الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 347/شجاعة المرأة الكردية

مجلة الرسالة/العدد 347/شجاعة المرأة الكردية

مجلة الرسالة - العدد 347
شجاعة المرأة الكردية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 02 - 1940


(قصة تاريخية واقعية لم يحن الوقت بعد لذكر أسمائها)

للآنسة الأديبة سانحة أمين زكي

حدث أنه كان في منطقة. . . رجل نبيل مهيب الجانب قد وهبه الله من الشجاعة والكفاية قدر ما وهبه من جمال الرجولة وقوة الشباب، ومن ذلك كان رجاله يحترمونه ويقدسونه حتى ليرفعونه إلى مصاف الآلهة، وقد هيأت له الأقدار زوجة هي صورة مصغرة له ولصفاته، قد حباها الله ثروة من الجمال والذكاء والشجاعة، فهي تجيد الرماية إلى أقصى حد، وتتصدر المجالس سامرة، وتنافس الرجال في أعمالهم، والشعراء في فنهم، والعلماء في علمهم؛ فكانت بذلك مثلاً أعلى لبنات قومها، وصورة بديعة ناطقة للمرأة الكردية

كان الرجل يحب زوجته، وكانت هي تبادله حباً بحب فعاشا مدة من الزمن يرفرف عليهما طائر السعادة بجناحيه، يخرجان معاً للصيد ويتسابقان في العدو، وأتباعهما يشيعونهما بنظرات ملؤها الحب والغبطة وهما في لهوهما لا يحملان هماً من هم الحياة!

وحدث أن قدم الملك. . . إلى هذه المنطقة تمهيداً للاستيلاء عليها وضمها إلى ممتلكاته. فلما تم له الأمر، أولم وليمة فاخرة، دعا إليها جميع نبلاء وحكام هذه المنطقة، وكان من بينهم هذا النبيل، فما كاد الملك يراه حتى أعجب بذكائه، فلما سأل عنه سمع ما زاده حباً له وتعلقاً به، فرغب في ضمه إلى بطانته ليأنس به، ويستمتع بعلمه وفضله ويتخذه سلاحاً من أسلحته؛ فلما عرف هذا النبيل رغبة الملك لقيها بالقبول لما رآه من عطفه على المغلوبين من إخوانه، وتواضعه لمن حوله؛ ورضى أن يكون مرافقاً له، وشد الرحال مع زوجته وخدمه ميممين شطر العاصمة، ولو درى المسكين ما يخبأه له القدر وراء هذه الرحلة من الشر لما رضى أن يرحل ولما خطا خطوة في هذا السبيل

وصل النبيل وحاشيته إلى قصبة الملك، فأفرد له الملك قصراً فخماً، في وسط حديقة غناء، سكن فيه هو وزوجته في أسعد حال وأهنأ بال، واستأنفا ما كانا عليه من قبل: من صيد وقنص ومرح، والجميع يتغنون بمحاسن هذه المرأة وجمالها الذي جلب عليها الوبال فيما بعد. ومازال جمال المرأة منذ كانت أس البلاء ومنبت الشر، ومازال سبباً إلى الكوارث الفاجعة، مادام هناك رجال تسول هم نفوسهم أن نظروا إلى ما لا تملك أيديهم. وكان واح من النبلاء - وإن لم يكن في طبعه شيء من صفات النبل وكرم النفس - مقرباً من الملك، صديقاً له، لا يخطو الملك خطوة إلا عن أمره، ولا يقطع في رأي إلا بمشورته؛ فرآها يوماً خارجة لنزهتها المعتادة، منتصبة فوق صهوة جوادها، رافعة الرأس، باسمة للطبيعة يتبعها خادماها الأمينان لا ينفكان يلاحظانها بيعيونهما، كما ينظر الكلب الأليف إلى صاحبه، ولكنهما على ما كان يبدو عليهما من الضعف بإزائها، كان من شجعان الرجال، قد أخذا الأهبة للذود عن سيدتهما وقتل كل شرير تسول له نفسه الخبيثة أن يحاول الاقتراب منها؛ فلم يجد النبيل سبيلاً إلى التقرب منها أو سماع صوتها واكتفى بالنظر إليها والتملي بمحاسنها على بعد؛ وأحست المرأة بغريزتها أن هناك من ينظر إليها، فالتفتت، وحين التقت نظراتها بنظراته، ورأت ما في عينيه من حديث نفسه الدنيئة. . . ظهر الغضب في وجهها، وأدارت رأسها، كأن النظر إلى وجهه يدنسها. . . لكن ذلك النبيل لم يبال ما رأى، بل ابتسم ابتسامة فيها وعيد وتهديد. وحين رجع إلى بلاط الملك قص عليه قصة هذه الحسناء ووصف له تعلقه بها وحبه لها بلا حياء. . . وأخذ يستعطفه، ويطلب منه العون. . . فأثر ذلك في نفس الملك، وهون عليه الأمر وطلب منه الصبر، حتى يحين الوقت المناسب. . .

