبين الذي نترقبه من بعيد؟!

- بلى يا أختاه. . . لينصرن الله محمداً ودينه. . . ثم ماذا كان؟

- لقد أوفدت قريش رجالها إلى النبي تستوضح نياته، وتتفهم غاياته، وتسبر أغواره. . . ولقد رجع هؤلاء الرجال يلهجون بذكر محمد ويقولون إنه (كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وأنهم لم يرو ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه) ويتحدثون عنه أبرع الأحاديث، ويكبرون حجته، ويخشون قوته، ويعجبون ببيانه. . . فلقد قال لبديل إبن ورقاء حين جاءه مع وفد من خزاعة: (انه لم يأت يريد حرباً وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته) وأقبلت علينا خزاعة تقول: (يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد. إن محمداً لم يأت لقتال)

ولكنك تعلم عزة قريش، وهذه العصبية التي تعصف في نفسها، وهذه الحمية التي تتأجج في صدرها، وهذه الزعامة التي تتبوأها من العرب. وقد خشيت لذلك أن يتحدث الناس فيقولوا إن محمداً دخلها عليهم عنوة. . . فلم يطمأنوا إليه، ولم يسكنوا إلى غايته البريئة، فاتهموا وفد خزاعة وجبهوهم. . . ورأيتهم اليوم يتداولون الرأي، ويتبادلون المشورة، ويعقدون المجالس. فهذا أبوك يذهب إلى أبي سفيان؛ وهذا أبو جهل يسير في وقدة الظهيرة، فينتقل من بيت إلى بيت، وقد ركبه الغم وغشاه القلق، وعلت جبينه كآبة المهموم

- يا للبشرى يا أخت عبد الله! من لي بجناحين أطير بهما من هذا الأسر. . . فأكون مع النبي في عمرته وزيارته؟! فأين هو الآن يا أختاه؟. . .

- إن محمداً وصحبه في (ثنية المرار) يا أبا جندل. . . وإنهم الآن إلى جانب تلك الشجرة الضخمة القائمة هناك. . . ألا تذكر لقيانا إياها في البكور والأصائل. . . والتجاءنا إليها في الظهيرة والضحى حين كنا نمر بها في طريقنا إلى الوادي. . . صغيرين نقسم باللات، ونقدس العزى، ونعبد الأصنام. . .؟! لقد وهبنا الله عقولنا، وبث فيها النور،. . . فآمنا. . . ولن يضيع الله إيماننا يا أخي. . . وسنجتمع إلى النبي، وسنصلي معه، وسنقرأ القرآن. . . وما أحسب إلا أن وثنية مكة تتضيف للأفول. . . وأن ظلامها سينجاب. . . وأن جبالها ستطفح بالنور الذي يملأ الأرض. . . فلقد اضطرب فيها الأمر فقام الحليس بن علقمة سيد الأحابيش يهدد قريشا فيمن يهددها، ويقول في البيت الحرام بملء فيه: (يا معشر قريش. . . والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظماً له. . . والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفِرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. . .)

- وهل خضعت قريش لهذا التهديد؟

- إن قريشا لا تدري ما تدع وما تأخذ يا عبد الله. . . وهي منقسمة مختلفة فيما بينها، لا يستقر لها رأي، ولا تستقيم لها خطة. . . وهذا (أبان بن سعيد بن العاص) يجير عثمان بن عفان رسول النبي، وقد وصل مكة اليوم. . . وصافحت عيناه أرضها بعد هجرة سنوات، وجاء يبلغ رسالة محمد إلى أبي سفيان وعظماء قريش. . . فتحتبسه قريش عندها، وتعقد ندوتها. . . ويخرج أبوك منذ الصباح الباكر. . . فلا يعود إلا مع الشعاعات التي كانت تودع المدينة، لتنام في أحضان الأفق. . . ويدخل غرفته لا يكلمنا ولا يتحدث إلينا. . .

ويستدعي أمك يطلب إليها أن تسرج فرسه، وتجمع بعض متاعه، فهو مسافر غدا إلى النبي في ثنية المرار

وتنتصب الفتاة قبل أن تنتهي من كلماتها الأخيرة. . . ويتطلع إليها أبو جندل، فيرى وجهها من جديد على أنوار القمر الضئيلة التي اخترقت النافذة العتيقة، فيود لو أنها بقيت إلى جانبه تؤنس وحدته وتطرد وحشته. . . ولكن الليل مضى إلا أقله. . . وهذا غبش الفجر في طرف السماء، وما من شك في أن أباه سيبتدر الصباح، وسينهض مبكراً ليبلغ النبي قبل أن ترتفع الشمس؛ وقد يمر به ويفتقده قبل غدوه، فليحرص على ألا يرى أثر أخته عنده. . .

