مجلة الرسالة/العدد 348/الله أكبر! هلكت خيبر!
→ فداء الصلح | مجلة الرسالة - العدد 348 الله أكبر! هلكت خيبر! [[مؤلف:|]] |
من سجل البطولة ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1940 |
للأستاذ أحمد التاجي
(خرج النبي من المدينة لغزو خيبر في بقية المحرم من السنة
السابعة وفتحها في صفر)
- 1 -
مر (كنانة بن الربيع) على (حيي بن أخطب) سيد بني النضير فرآه واجماً ينكت الأرض بعود في يده ثم يصعد الطرف بين الفينة والفينة في حصون خيبر
فقال كنانة: أرى هذه القرية قد راعتك بحصونها، وحلت من فؤادك محلاً. طبت نفساً وطابت خيبر!
قال حيي: وكيف تطيب نفسي؟ وهانحن أولاء منذ ثلاث سنوات نعيش في غير أوطاننا مشردين في الآفاق! ونحن الذين بنينا (يثرب) بأيدينا، فأصلحنا أرضها، وأجرينا ماءها، وغرسنا جناتها، وأقمنا حصونها؛ وترانا اليوم ننزل في غير دارنا، ونأكل من غير زادنا، لأن محمداً افتتحها علينا، وأخذها عنوة منا!
لله تلك الأيام العزيزة التي قضيناها هناك أعزاء أشداء!! كنا نقاتل الأوس بالخزرج، ونقاتل الخزرج بالأوس، ونسعر نيران العداوة بينهما ونمدهما بالأسلحة ويمدوننا بأموالهم فما يزالون في تناقص وفناء، وما نزال في نعمة سايغة، وسيادة دائمة.
ولكن جاءنا ذلك الساحر الطريد، ففرقهم عنا ونفر موالينا ولا ندري كيف جمع بين قلوبهم الفائرة، وغسل أحقادهم الثائرة وشفى جراحهم الناغرة، وجعلهم أمة واحدة يأكل بهم يهود والعرب
قال كنانة: ولكنا أحسن حالا من بني عمومتنا فلقد أخذنا من أموالنا ما تحمله دوابنا ونزلنا بخيبر هذه القرية ذات البروج المشيدة فأوينا إلى ركن شديد. أما بنو قينقاع فيا حسرتاه على ما أصابهم، فعندما أخرجوا من المدينة قصدوا (أذرعات) فتناولتهم أوبئة الشام، فما انقضى الحول على نسمة تحت الشمس منهم!
- ونسيت (قريظة) إن قلبي ليطفح بالنيران كلما ذكرتهم! ماذا جنوا حتى يحكم محمد السيف في رقابهم؟ ويح يثرب! خلت من يهود!
- وكأنك أنت الذي جنى عليهم يا حيي، حركتهم ليثوروا على محمد وينبذوا له عهده. وأطعمك في ذلك اجتماع الأحزاب عليه، ولكنه سرعان ما خذل الأحزاب. وفت في عضدهم، وسرعان ما انقلب محمد على بني عمنا، فشفى غيظه منهم
- أجل؛ وما أردت أن يطعن محمد بخنجرين، أقتلهما الذي يأتيه من وراء ظهره! ولكني كلما دبرت كيداً أبطله بسحره، وكأنه ملهم يوحى إليه!!
- أو تشك في أنه النبي؟! وأنت من أهل العلم والكتاب
- كلا، ما ارتبت فيه. ولكنه جاءنا من العرب وحسبناه من إسرائيل! كيف نتبعه فيعلو به أجلاف الأعراب على أهل الكتاب؟ لا ورب موسى لا نلقى إليه انقياد أبدا، وسنظل على بغضه وحربه حتى نفنيه أو نفنى دون ذلك.
- أتظن الرجل الذي خضعت قريش له وطلبت منه السلام في (الحديبية) ينكسر لنا؟ ما أظنه أسكت قريشاً إلا ليثور علينا وعلى قبائل العرب. أليس هو الذي يقول:
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا كلمة الإسلام فإذا قالوها حقنوا مني دماءهم)
- ولكن قريشاً لم تقلها
- ستقولها يوم أن يجلب عليها بخيله ورجله، ويخيرها بين الكلمة أو السيف
- ونحن أيتركنا ههنا؟
- أخاله سيتعقبنا
- أو بلغك نبأ؟
- أما من محمد فلا؛ كيف يدري الناس من أمره شيئاً وهو حول قلب؟ إذا أراد أن يحارب شمالاً أتجه جنوباً!