والتقت الزوجة بزوجها، فقصت عليه ما رأت، بصوت يرتجف من الغضب، ويدل على ما كانت تشعر به من الذل والمهانة لما أصابها. . . فهدأ الزوج الكريم ثائرتها، وذهب يستطلع الأمر وحين علم أن الملك راضٍ عن عمل صديقه، ثارت نفسه الأبية للدفاع عن عرضه، وزاد في غضبه، ما رأى من سوء معاملة الملك لأصدقائه، واحتقاره لهم، وتنكيله بهم، وما فرض من الضرائب المرهقة على المنطقة التي ينتسب إليها، والتي يشعر أن عليه حقاً لها، وما سلب أهلها من الحرية. . .

هذه العوامل مجتمعة، فعلت فعلها في نفس هذا النبيل؛ فمحقت ما كان يشعر به من الحب للملك، وحملته على التفكير في قتله، ليربح منه، ولينتقم! غير مبال بعاقبة ذلك، مادام فيه صيانة لشرفه، وتخليص لشعبه من آصار العبودية التي يرسف فيها تحت ظل هذا الملك الطاغية!

رجع النبيل إلى زوجته، والغضب يطويه وينشره، وعوامل مختلفة تصطرع في نفسه، وأخبرها أنه ذاهب لقتل الملك، فإن نجح في ذلك فقد بلغ ما أراد؛ وإن لم يتمكن من قتله أو لم يستطع الإفلات بعد تنفيذ عزيمته، فعليها أن تدافع عن شرفها حتى آخر لحظة من عمرها. ثم تمنطق بغدارتين، وودع زوجته وداعاً حارا ومضى لشأنه. وأبت الزوجة الشجاعة أن تلجأ إلى البكاء والنحيب بلا جدوى؛ بل اكتنف بالسكوت وبالنظر إلى زوجها كأنها تحاول أن ترسم صورته في مخيلتها جيدا

وصل الرجل إلى البلاط، وتمكن من الدخول بسهولة؛ لأنه كان معروفاً هناك، ووصل بهدوء إلى غرفة الملك الخاصة، وكان الملك في ذلك الوقت جالساً يطالع غافلاً عما يدبر له. وحين رأى صديقه بالأمس داخلاً والشرر يتطاير من عينيه، استولى عليه حب الحياة، فحاول الهرب، ولكن الرجل لم يمهله، بل أطلق عليه خمس رصاصات من الغدارة الأولى، ولكنه لم يصبه لشدة انفعاله، فأراد أن يرد الغدارة إلى منطقته كي يستعين بالغدارة الثانية، ونسى أنه لا يزال هناك رصاصة أخرى فيها، فما كاد يضعها في منطقته، حتى انطلقت هذه الرصاصة وأصابت منه مقتلاً. فسقط متضرجاً بدمائه الزكية تحت أقدام الملك

أما الزوجة فإنها بعد ذهاب زوجها صعدت إلى أعلى غرفة في منزلها، وتزودت بما قدرت عليه من الطلقات، وحصنت الغرفة بما وضعت من الأثاث خلف الباب كالمتاريس، وجلست في حصنها متأهبة لما يكون، وهي في شك من قدرة زوجها على الإفلات بعد تنفيذ عزيمته، ولكنها لبثت تنتظر! ولم يطل انتظارها طويلاً حتى قدم جنود الملك وأحاطوا بالمنزل، فحينذاك عرفت كل ما كان، وأيقنت أن زوجها قد مات! فتلاشت رغبتها في الحياة، ولم يبق في نفسها إلا سعير يضطرم يدفعها إلى الثأر. وطلب إليها الجنود أن تنزل، فأجابتهم بإطلاق الرصاص فأجابوها ناراً بنار، ودارت المعركة، فما استطاع الجنود أن يصيبوها وهي في ذلك الحصن الحصين؛ على حين استطاعت هي أن تقتل أثني عشر رجلاً منهم. وعلم الجنود أنهم لن يبلغوا منها مبلغاً، وصغرت نفوسهم حيال هذه المرأة الجريئة فلم يجدوا إلا أن يشعلوا النار بالمنزل ليحترق بها وتموت بين الأنقاض، وأيقنت المرأة أنها على شفا الموت حرقاً، فصاحت بالجنود تخبرهم أنها تستسلم على شرط أن يتقدم الرجل الذي سبب هذه الكارثة فيعطيها الأمان ويضمن لها السلامة، ففرح الرجل الفاجر وأيقن أنه قد بلغ أمنيته، وتقدم متبختراً يريد المنزل، فلم يكد يقترب من الباب حتى أصابته رصاصة في جبينه، فخر على الأرض قتيلاً جزاء وفاقاً على ما سبب لهذه الأسرة الهانئة من الشقاء والبلاء! ولما انتقمت المرأة لنفسها ولزوجها وللأرواح التي أزهقت، هدأت ثائرتها وعلمت أنها قد أدت واجبها؛ فخيل إليها كأن صوتاً من الغيب يناديها إليه، هو صوت زوجها، فوضعت فوهة المسدس على جبينها وهتفت باسم زوجها لآخر مرة ثم أطلقته؛ فصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها، وانطفأت شعلة حياتها وهي في ريعان الصبا وزهرة الشباب!

(بغداد)

سانحة أمين زكي