الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 344/ويسألونك عن القاهرة

مجلة الرسالة/العدد 344/ويسألونك عن القاهرة

بتاريخ: 05 - 02 - 1940


قل القاهرة بغداد الأمس وباريس اليوم

للدكتور زي مبارك

أكتب هذه الرسالة وقد هربت من ضجيج القاهرة في مساء العيد. وهل في شوارع القاهرة في مثل هذا المساء موضع قدم لمن يريد أن يزوِّد قلبه وعينيه بما في أعياد القاهرة من مواكب السحر وملاعب الفتون؟

هي دنيا من الغرائب والأعاجيب تسعد بها قلوب، وتشقى بها قلوب. وهل يعرف حلاوة السعادة أو مرارة الشقاء غير قلب تنطوي عليه أحشاء القاهرة في يوم عيد؟

يقال في كل أرض: إن النكتة المصرية هي أبرع ما عرف الناس من صور الذكاء. وهذا حق. . .

ولكن هل فكر أحد في أسباب هذه الخصوصية؟

إن النكتة هي النافذة التي نشرف منها على مروج الطرب والابتسام. ولو خلت حياتنا من النكتة لقتلنا الغيط على الأيام الجوائر التي لا يلتئم بها شمل ولا يعتدل ميزان

ولعل المقادير لوَّنت القاهرة هذا التلوين العجيب لتَطِبْ لقلوبنا الدامية، القلوب التي مزقها الهيام بالحب والمجد فلم تعرف معنى القرار في صباح أو مساء

قلت لقلبي: أيكون فرارك من ملاعب القاهرة في مساء العيد دليلاً على أنك تُشْبه الطفل الذي يزهد في اللعب؟

فقال: وما حكم الطفل الذي يزهد في اللعب؟

فقلت: ينزعج عليه الأهل، ويستقدمون له الطبيب، لأن الطفل لا يزهد في اللعب إلا وهو عليل

فقال: وأين أهل القلب العليل لينزعجوا عليه ويستقدموا له الطبيب. . .؟ وعندئذ عرفت أن قلبي يعيش في الدنيا بلا أهل!

هنا القاهرة!

نعم، هنا القاهرة. ولكن أين تقع القاهرة مما يريد القلب المفطور؟ أين وهي أصل العلة التي ردّت الفؤاد وهو صديع؟ كانت القاهرة في ماضيها مدينة محدودة النطاق. وكان لها أسوار وأبواب. وكان حراسها يطوفون أرجاءها في ساعة أو ساعتين ثم يصعد رئيسهم فوق منارة ويصيح:

(ناموا، أيها المسلمون، فأنتم في أمان)

فأين نحن من ذلك الأمان وقد جَدَّت في دنيانا معاطب غير عدوان اللصوص على المتاجر والبيوت؟

يستطيع كل قاهريّ أن يطمئن إلى أن منزله أو متْجره في أمان من سطوات الليل؛ ولكن أين الأمان من عدوان الشياطين، شياطين الغرائز والنحائز والطباع؟

من يضمن لك الأمان في مدينة القاهرة وهي اليوم مَسْبَعَة عقلية تصطرع فيها المذاهب والآراء، ولا يغمض فيها جفن إلا وهو مروَّع بقلب ساهر لا يعرف السكون إلا يوم تمن عليه المقادير بالموت؟

من يضمن لك الأمان في مدينة مثل القاهرة وأنت من نفسك في حرب، ومن الزمان في قتال، ومن الزملاء في نضال؟

يجب أن تعرف أنك في دنيا جديدة لا يَسلَم من خطوبها وصروفها غير من أمدته المقادير بالصبر عما في القاهرة من اصطراع العواطف واصطخاب الأهواء

فهل أنت من الصابرين؟ وكيف تصبر عن القاهرة، وهي قاهرة وفي دمك وروحك أقباسٌ من سعيرها العَصُوف؟

ألم تسمع ما وقع يوم أقيمت مباراة الأناشيد العسكرية؟

تلقت اللجنة خمسمائة نشيد ولم تختر غير خمسة أناشيد. فقال القائلون: هذا شاهد جديد على أن دولة الشعر يكثر فيها الأدعياء!