- ومن أدراك إذن بما تقول؟
- إنها رؤيا رأتها بنتك التي تحتي فأولتها
- صفية بنتي! إنها لترى وكأنها ترى بعينيها! ماذا رأت الخبيثة؟
- كأن قمراً من السماء سقط في حجرها
- إنه وايم الحق محمد! - 2 -
لا هُمَّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا ... وألقينْ سكينةً علينا
وثبّتِ الأقدام إن لاقينا ... إنا إذا صيح بنا أبينا
وبالصياح عوّلوا علينا
على توقيع هذا النشيد المطرب، وترجيع صوت الحادي اللين سارت قافلة المسلمين تحت ظلال الراية البيضاء تتبع محمد إبن عبد الله، وما زالت تصعد وتهبط حتى تراءت للعين حصون خيبر شامخة تشق السماء وقد لفها غلس الدجى، وعلى قيد أميال منها وقف النبي يتأملها فوقف الركب معه، فرفع يديه يناجي ربه ويقول:
(اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها؛ ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها)
وأمضى المسلمون ليلتهم على مرأى منها، فلما أصبحوا قام النبي يقول:
(ألله أكبر، الله أكبر، هلكت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
وانطلق المسلمون يكبرون، وكأنهم كلما رفعوا بالتكبير أصواتهم، بالغوا في إظهار إخلاصهم لبارئهم، وإن من الجبال لما يهتز لتكبيرهم ودعائهم، وإن منها لما يتصدع من خشية الله
فقال لهم النبي: (اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم)
وخرج عمال خيبر إلى مزارعهم فراعهم جيش المسلمين فرجعوا إلى أهلهم يصيحون:
- محمد والخميس!
وفزعت خيبر وأغلقت أبوابها، وظل المسلمون يحاصرونها ويضيقون عليها. ومن برج مشيد أطل (حيي بن أخطب) على جيش المسلمين فرأى الراية البيضاء في يمين (علي بن أبي طالب) فكأنما رأى ملك الموت يدلف إليه، فقال:
- تبا لكم! ألا فتى غير هذا يحمل اللواء؟ والله ما ذقنا العذاب إلا تحت لوائه؟
أخرجنا من بيوتنا بيثرب، وهاهو ذا جاء يخرب قريتنا!!
فلمحه الإمام يتكلم بصوت خفيض، فقال له:
- ماذا تقول يا عدو الله؟!
قال حيي: وماذا تريدون منا - معشر المسلمين - ألم يكفكم أن أخرجتمونا من ديارنا وأموالنا؟ فجئنا وحططنا رحلنا بهذه القرية، فما كدنا نستنبت ريشنا بعد أن قصصتم أجنحتنا حتى جئتم إلينا بخيلكم ورجلكم، فإلى أي أرض نهرب من شركم؟!
قال علي: ألست يا عدو الله الذي جمعت علينا الأحزاب من كل فج، فصرنا في أضيق من كفة الحابل، ولم تكتف بذلك حتى هجت قريظة فنبذوا إلينا عهدنا في ساعة العسرة فوقفنا بين شقي الرحى. وحسبت أنك بذلك قضيت علينا، ولكن الله ربنا مشتت شملكم، وكتب على أيدينا قتلكم
قال حيي: إنكم لن تصلوا إلينا، فأنتم في الأرض ونحن في السماء، إن سهمكم لن يخرق حجراً، وخيلكم لن تكون طيراً. فامكثوا ما شئتم وإن لنا في كنوزنا وخيراتنا لسعة
قال علي: أتحسب أن حصونكم ما نعتكم؟! إن الذي دك الجبل تحت أقدام موسى هو الذي يخسف بها الأرض. فنلتقي على سواء وكأني بكم يا بني النضير بعد ليال، فطاحت رؤوسكم، وأصبحتم طعمة للطير والسباع فأسلموا تسلموا
قال حيي: لن يأخذ منا وعيدكم شيئا
قال علي: وأنتم لا تعجزون لله، يا خيل الله اركبي!!
واستمر المسلمون أياماً يحاصرونهم، فلما أجهدوهم نزل اليهود إليهم يبارزونهم، فدارت الدائرة عليهم فأسرت رجالهم، وسبيت نساؤهم وذرياتهم
قال علي لحيي وهو مقدم للقتل: أأغنى عنك حصنك شيئا؟ لولا أويت إلى ركن شديد!
