مجلة الرسالة/العدد 346/لقب السفاح
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 346 لقب السفاح [[مؤلف:|]] |
الأدب في الأسبوع ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1940 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذا موضوع كنت قيدته في مذكرتي منذ سنين تحت هذا العنوان (لمن لقب)، وكان هذا بعد أن قرأت في كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة وصف عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس بالسفاح، وتركه وصف أبي العباس به، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ فالأول عم الثاني، وكان والياً على الشام، وهو الذي تولى فيه حرب بني مروان، وسفك فيه ما سفك من دمائهم، ثم أخذت في تحقيق ما رأيته من الاضطراب في ذلك الوصف، ودونت تحقيقاً في مذكرتي على هذا الترتيب:
1 - جاء في ص127 من كتاب المعارف لأبن قتيبة وصف أبي العباس بالسفاح.
2 - جاء في تاريخ بغداد ص46 جـ10 تلقيبه بالمرتضى والقائم.
3 - جاء في كتاب (خلاصة الذهب) المسبوك للأربلي ص40 تلقيب أبي العباس بالسفاح والمرتضى والقائم
4 - جاء في ص477 ج5 من كتاب (صبح الأعشى) للقلقشندي أن الخلف وقع في لقب السفاح، فقيل القائم، وقيل المهتدى، وقيل المرتضى.
5 - جاء في ص207 من تاريخ ابن العبري أن أبا العباس كان رجلاً طويلاً أبيض اللون حسن الوجه، يكره الدماء، ويحامي على أهل البيت.
6 - قرأت ما كتبه ابن جرير الطبري عن أبي العباس فلم أجد فيه وصف أبي العباس بالسفاح.
7 - جاء في كتاب (الفاطميون في مصر) للأستاذ حسن إبراهيم حسن أن الأستاذ دي غويه كان يرى أن السفاح معناه الرجل الكثير العطايا أو المناح.
وقد وقفت عند هذا في مذكرتي، وشغلت عن الكتابة في هذا الموضوع بما فيها من الموضوعات الكثيرة، إلى أن قرأت في مجلة (الثقافة) الغراء بعض ما كتبه فيه الأستاذان الجليلان عبد الحميد العبادي وأحمد أمين، فكنت والله كأني فقدت بعض أولادي لأن أفكاري تبلغ عندي منزلة الأولاد، وقد تكون أعز منها عندي، وفي سبيلها يهون علي ما ألاقيه من عنت واضطهاد في هذه الحياة.
ثم عزيت نفسي عن ذلك بما أغناها الله به من مثل هذه الآراء والأفكار، وانتظرت ما ينتهي إليه أمر الأستاذين الجليلين في ذلك الموضوع، فلعلهما يتركان لمثلي الكلام بعدهما، ويكون لي ما أعقب به عليهما. فلما فرغا منه وجدت الموضوع لا يزال في حاجة إلى التحقيق، ورأيت أنهما لم يصلا إلى تلك النصوص السابقة، ولو أنهما وصلا إليها لتغير نظرهما في ذلك الموضوع
لقد ذكر الأستاذ العبادي في أول ما كتبه عن السفاح انه كان شاباً متصوفاً، عفيفاً، حسن المعاشرة، كريماً، معطاء، ذا شعرة جعده، طويلاً، أبيض، اقني الأنف، حسن الوجه واللحية، ورتب على هذا رأيه في معنى لقب السفاح الذي عرف به انه بمعنى الكثير العطاء، وليس بمعنى السفاك للدم، لأن مثل تلك الصفات التي كان السفاح يتحلى بها إنما تلتئم مع المعنى الأول للسفاح وهو المعطاء، ولا تلتئم مع المعنى الثاني، لأنه معنى ذم لا يلتئم مع تلك الصفات الكريمة.
