مجلة الرسالة/العدد 348/ذكرى الهجرة النبوية
→ من الإلياذة الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 348 ذكرى الهجرة النبوية [[مؤلف:|]] |
الإسلام دين النضال ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1940 |
للأستاذ محمد فريد وجدي
لا يذكر ذاكر الهجرة إلا ذكر القرآن والإسلام ومحمداً، وهي ذكريات حافلة بالأحداث، موقرة بالانقلابات التي تعتبر مبدأ انتقال عالمي لم يسبق للعهود البشرية أن مر بها مثله.
نعم لأن الانتقال الذي أحدثه الإسلام في جزيرة العرب لم يقتصر عليها، ولكنه تناول العالم كله إما مباشرة وإما بواسطة فكان أثره أبعد أثر سجله تاريخ العلم الاجتماعي للإنسانية من لدن نشأتها إلى اليوم
انتقال في فهم معنى الدين، انتقال في إدراك حقيقة العبادة، انتقال في تعيين أهداف الاجتماع، انتقال في اعتبار مكانة العلم، انتقال في الاعتداد بسلطان العقل، انتقال في تقرير حقوق الإنسانية، انتقال في إقامة الحقوق الطبيعية، انتقال في تحديد معنى المساواة والعدل
انتقالات ذريعة في كل ضرب من ضروب الشؤون الإنسانية سرت إلى العالم كله بتقلب المسلمين في البلاد، فأثرت في مجموع البشرية تأثيراً لا يشتبه بغيره من الانتقالات الأدبية، كان من نتائجها تطور بعيد المدى في كل مجالات الحياة العالمية. فإذا كان الذين استفادوا منه يتثاقلون في عزوه إلى القرآن والإسلام ومحمد فإن أولي العلم يعرفون هذا الحق وقد أعلنوه في مؤلفاتهم (راجع ما كتبه جيبون الإنجليزي ودربير الأمريكي وسديو وجوستاف لوبون وغيرهما من الفرنسيين)
قلنا انتقالات، فأي لفظ أدل من هذا اللفظ على ما نحن بصدده؟
كان الناس قبل القرآن ومحمد يعتبرون الدين ذلاً واستكانة، واستخذاء لذوي المكانة، فلما جاء الإسلام صاح بالناس: ارفعوا رؤوسكم إنما التقوى في الصدر، وعلو الهمة من الإيمان، ولا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)
وكانوا يظنون أن العبادات سخرة، فقال لهم الإسلام: كلا إنها صلة بين المخلوق والخالق، وإنها يجب أن تكون ميسرة غير مرهقة (فقم ونم، وصم وأفطر، فإن لبدنك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، ولزورك (أي زائريك) عليك حقا) أن الرجل ليعتبر عابداً لله في كل فاضلة تصدر منه حتى في اللقمة يرفعها إلى فم امرأته
وكانت الجماعات لا تفكر في المقاصد الأدبية المرجوة من الاجتماع، فلما جاء الإسلام ق لها: إنما الاجتماع للتعاون على استكمال وسائل البقاء، وهي لا تكون مباركة إلا إذا كان فيها تعاون على البر، وتضافر للتأدي إلى أكمل ضروب الحياة؛ أما التعاون على الإثم والعدوان فليس من شرف الإنسانية في شيء
وكانوا لا يقيمون للعلم وزناً إلا ما صدر عن الذين نصبوا أنفسهم بين الناس وبين الله حجاباً، فقال لهم الإسلام: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
وكانوا يعدون العقل عدوا للدين، ويتعمدون الخروج على أحكامه مشايعة للذين ربوهم على عصيانه، فقال لهم الإسلام: الدين أساسه العقل، ولا دين لمن لا عقل له
وكانوا يتخيلون أن كل من خالفهم في الجنس والدين واللغة أعداء لا يصح أن تجمعهم بهم صلة، فلما جاء الإسلام صاح بأهل الأرض قاطبة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). فكان الإسلام بهذا الأصل أول من أوجب أن تكون بين الناس كافة زمالة إنسانية، يتعاونون تحت ظلالها على تحقيق أغراض الحياة العامة، بصرف النظر عما يفرق بينهم من جنس ولغة ودين
وقوَّى هذا الأمر وضوحاً فقال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)
بل وصاهم بالرحمة ومراعاة قواعد العدل مع أعدائهم الذين قاتلوهم ليفتنوهم عن دينهم، وأخرجوهم من أرضهم فقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم (أي ولا يحملنكم بغضكم لقوم) أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب)
وزاد في التنبيه على وجوب مراعاة الحقوق الإنسانية، فأمر ألا يتعقب المنتصر في الحرب مهزوما، وألا يجهز على جريح وألا يقتل شيخا ولا امرأة ولا طفلاً ولا رجلاً غير محارب حتى خدم المقاتلين، وألا يهدم ديار الأعداء، ولا أن يحرق أشجارهم، ولا أن يعثو فيها فساداً وكان الناس لا يعرفون الحقوق الطبيعية لإخوانهم في الإنسانية بصرف النظر عن أديانهم وأجناسهم ولغاتهم، فكانوا يجردون من ليس منهم من كل حق، ويسمحون لأنفسهم بقتلهم وسلبهم إن ظفروا بهم، فإن منّوا عليهم بالبقاء استعبدوهم وأذلوهم، فلما جاء الإسلام قرر أن بنى آدم مهما كانت مللهم وبيئاتهم ولهجاتهم حقوقاً طبيعية لا يجوز العدوان عليها بغير حق
وكان الناس لا يدرون كنه المساواة والعدل، فخضعوا لنظام الطبقات ذوات الامتيازات، فكان لرجال الدين والسراة والمحاربين حقوق ليست لغيرهم من أفراد الشعب، فكانوا يبهظون الدهماء بالتكاليف والإتاوات ويخلون أنفسهم منها. فلما جاء الإسلام حطم كل هذه الأوضاع، واعتبر الناس كلهم سواء أمام العدل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)
فنحن إذا ذكرنا الهجرة، وهي دور من أدوار الكفاح الإسلامي في سبيل الإصلاح، ذكرنا كل هذه الانتقالات الأدبية التي لو اطلع عليها علماء الاجتماع لدهشوا، لأن كلا منها لم يتقرر في العالم المتمدن إلا بعد ثورات دموية، تلتها انقلابات عنيفة، وسبقتها تطورات عقلية وأدبية دامت قروناً طويلة؛ فإن كانت قد تولدت طفرة على يد خاتم المرسلين محمد ﷺ، في مدى أقل من ربع قرن، وفي أبعد البيئات عن توليد أمثالها، فهي كبرى الآيات الإلهية، جاءت مناسبة لموطن الاقتناع من عقول أهل الزمان الأخير، فإنهم قد يرون القمر ينشق، أو الجبال تندك فلا يتأثرون، ويمضون يلتمسون لها عللاً طبيعية، ولكنهم لا يستطيعون أن يلتمسوا لهذه الانتقالات الفجائية الباهرة عللاً طبيعية، ولاسيما في بيئة لا تنتج واحدة منها. ولقد نسيت جميع الآيات التي صحبت الرسالات السابقة ومضت بمضي أيامها، إلا هذه الآية التي خص الله بها خاتم رسله، فستبقى ما بقي الإنسان ذا عقل يجيله في الأمور، وما بقي العلم يجلو كل مستور.
محمد فريد وجدي