وكان ذلك لأننا نعيش في القاهرة مدينة الأناقة والفخامة والزخرف والبريق، وفي مثل القاهرة تُقهر العواطف وتُظلَم القلوب. وإلا فكيف جاز أن ينسى المحكّمون ما في تلك الثروة الشعرية أو النظمية من الدلالة على حرارة الأفئدة وشهامة العقول؟

خمسمائة نشيد؟ معنى ذلك، أيها الناس، أن القاهرة فيها خمسمائة قلب، وذلك مغنمٌ عظيم. ولكن أين من يقيم الميزان لحَيَوات القلوب وهي لا تُوزن ولا تقاس ولا تكال؟

وهل يَشقى في المدائن العظيمة غير أصحاب القلوب؟ هنا القاهرة!

نعم، هنا القاهرة، ولكن أين مكان الأديب في المدينة التي أصبحت عاصمة الشرق؟ أين مكان الأديب في القاهرة وبفضل قلم الأديب صارت القاهرة عاصمة الشرق؟ وهل خُلِّدت ليلى إلا بفضل أشعار قيس؟

أين مكان الأديب في القاهرة، ومن دم قلبه خُطَّ تاريخها الحديث؟ بل أين من تسمح له القاهرة بأن يقول إنه في هواها مجنون؟

إني وإياها كمفتتنٍ ... بالنار تحرقه ويعبدها

هنا - في القاهرة - زاد العقول والقلوب والعواطف والأحاسيس، فأين مكان الأديب يا قاهرة ليؤدي ما أداه عشاق بغداد في القديم وعشاق باريس في الحديث؟

زرت حديقة الأزبكية في صباح اليوم وهو يوم عيد فلم أر فيها غير شراذم من غلف القلوب، فأين الأديب الذي يُشعر الدنيا بأن في القاهرة حديقة اسمها حديقة الأزبكية؟ وكيف جاز أن تخلو هذه الحديقة في يوم العيد من مواكب الحُسن الوضاح، والجمال الفضاح؟ ومتى نعيش إذا ألهانا جِدُّ القاهرة عن مداعبة الملاح في يوم العيد؟

متى نعيش إذا استطاعت مُحرِجات الحياة أن تقهرنا على التفكير في منافعنا الدنيوية في المواسم والأعياد؟ وهل عًمرنا عمر نوح حتى نصبر عن مواسم الأفئدة إلى أجل قريب أو بعيد؟

هي أيام نقضيها مشدودين بسلاسل وأغلال إلى (قطار المفاجآت) في هذه الحياة. فمتى نلتفت إلى ما أنبت الغيث في صحراء الحياة من أزهار ورياحين؟

سيندم قومٌ على ما ضيّعوا من مواسم القلوب في القاهرة. وسأذكر بعد فوات الوقت أنني جنيت على شبابي حين أضعته بين سواد المداد وبياض القرطاس في زمن لا ينفع فيه غير الاتجار بالتراب. فهل أخرج من داري إلى معاقرة الحياة بالقاهرة في هذا المساء؟ وكيف ولي شواغل تحرمني الحرية في مساء العيد؟

وهل يستطيع قاهريّ أن يُمضي يوماً واحداً بلا كفاح وهو يعيش في مدينة مقدودة من صخور الصبر على مصاولة الحياة

إن هذه المدينة التي تفتنكم لم تُخلق في يوم وليلة، وإنما هي عُصارة العزائم الشداد في الأجيال الطوال. فمن أقام في القاهرة وله عقل وذوق فليحاسب نفسه على اللمحات واللحظات ليؤدي الزكاة عن قلبه وعقله وذوقه إن كان من الموفّقين، وإلا فهو نفاية ملفوظة في المدينة (القاهرة) التي تنكر خمود الغرائز وجمود الأحاسيس

هنا القاهرة!

أي، والله، هنا القاهرة. وما أسعد من يرى القاهرة أول مرة!