والأستاذ العبادي مسبوق بهذه النظرة إلى معنى السفاح الذي لقب به أبو العباس، فقد ذكر الأستاذ حسن إبراهيم حسن في بعض تعليقاته على كتابه (الفاطميون في مصر) أن الأستاذ نيكلسن قال في بعض كتبه: يقول الأستاذ بيفان الذي أدين له بهذه الملاحظات أن ترجمة لفظ السفاح ولو أن استعمالها قد شاع بين الكتاب الأوربيين لا تزال مثار الكثير من الشك، وقد ذهب الأستاذ دي غويه إلى القول بأن السفاح معناه الرجل الكثير العطايا أو المناح، وانه مما يهمنا ملاحظته أن هذا الاسم قد أطلق على بعض شيوخ القبائل في الجاهلية، ويقال إن سلمة بن خالد الذي قاد بني تغلب في موقعة بني كلاب الأولى (ابن الأثير - طبعة ترنبرج ج1 ص246) سمي السفاح لأنه أفرغ مزاد جيشه قبيل الموقعة، ثم قال: والذي أميل إليه انه إنما سمى بهذا الاسم لقوله في أول خطبة له (فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح)
وفي هذا النقل بعض من الاستقصاء العلمي الذي عرف به المستعربون الأوربيون، ولكن فيه مع هذا تخليطاً كثيراً نحب أن ننبه هنا إليه، ثم نعود إلى موضوعنا، فقد سميت الموقعة في ذلك النقل موقعة بني كلاب، وهو خطأ في التسمية، وإنما هو يوم الكلاب الأول من أيام بكر وتغلب، وقد جاء في القاموس (وكلاب كغراب موضع وماء له يوم) وكان هذا اليوم بين شرحبيل وسلمة أبني الحارث بن عمرو ملك بكر بن وائل، فإنهما اختلفا بعد موت أبيهما على الملك، وتواعدا الكلاب، فأقبل شرحبيل في ضبة والرباب كلها وبكر بن وائل، وأقبل سلمة في تغلب والنمر وبهراء ومن تبعه من بني مالك بن حنظلة، وعليهم سفيان بن مجاشع، وعلي تغلب السفاح بن خالد، وإنما قيل له السفاح لأنه سفح أوعية قومه وقال لهم: ابتدروا إلى ماء الكلاب فسبقوا ونزلوا عليه، وقد قتل في ذلك اليوم شرحبيل بن الحارث وجيء برأسه إلى أخيه سلمة، فلما رآه دمعت عيناه، قال:
ألا أبلغ أبا حَنَشٍ رسولاً ... فمالك لا تجيء إلى الثوابِ
تَعَلمْ أن خير الناس طُراَّ ... قتيلٌ بين أحجار الكُلابِ
تداعت حولهُ جُشَمُ بن بكر ... وأسلمه جَعَاسيسُ الرِّبابِ
وكان أبو حنش هو الذي قتله، ثم بعث برأسه إلى سلمة مع عسيف له، ولم يحضر مخافة منه، فقال سلمة لعسيفه: أنت قتلته؟ قال: لا، ولكنه قتله أبو حنش، فقال: إنما أدفع الثواب إلى قاتله، وكان قد جعل لمن يأتيه برأس أخيه مائة من الإبل.
وقد رد الأستاذ أحمد أمين على استبعاد أن يكون أبو العباس سفاحاً بمعنى سفاح ما كان له من تلك الصفات الكريمة، بأن هذا لا شيء فيه، لأن كثيراً من أبطال الجاهلية كان سفاكاً للدماء، ومع هذا كان يتحلى بمثل تلك الصفات التي كان يتحلى بها أبو العباس، كعنترة العبسي وغيره. ورد عليه الأستاذ محمود محمد شاكر بأن الرقة والجمال ولين الخلق تخفي وراءها أحياناً قسوة لا يدانيها قسوة، كالذي يكون في النساء، فإنهن قد عرفن بين الناس بالرقة، وهن أغلظ أكباداً من الإبل. ومع هذا يرى الأستاذ محمود أن السفاح لقب أبي العباس من سفح المال لا من سفح الدم، لأن أبا العباس كان يسمى عبد الله الأصغر، وكان أخوه أبو جعفر يسمى عبد الله الأكبر، وأبو جعفر قد لقبه أبوه فيما يعلم الأستاذ محمود بالمنصور، فلا غرو أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه كما لقب أخاه، ولا يعقل أن يلقب أحد ولده بمذمة سفح الدماء وهو ينصبه للناس خليفة، وقد روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ: (يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له السفاح، يكون عطاؤه للمال حثياً) وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، ولكن بني العباس استخدموا مثل هذا في دعوتهم. فالسفاح إذن ليس من سفح الدم، وهو بهذا المعنى مجاز مقصود لغرض بعينه
وإني لا أوافق على أن العباسيين كانوا ينظرون إلى لقب السفاح بمعنى السفاك للدم مثل نظر الأستاذ العبادي والأستاذ محمود شاكر، لأنهم كانوا يريدون منه السفاك لدماء أعدائهم، وهذا عندهم لقب مدح لا ذم، وقد تمدح به أبو العباس في أول خطبة له فقال: (فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح) وفي رواية الطبري (والثائر المبير). ولا شك انه إذا أمكننا أن نحمل السفاح المبيح على معنى سفح المال وإباحته، فإنه لا يمكننا أن نحمل الثائر المنيح أو المبير إلا على معنى إهلاك الأعداء وسفح دمائهم وإناحة أهلهم عليهم. ولا مانع بعد هذا عندي في أن يكون في السفاح معنى سفح الدم وسفح المال، ورأيي في الحديث الذي جاء فيه ذكر السفاح انه من الأحاديث الضعيفة، والظاهر أنه لم يظهر إلا بعد انقضاء عهد السفاح، وأنه كان يقصد به التقرب إلى العباسيين، كالحديث الذي روى عن ابن عباس أنه قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لأدال الله من بني أمية، ليكونن منا السفاح والمنصور والمهدي.
وأما ما ذكره الأستاذ محمود من أن السفاح بمعنى سفح الدم مجاز فينا فيه ما ذكره الزمخشري في أساس البلاغة، وهو الكتاب الذي يرجع إليه في تمييز المعاني الحقيقية والمجازية، فقد ذكر السفاح بمعنى السفاك للدماء في الاستعمال الحقيقي لمادة س ف ح، ولم يذكر فيه ولا في الاستعمال المجازي معنى سفح المال، وهذا يدل على أن استعماله في الأول أقرب من استعماله الثاني، ولنقف الآن عند هذا الحد، لنتم بحث ذلك الموضوع بعد
عبد المتعال الصعيدي