وتقترب الفتاة من أخيها. . . وتلامس شفتاه جبينها الوضاء ويطبع عليه قبلته كأنما يشكر لها فيها هذا الحديث الشائق، وهذه البشرى الحلوة. . . ويهم بتركها لولا أن عارضاً مر بخاطره. . . لم لا يهرب من الأسر؟. . . إن أخته لتستطيع أن تعينه بما لها من حيلة، وإن فيه لبقية من عزم لم تأت عليها هذه القيود، وإن في قلبه لإيماناً يدك الجبال. . . وإن كبده الحرى ليذيبها الحنين إلى النبي والى الجهاد. . . وإن أباه ليسافر غداً؛ وستنزاح هذه الغمة الثقيلة التي تظلل سماءه فتفيض فيها الكآبة والعبوس

وتتضح هذه الفكرة في رأسه وتتكامل صورها وأجزاؤها. . إن النبي قريب من مكة، فليمض إليه وليسع نحوه ليجد في كنفه الراحة والإيمان والخلاص

ويهمس في أذن أخته هذه الكلمات. . . ويسألها في ضراعة ورجاء أن تعينه؛ فقد سئم هذه الحياة الصعبة وبرم بالقيد الغليظ، وإن الله لمنجيه. . . والنصر قريب فلن يلحق بها هي عذاب

ويبيتان الأمر. . . وتنصرف إلى غرفتها، وينصرف إلى فراشه. . . وينام. . . ملء عينيه الأحلام المخضلة، وملء رأسه الأماني الندية

وفي أصيل اليوم التالي كان النبي صلوات الله عليه في مجلسه مع سهيل بن عمرو، وبين يديه علي بن أبي طالب يكتب صلح الحديبية، وإلى جانبه أبو بكر وعمر وعبد الرحمن وسعد؛ وقد تناثرت في السماء قطع من السحاب الخفيف كأنها حمامات السلام البيضاء. . . وغشى الأفق لون وردي جميل من أثر الشمس المتضيفة، وكان يحس الناظر في جانب من جوانبه كتلة نور لا يستطيع أن يحدق فيها. . . والنسيم يروح خفيفاً هيناً يحمل السلام إلى كل نفس والهدوء إلى كل قلب. . . وجماعات الصحابة تقوم لوضوئها، وتستعد لصلاتها، وتنعم بهذه الهداية الخالدة

في تلك الساعة سمع الناس جلجلة قيود، وأصوات أغلال؛ وأبصروا. . . فإذا شبح لا يبين. . . حتى إذا اقترب رأوا فيه (أبا جندل) يرسف في الحديد؛ وقد انفلت إلى رسول الله ﷺ يطلب جواره الأمان، ويرجو السلام، ويبغي الحياة لله ورسوله. . . فيقبلون عليه بقلوبهم وأفئدتهم. . . وعيونهم تفيض من الدمع

ويدرك النبي الكريم كل شيء؛ وينتفض انتفاضة لا يحسها غير أبي بكر في جواره. فقد كان نفذت منه قوله: (هذا ما عاهد عليه رسول الله سهيل بن عمرو. . .) فماذا هو فاعل في أبي جندل؟

ويرى سهيل ابنه أبا جندل، فيقوم إليه (يضرب وجهه ويأخذ بتلبيبه) والمسكين ينظر إلى رسول الله وينادي: (أأُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟. . .)

ويخفق قلب النبي الرحيم وتطرف عيناه ويغشيهما الدمع؛ ويغمض جفنيه يحبسه أن يتذارف، وتتراءى له في هذه الإغماضة الخفيفة أنوار (جبريل)، وتنتشر من أمامه صفحات المستقبل ويبرز له يوم الفتح وقد أقبل (سهيل) يطلب جوار ابنه ويحتمي به، ثم تعرض له صورة سهيل بعد ذاك (كثير البكاء، رقيقاً عند قراءة القرآن) وتظهر له الجنة في خاتمة هذا الطواف وأبو جندل وسهيل أبوه إلى جنبيه، قد خرجاً من الدنيا شهيدين فيسري عنه، وتخالط أحزانه ابتسامة حلوة، ويتمتم بكلمات صامتة، ويقول:

(يا أبا جندل. اصبر واحتسب. فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم)

ويخالط الجزع قلوب المسلمين، وتمتلكهم الروعة؛ ويداخلهم الهم لمصير أبي جندل. . . ويقف هذا الشاب يتفرس في الوجوه، وقد اطمأن إلى وعد رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى. . . وتراءت له أيامه القريبة الغر، وقد انفلت من الأسر، وانضوى تحت راية الجهاد. . . وتبرق في نفسه بارقات الأمل، وينصرف بعد أن يقبل يد النبي، ويدس رأسه في صدره

ويثب عمر بن الخطاب إلى جنبه وهو يقول: (اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب)

ثم لا تكون إلا لحظات. . . حتى يغيب الليل في برده الحالك هذا الفتى الصابر. . . فترتد عنه عيون الصحابة، ولكنها تظل تفكر فيه، وتتبع خطوه، وتتساءل عنه. . . ويسير هو إلى مكانه من البيت، والى موضعه من القيد، وإلى عذابه من المشركين

(القاهرة)

شكري فيصل