لقد فتنت هذه (القاهرة) من زاروها في هذه الأيام للاشتراك في المؤتمر الطبي العربي، وحمدوا الله على أن جعل للعروبة مدينة مثل القاهرة تتكلم اللغة العربية. فإن لم تكن القاهرة أعظم مدينة في العالم كله فهي بالتأكيد أعظم مدينة في الشرق بفضل ما جمعت من الخصائص الذاتية التي تحكم لها بالفضل على جميع مدن الشرق، وليس ذلك بالقليل

ولكن أين من يعرف أننا بسبب هذه العظمة أشقياء؟

أين من يعرف أن القاهرة لا تعظُم من يوم إلى يوم إلا لتزيد أعبائنا في الحياة؟ وإلى المنصفين من إخواننا في الشرق أقدّم الظاهرة الآتية ليعرفوا في أي جحيم يعيش القاهريون

في كل بلد من بلاد الشرق يستطيع الرجل الوسط أن يعيش لأن الدنيا في بلاد الشرق لا تزال تتسع للأوساط من الرجال

أما مصر - ويرحم الله أهل مصر! - فليس فيها للرجل الوسط مكان

العالم الوسط لا يستطيع العيش

والأديب الوسط لا يجد الرزق

والمغني الوسط يضيع

والطبيب الوسط لا يجد ثمن الدواء حين يمرض

والصحفي الوسط لا يملك الوصول إلى خبر صغير

والمثل الوسط قد لا يجد الفرصة لشهود رواية صغيرة، فضلاً عن القدرة على الاشتراك في التمثيل

القاهرة تقول في كل وقت: كن قاهريّاً

وهل يستطيع كل مصري أن يكون قاهريّاً؟

أليست القاهرة هي التي فرضت الخمول على مئات من الشعراء لأنهم لم يكونوا في عبقرية شوقي وحافظ وصبري ومطران؟

أليست القاهرة هي التي فرضت الخمول على مئات من الكتاب لأنهم لم يكونوا في عظمة محمد عبده وعلي يوسف وعبد العزيز جاويش ومصطفى المنفلوطي ومحمد المويلحي؟

ومن كتّاب اليوم وشعراء اليوم؟

عندنا مئات من الكتاب والشعراء، ولكنهم سيموتون بغصة الحسرة على أن نشئوا في القاهرة لهذا العهد، عهد الزحام العنيف الذي لا يسلم من كربه غير الفحول الصوّالين

لقد قيل إن الرحمة فوق العدل. فأين نحن من الرحمة وأين نحن من العدل؟ أين من يرحم الأديب الوسط أو يعدل في الحكم على الأديب الوسط فيقضي بأن من حقه أن يعيش لأنه قد يكون أقدر من بعض الذين خلّدهم أبو الفرج الأصفهاني؟

وأين الراحم أو العادل الذي يقول بأن في شعراء اليوم، الشعراء الذين أخملتهم القاهرة، من يفوق عشرات من شعراء (اليتيمة) و (الذخيرة) و (قلائد العقيان)؟

القاهرة لا تتسع أبداً لغير الأفذاذ الذين يغلبون الزمان

وهنا جواب السؤال الذي يوجَّه إليّ في كل يوم:

(كيف يتسع وقتك لكل ما يَصدُر عن قلمك من الدراسات الأدبية والفلسفية؟)

وهل عندي وقت وأنا موظف مسئول أمام الواجب؟

إنما أنا قاهريٌ يحبس نفسه في البيت يوم العيد ليحفر بسنان القلم ثقباً يتطلع منه على ضوء العظمة القاهرية عساه يُقنع القاهرة بأنه رجل مجاهد يستحق أن يعيش

فإن رأيتم قاهرياً يصنع مثل الذي أصنع فاعرفوا أنه رجل مكدود يحاول الظفر بكلمة ثناء من المدينة العاتية التي حكمت بألا يعيش فيها غير من يقدرون على أمواج المحيط في غضبة العواصف الهُوج، ودهرُنا كله عواصف هُوج يتفزّع من هولها المحيط

لا تصدقوا أبداً أننا نسعى في سبيل المجد، فذلك مَطلبٌ لا يخطر لنا في بال، وإنما نسعى للخلاص من شماتة الشامتين وسفاهة الكائدين

آه ثم آه!!

