مجلة الرسالة/العدد 348/الإسلام دين النضال
→ ذكرى الهجرة النبوية | مجلة الرسالة - العدد 348 الإسلام دين النضال [[مؤلف:|]] |
التوجيه الأول ← |
بتاريخ: 04 - 03 - 1940 |
للدكتور زكي مبارك
خلوت إلى قلمي لأكتب فصلا للرسالة أتحدث فيه عن بعض الخصائص الإسلامية، ثم أخذت أستعرض تاريخ الإسلام في القديم والحديث عساني أجد مسألة واضحة الحدود يصل فيها القلم إلى شيء بعد جهاد ساعة أو ساعتين
وما هي إلا دقائق حتى اهتديت إلى موضوع تضيق عنه الأعمار، ولكنه مع ذلك واضح المعالم لا يكلف القلم إلا بعض العناء، ليصل الكاتب إلى طوائف من الصور تمنحه التشرف بالمشاركة في إحياء ذكرى الهجرة النبوية
اهتديت إلى القول بأن (الإسلام دين النضال). فما معنى ذلك؟
ارجعوا إلى تاريخ الرسول وتواريخ الخلفاء. ومن تلا الخلفاء من الملوك والسلاطين في الممالك الإسلامية، لتعرفوا أن الإسلام في جميع عصوره لم يكن إلا دين نضال
وشريعة الكفاح وضع قواعدها نبي الإسلام: فهو أول رسول تجشم مكاره الجندية في سبيل العقيدة، وأول رسول تعرض للقتل مرات كثيرة في سبيل المبدأ، وأول رسول عاش عيش التأهب للقتال في جميع الأحوال
دخلت عليه ابنته وهو يعاني سكرات الموت فتوجعت لما هو فيه من الكرب فنظر إليها وقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم! والناس يفهمون أن الكرب الذي تحدث عنه الرسول هو كرب الموت. أما أنا فقد فهمت أنه يشير إلى ما عانى في حياته من أرزاء وخطوب، وقد عاش دهره كله وهو في بلاء بالناس والزمان، فما انتقل من حرب إلا إلى حرب، ولا خلص من عناء إلا إلى عناء، فحياته هي الشاهد على أن المجد لن يكون إلا من حظوظ المكافحين
والعبرة الأصيلة من حياة هذا الرسول هي الصفة الجدية بين شمائله العالية. والصفة الجدية تظهر في سيرته منذ عهده الأول، فقد نشأ يتيماً، واليتم يحمل النفس على الشعور بالغربة في محيط الوجود، والغريب يقهر على اصطناع الجد في جميع الشؤون
ومن هنا يظهر السر في عنايته بتدليل سبطيه الحسن والحسين، فقد كان يشعر أنه يقدم إليهما سروراً فاته الظفر بمثله وهو يت ثم اتفق له في صباه أن يشتغل بالتجارة لحساب زوجته خديجة، فكان مسؤولاً أمام قوة السوق التي لا يربح فيها غير أهل الجد والصدق من الذين يكتوون بنيران المعاملة مع أقطاب الكسب من السريان واليهود، وكانوا في ذلك العهد دهاقين الأخذ والعطاء
لم يحدثنا التاريخ عن تفاصيل الحياة التجارية التي عاناها الرسول، ولكنا نعرف أن التاريخ لم يكن يسمح بالسكوت عن ذلك الرسول لو أنه استطاع أن يأخذ عليه هفوة من الهفوات التي تجرح الأمانة والصدق، وهما فضيلتان لا يتحلى بهما التاجر إلا بعد جهاد شديد للشهوات والأهواء
وبفضل الكفاح الذي عاناه الرسول في ذلك العهد استطاع أن يدرس أخلاق العرب والسريان واليهود، وهي أمم كانت تقتتل في سبيل المنافع أبشع الاقتتال، واستطاع كذلك أن يتصل من قرب أو من بعد بالأخلاق الحبشية والمصرية والهندية والفارسية والرومانية واليونانية. ومن هذه التجارب تهيأت نفسه للإحساس بقيمة الجد والنضال
فإن قيل إن أكثر الأنبياء عانوا رعاية الغنم في طفولتهم ليتعودوا الصبر، فإنا نقول بأن محمداً عانى ما هو أشق من رعاية الغنم، عانى رعاية التجار وهو قوم يأكلون الجمر، ويلتهمون السم، ويدوسون على أشلاء الضمائر والنفوس
ومن المؤكد أن الرسول عرف الثورة على انحطاط الأخلاق بفضل ما شهد من مكاره الحياة التجارية لذلك العهد
ومن المؤكد أيضاً أن اشتغاله بالتجارة هيأ الفرصة للمعرفة العميقة بالأحوال السياسية والاقتصادية في ذلك الزمان
ويغلب على الظن أنه لم يكن يخلو بنفسه من وقت إلى وقت إلا ليجد الفرصة للسلامة من مكايد الناس، وقد عرفهم في ظروف لا يسلم من شرها غير من يعتصمون بالعزلة من حين إلى حين
وفي لحظة من لحظات الصفاء عرف محمد أن العناية الربانية أعدته لغرض أعظم من تثمير الأموال لزوجته الغالية، ولكن كيف يصارح قومه بذلك الغرض وهو في ظاهره من الكفر المُوبق في بلد قد استراح إلى الأوهام والأباطيل؟
لابد من نضال جديد، وفي ميدان لا تكون حراره من الصخور والجلاميد، وإنما تكون حراره وعقابه من القلوب الغلف والضمائر السوء
