مجلة الرسالة/العدد 346/من وراء المنظار
→ من الذروة | مجلة الرسالة - العدد 346 من وراء المنظار [[مؤلف:|]] |
لقب السفاح ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1940 |
من الفأس إلى السلاح
خففت إلى القرية منذ بضعة ايام، وقد أغراني الصحو والدفء أن أنعم بهما هناك يوماً أو يومين في ملاعب صباي ومسارح هواي وجنة أحلامي؛ ورحت في رونق الضحى أثب كالفراشة من حقل إلى حقل ومن غدير إلى غدير، وفي قلبي فرحة الغلام، وفي خيالي أحلام الشاعر.
وجلست أستريح ساعة في مصلى على جانب الطريق، أستند إلى جذع شجرة التوت العتيقة التي جردتها يد الشتاء العاتية من أوراقها، والتي طالما استروحت نسيم الأصل الرخي في ظلها السابغ أثناء الصيف؛ وأخذت عيناي من بعد شخصاً قادماً في زي (الأفندية)، فلما صار بحيث أتبيه، رأيته في زي (الجند) وما لبث أن دنا مني فعرفته، ولما بلغ حيث أجلس نطق بالسلام متبسماً ورفع يده إلى رأسه محيياً بالتحية التي تعلمها في الميدان. . . وعجب إذ نهضت واقفاً له وإذ مددت إليه يدي مصافحاً، وأشرت إليه فجلس على استحياء على حافة المصلى.
هذا هو حسن الفتى القروي المرح، القسيم المحيا الذي تعرفه القرية كلها بمواويله الساحرة العذبة التي كان يمليها عليه في الأفراح ما هز قلبه حب عف شديد والتي ما لحق به في مضمارها أحد من منافسيه. . ولقد طالما رأيته بالأمس يخطر في ملابسه القروية في تلك البقاع، ولقد طالما سمعته من قريب أو من بعيد يبدأ أغانيه الحلوة بقوله: (آه. . . يا ما جرى لك قلبي)
واليوم أراه في حلته العسكرية ينتعل ذلك الحذاء الضخم ويضع على رأسه الطربوش ويمسك بيده عصا رفيعة من الخيزران، وقد زال عن وجهه سفع الشمس إلا قليلاً فبدا أكثر وضاءة وأجمل قسامة وأنضر عافية.
ولمحت في عينيه شيئاً من القلق ولكن لم يغب عني سببه، فأنا أعرف أن ذلك المصلى مكان انتظاره لمن يهوى قلبه وهي قافلة من الترعة أو ذاهبة إليها؛ وأشرت إلى ذلك مداعباً ممازحاً فضحك ضحكة جميلة مازج الطلاقة فيها الخجل. . . ولكن إشارتي إلى ما في نفسه زادت قلقه، فوجم برهة، وأدركت انه يهم بالانصراف فأخذت أهدئ بالحديث روعه.
ولم يطل ذلك الحديث فقد رأيت الصفرة تغشي وجهه الخجل يتزايد في عينيه؛ فالتفت فإذا هي مقبلة تحمل جرتها، ورأيتها حينما دنت منا قد أخذتها ربكة المفاجأة فأضطرب هيكلها ثم أسرعت فأخفت وجهها بطرحتها. . . وبدا لي فناديتها حين مرت فأبطأت ولكنها لم ترد ولم تلتفت، فأكدت، فوقفت ثم تغاضبت فأقبلت في حياء شديد، فصحت بها لتقدم وإلا نهضت فجئت بها على رغمها، فجاءت ووضعت يدها في يد خطيبها ثم انتزعتها مسرعة دون أن تتكلم، وأشرت إليه فحط عنها الجرة وأرغمتها على الجلوس، فجلست إلى جانب المصلى تحجب طرحتها نصف وجهها المتورد الجميل.
وانعقد لسان الجندي فلم يدر ماذا يقول (فأنقذت الموقف) أنا بامتداحي حياة الجندية وبثنائي في عبارة يفهمانها على أولئك البواسل الذين يفتدون بلادهم بأرواحهم. . . ولمعت عينا الجندي الشاب، ثم تندت بدموع الفرح وأنسته الحماسة خجله؛ فقال وهو الذي كان يحمل الفأس بالأمس انه يفتدي بلاده بدمه إذا لزم الفداء. . . ونظرت إليه الفتاة نظرة لم أر فيها إلا معاني الإعجاب والارتياح؛ ونهضت قائلاً إني أتركهما برهة ليقولا ما بنفسيها.
وعدت إذ رأيته يضع على رأسها الجرة وواجهتني ذاهبة، فإذا هي مستبشرة راضية تكتم ضحكتها؛ ودنوت من ذلك الجندي أسأله لم لا يصف ذلك في موال من مواويله وهو ذلك الشاعر الذي ما عي لسانه في موقف. . . ولكنه لم ينطق بموال حينذاك، وإنما راح يتكلم عن حب الوطن وعن معاني الفداء والبطولة. ولشد ما أعجبني قوله (الواحد منا ما يستهلش خير بلاده إذا ما دفعش عنها بدمه، والراجل إيه فائدة عافيته وشبابه؟ يا ترى يقعد زي البنت؟) وأكد لي انه لا يأسف على فراق قريته في سبيل وطنه وله فيها من يهواها قلبه فحب بلاده فوق كل حب!
واستأذن الجندي الفلاح فوقفت أصافحه في حماسة وشيعته بنظرات الإكبار وهو يمشي مشية متزنة سريع، وعجبت كيف تغير الجندية عقلية هؤلاء الفلاحين بمثل هذه السرعة، وأثلج صدري أن أرى في ذلك الفتى المتحمس الدليل الحي على صحة ما يقوم أبداً في نفسي من أن هذا الذي يجيل الفأس في تربة وادينا الوديع الهادئ كفيل بأن يدير في يده السلاح بنفس المهارة إذا هو قلد السلاح. . . ومن أين جاءت جنود تحتمس ورمسيس وابراهيم؟ وكم بين هؤلاء السذج زرق الجلابيب من قادة أمجاد وعلماء أفذاذ وشعراء فطاحل وساسة أماثل ولكنهم تركوا في غمار الجهل والفاقة لا يعلمون إلا أن يجيلوا الفأس في ثرى الوادي في صمت وصبر جاهدين
(عين)