لو كان الماضي ينفع لجاز لرجل مثلي أن يعتمد على ماضيه في خدمة الحياة الأدبية والفلسفية، ولكن القاهرة تعبس في وجه الرجل الذي يعتمد على ماضيه، لأن ذاكرتها تضيق عن مراجعة الأسماء، أسماء المجاهدين الذين عطروا باسمها أرجاء الشرق. هي حسناء لعوب لا تعرف غير العاشق المزوَّد بأطايب الثروة والعافية. فيا ربّ كيف أكون في وطني يوم يتعب قلمي فأنصرف عن الخلوة إليه في يوم عيد؟ حتى يوم العيد نقضيه في نضال؟

في مثل هذا العيد من سنة 1932 كذبت على أبي مرة، ولم أكذب عليه غير تلك المرة. كتبت إليه أقول إني سأقضي أيام العيد في الإسكندرية فلا ينزعج أهلي إن حرمتني هذه النزهة من الأنس بهم يوم العيد في سنتريس

فهل قضيت تلك الأيام في الإسكندرية؟

لم تكن إلا حيلة لأحبس نفسي أيام العيد في البيت لأكتب فصلاً من فصول (النثر الفني) وهو الفصل الخاص بتطور السجع في اللغة العربية

وهل يصنع بنفسه هذا الصنيع إلى قاهري تقهره القاهرة على النضال المميت ليجد مجالاً في المدينة التي تصطرع فيها أقلام المازني والعقاد والزيات والبشري وهيكل وطه حسين، ومن إليهم من الباحثين الذين سيموتون قبل الأوان بفضل الكفاح الموصول؟

القاهرة لا تعرف الرجل الوسط، فافهموا هذه الحقيقة يا أبناء هذا الزمان، وإلا فهناك (سلّة المهملات) تنتظر الألوف ممن يراسلون الجرائد والمجلات؟

يمنّ علينا من يحمله التلطف على القول بأن القاهرة عاصمة الشرق. فهل تعرف القاهرة أن أقلامنا هي التي صاغت لها تلك العقود من الثناء؟ وكيف وعندها (سفح المقطم) الذي وسع الألوف من أجسام العبقريين؟

زرت سفح المقطم منذ أعوام لأستوحي روح ابن الفارض قبل أن أشرع في كتابة الفصل الخاص به في كتاب التصوف الإسلامي، فراعني أن أعرف أن تلك الناحية هي أنفع مكان في القاهرة من الوجهة الصحية. وكذلك أيقنت أن القاهرة تدخر أجمل بقاعها للأموات. وما أحسبها تصنع ذلك وفاءً، وإنما أخشى أن تكون أرادت التنبيه إلى أن عظمة الرجل في مصر لا تكون إلا بعد الموت!

يرحمك الله أيها القلب الذي يشغله الكفاح عن ملاهي العيد!

الآن، وقد انتصف الليل أو كاد، أفكر في مصيري بين قومي أفكر في الشباب المضيَّع بلا لهو ولا فُتون!

وهل كنت أول من ندم على الشباب المحروم!

ولكن، هل أملك غير الذي صنعت وغير الذي سأصنع؟

فيا أيها الوطن الغالي، تذكَّر ثم تذكر. تذكر أنني كنت ولا أزال مجنون ليلاك! فإن رأيتني صدفتُ عن أفراحك في يوم عيد، فاعرف أن ذلك لم يقع عن جهل أو عقوق، وإنما هي إرادتك العالية التي قضت بأن يعيش أبناؤك وهم دائماً في حومة قتال!

وما أدعوك، أيها الوطن، إلى التصدق عليَّ بنظرة عطف، فأنا لا أقبل الصدقات، وإنما أدعوك إلى مقابلة الجميل بالجميل، فإن رفق الآباء يزيد في بِر الأبناء!

وطني! لقد شقيتُ بعظمتك، ومن أجل هذا أحبك وأستعذب الصاب والعلقم في هواك!

وطني! إليك أسلمتُ قلبي وعقلي، فخذ بزمامي إلى حيث تشاء، يا أنضر دوحة تغنّت فوقها البلابل، ويا أجمل روضة رنَّت فيها القبُلات، ويا أطهر بقعة أقيمت فيها المحاريب، ويا أشرف صحيفة أرهفت آذانها الواعية لصرير القلم البليغ.

زكي مبارك