قال: وما هو؟
قال: ربك الذي نسيت، ودينه الذي أنزل! ونبيه الذي أرسل!
قال: خذ رأسي إن كانت لك به حاجة
قال: أجل، إن السيف ليضحك حينما يحز رقاب أعداء الله وتقدم (دحية الكلبي) إلى صفية بنت حيي وقال لها:
تعالي يا ابنة حيي! لقد وجدت فيك عروسي التي أنتظرها فأمسك بيدها، فانفلتت منه كالمهرة العربية وقالت له:
ومن تكون أنت؟
قال: رجل من بني كلب
قالت: لست هناك! مالك وسيدة قريظة والنضير؟!
قال: ومن تنتظرين؟
قالت: القمر المنير!!
قال: أتطمعين في رسول الله!؟ لشد ما خدعتك نفسك، وحدثتك الأماني. أبعد علج من علوج يهود تطمحين إلى الطاهر الطيب؟!
قالت: إن الكريمة كفء الكريم
وسمع النبي بحديثها فاختارها لنفسه زوجا وجعل لدحية بنت عمها. . .
و ($) النبي بعد أيام بها، وهو في طريقه إلى المدينة تحت قبة ضربت لها. فلما انبثق نور الفجر وخرج النبي لصلاته، رأى (أبا أيوب الأنصاري) متوشحاً سيفه قريبا من بيته
فقال له: مالك يا أبا أيوب؟
قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة وهي امرأة قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك
فقال النبي: (اللهم احفظ أبا أيوب كلما بات يحفظني)
وحدث صفية بذلك فقالت:
ولله يا رسول الله لأنت أعز علي من أبي وأمي وأنا على دينك
- 3 -
وبانت قريش بمكة أخبار الرسول مع خيبر، وتمنت أن تدور الدائرة على المسلمين، فتكفيهم يهود شر قتالهم، وبينما كانوا يرصدون الطرق لعلهم يقفون على خبر يبل غلتهم، ويطفئ أوار غيظهم رأوا قادماً في شملة أعرابي من بعيد فتبينوه فإذا هو (الحجاج بن علاط السلمي) قالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر!
قال لهم: وما ذاك؟
قالوا: بلغنا أن القاطع خرج إلى خيبر وهي بلد يهود وريف الحجاز
- بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم
- إيه يا حجاج!
- هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، واسر محمد أسراً، وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم
فصاحت قريش طربا، وقالوا لأنفسهم: قد جاءكم الخبر! وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم، فيقتل بين أظهركم
قال الحجاج: فأعينوني على جمع مالي بمكة، وعلى غرمائي فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك
قالوا: لك ما تحب وترضى، وأعانوه حتى جمع ماله كله
فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر جاء الحجاج وهو جازع وقال له:
- ويحك يا حجاج! ما تقول؟
- أكاتم أنت على خبري؟
- إي والله!
- فالبث على شيئاً حتى يخف موضعي، ثم سار إليه العباس فقال له الحجاج: الخبر والله على خلاف ما قلت لهم، خلفت رسول الله؛ وقد فتح خيبر، وخلفته والله معرسا بابنة ملكهم؛ وما جئتك إلا مسلما.
ولكن قريشا تحسبني لا أزال على دينها فاطو الخبر ثلاثا، حتى أعجز القوم. ثم أشعه، فإنه والله الحق
قال العباس: ويحك! أحق ما تقول؟
- إي والله
- ولكنك كذبت الناس، ودينك لا يسمح بالكذب - استأذنت الرسول في أن أقول فأذن، وكانت حيلة لأجمع مالي وأخرج من بين أظهرهم إلى غير رجعة. والآن أذهب
- على عين الله
فلما كان بعد ثلاثة أيام تخلق العباس وأخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت
قالت قريش: يا أبا الفضل! هذا والله التجلد لحر المصيبة
قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد فتح محمد خيبر وأعرس بابنة ملكهم، وأحرز أموالهم
قالوا: ومن جاءك بهذا الذي تزعم؟
قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً، فأخذ ماله، وانطلق لمحمد وأصحابه ليكون معه
قالوا: يا لعباد الله! أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن! أولى له! انفلت عدو الله!
قال العباس: الله أعلم بعدوه ووليه. . .!
أحمد التاجي