لابد لليتيم الكهل من نضال جديد، ولابد من توديع الاتجار بالعروض والأموال للدخول في تجارة جديدة لا يكون فيها الربح غير الهلاك بالقتل والإستشهاد، إن لم يعصمه الله من الناس
وبرز محمد لقومه برأي كان في نظرهم أجرأ الآراء
برز لهم وهو أعزل لا يملك من السلاح غير اليقين، وهو أضعف أدوات القتال في عصور الظلمات
وما كان قوم محمد إلا قوماً فحولاً طاولوا الدهر وصابروا الزمان، وكان فيهم من يملك التصرف بأحلام الأمة العربية، ومن يقدر على إيذاء سمعته بكلمة أو كلمتين. وما هي إلا أيام حتى شاع في جميع القبائل أن محمداً أصيب بالخبال والجنون، وفي أي أرض؟
في أرض بدوية تسير فيها قالة السوء بأسرع من ومض البرق
فما الذي يصنع اليتيم الكهل وقد أشيع أنه مخبول مجنون؟
رجع إلى عزيمته يستفتيها، فحدثته بأن النضال هو اشرف ما يعتصم به كبار الرجال
وكانت أيام عرف فيها محمد أن حراسة الغنم أسهل من حراسة الأصدقاء. كانت أيام عرف فيها أنه يعاود حياة اليتم من جديد فما الذي يصنع؟
لابد من نضال، لابد من نضال
لقد انتهى عهده بالنضال الهين الخفيف يوم كان يسهر على زاده وتجارته ليأمن غوائل الأعراب بالليل، انتهى عهده بالجزع على ضياع صرة فيها دراهم أو دنانير يدخرها لسرور زوجته الغالية حين يرجع من أسفاره في تثمير ما تملك من أصول المنافع الدنيوية، وأقبل عهد جديد، هو عهد السهر على الضمائر والقلوب ليحميها من غوائل الشرك، وليقيها شر الفساد والانحلال
ولكن الذين يعنيه أمر هدايتهم يرونه من أهل الفضول، ويسمعونه اقبح عبارات السخرية والازدراء، فماذا يصنع؟
لابد من النضال، ولابد من الترحيب في سبيل العقيدة بالظمأ والجوع والقتل. وهنا تظهر عظمة محمد المؤيد بقوة خفية تهوّن عليه المصاعب والأرزاء هنا تظهر عظمة الرجل المؤمن بقيمته الذاتية، والذي يرى أن خصومه ليسوا إلا هباء في هباء، وإن تحصنوا بآطام السياسة والمال، وهما أقوى الحصون
وما الذي يخاف عليه بعد ما لقي؟
لابد من نضال، لابد من نضال
والتفت اليتيم الكهل فرأى أنه وحيد مضطهد لا يؤمن قومه برسالته، وإن كان لم يفقد عطف زوجته الغالية في ذلك الظرف العصيب
الله وحده هو الذخيرة الباقية للمضطهدين من أصحاب العقائد والمبادئ. الله وحده هو سناد المكروبين، وغياث الملهوفين. الله وحده هو الذي يحمي أهل الصدق والأمانة من عدوان الكاذبين والخائنين. الله وحده هو الذي يقدر على مواساة المكروب المحزون، وهو وحده الذي يبعث الشجاعة في صدر اليائس من انتصار الحق
الله وحده هو الذي أوحى إلى اليتيم المضطهد أن يستبسل في سبيل الحق، ليرى انتصار الحق على القوة بعد حين
وتلفت محمد فلم ير لرسالته من ظهير أو معين غير القوة الخفية التي تحدثه بأنه قد يصل إلى الفوز إن صبر على المكاره صبر أولى العزم من الرسل
هو إذن نبي، والنبوة توجب التضحية بجميع المنافع، وتفرض الاستهانة بأكاذيب المفترين على العرض والشرف، فلا بأس من أن يشيع كذباً أنه رجل غير شريف، وإن كان قومه عدوه من أقطاب الأمناء، يوم كان لا يجهر بالاعتراض على ما يرتطمون فيه من الزيغ والضلال
لابد من نضال، وهو في هذه اللحظة يقع في ميدان واحد هو الصبر على عدوان المكذبين، فإن انتصر محمد على هذا الكرب فلا كرب عليه بعد اليوم
وصرخ محمد بصوت ارتعدت له الجبال: يا معشر قريش، أنا رسول الله إليكم!
وما كاد يفوه بهذه الجملة حتى ظهرت لعينه وقلبه ألوف وملايين من الأفاعي والصلال هي وساوس المرتابين في دعوته السامية
ونظر فإذا هو طعام سائغ للسفهاء والأغبياء من أعداء الحق وأنصار البهتان وحدثته النفس بأن طلب السلامة أمر يوجبه العقل ولكن القوة الخفية سارعت فحدثته بأن الرجل الحق هو الذي يستهين بأراجيف السفهاء
الرجل الحق؟ ومن الرجل الحق بجانب النبي الحق؟
الروح الأمين يحدثه بأنه خاتم الأنبياء، فما الذي يمنع من أن يتحمل في سبيل رسالته أضعاف ما تحمل سائر الأنبياء؟
ومضى محمد يناضل ويقاتل ويجاهد حتى نقل العرب من الشرك إلى الإيمان بعد أن دفع ثمن النصر من دمه الغالي، الدم المسفوك بالأكاذيب والأراجيف والأباطيل
ولكن، لا بأس، فقد سنّ لأتباعه الأوفياء شريعة النضال
زكي مبارك