الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 344/الفروق السيكولوجية بين الأفراد

مجلة الرسالة/العدد 344/الفروق السيكولوجية بين الأفراد

مجلة الرسالة - العدد 344
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 05 - 02 - 1940


للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

الفروق العقلية

ما هو الذكاء؟. . . سؤال طبيعي ومعقول بعد هذه المقالات المتعددة التي شغلت الوفير من صفحات الرسالة. ولعلي لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال بأكثر مما يجيب القارئ عن هذه الأسئلة: ما هو الزمن؟ وما هي الكهرباء؟ وما هو الثقل؟

والحقيقة أننا حين نقيس الذكاء لا نقيسه مباشرة، لأننا لم نصل بعدُ إلى معرفة طبيعته ومكوناته، وإنما نقيس مظاهره في الحياة والتصرفات والأفعال الذكاوية للإنسان. والمفروض علميّاً أن كل إنسان عنده قدر من الذكاء قل أو كثر، بل إن الرأي الحديث في علم النفس هو أن بعض الحيوان الأعلى كالشمبانزي والغوريلا والكلب على نصيب من الذكاء يظهر في تصرفاته

ولقد حاول علماء النفس منذ أن وضعت أول مقاييس للذكاء أن يحدوه، ولكنهم ما وصلوا إلى رأي متفق عليه. وفي سنة 1921 نشرت مجلة علم النفس التربوية الأمريكية آراء لأربعة عشر عالماً نفسيَّاً كلٌّ يحاول أن يعرف الذكاء. وكان تعريف ترمان صاحب المقاييس المشهورة بأنه (القدرة على التفكير المعنوي المجرد) وعرفه كلفن بأنه (القدرة على التعلم)، وعرفه بكنجهام بأنه (القدرة على العمل والتصرف تصرفاً إنتاجياً تحت ظروف معينة). ومهما يكن من أجوبتهم فإنها تدل على أنهم لم يتفقوا على تعريف الذكاء الذي أنفقوا السنوات الطويلة في بحثه ووضع مقاييس له

وفي سنة 1924 صدر تقرير من وزارة التربية البريطانية وضعته لجنة اشترك معها قادة رجال التربية وعلماء النفس الإنجليز للبحث في قوى الذكاء المختلفة، والاختبارات السيكولوجية المناسبة لها. ويشير هذا التقرير إلى أن هناك ثلاث نظريات شائعة حول تعريف الذكاء

النظرية الأولى هي نظرية من يعتبره نتيجة وأثراً لبضع ملكات أو وظائف عقلية عامة. وتعزى هذه النظرية لألفريد بينيه السيكولوجي الفرنسي. وهو يقول في بعض مقالاته عن مقاييس الذكاء: إنه يقيس بها ملكة الإرادة، وملكة الانتباه، وملكة الحافظة، وملكة التعقل. ثم هو بعد ذلك يتحدث عن الذكاء في مقالة أخرى فيقول: (إن للذكاء ملكة أساسية أصلية، تلك هي ملكة الحكم على الأشياء، وإن شئت فسمها الحاسة العملية. وهي الملكة التي بها يكيف المرء نفسه للظروف المختلفة. . .) ثم هو ينشر مقالاً في مجلة (العام السيكولوجي) في سنة 1909 بعنوان (ذكاء ضعاف العقول) يرى فيه أن الذكاء العام هو صفة عقلية ذات ثلاثة وجوه على الأقل: (1) إدراك المعضلات والمسائل والاتجاه العقلي المناسب لحلها وتنفيذها (2) القدرة على التكيف المناسب الضروري للوصول إلى غاية معينة (3) القوة التي بها يستطيع أن ينقد المرء نفسه

والنظرية الثانية هي نظرية من يرى أن الذكاء إنما هو لفظ يطلق على مجموعة من القدرات العقلية الخاصة المستقلة. وهذه القدرات موروثة ويرتبط بعضها ببعض بنسب مختلفة. وصاحب هذه النظرية هو البروفيسور إدوارد لي تورندايك. وهو يرى أن الطفل إذا كانت قدرته العقلية الموروثة على فهم مسائل الحساب ممتازة وظاهرة فإن ذلك يرجح أن قدرته العقلية الموروثة على فهم موضوعات الجغرافيا فوق المتوسط. ويقول: إن الفرد الذي له قدرة عقلية ممتازة في نوع من الأعمال لترجح هذه القوة فيه أن القوى العقلية الأخرى فوق المتوسط). ويعود فيقرر أن هناك ثلاثة أنواع من القدرات الذكاوية الخاصة والموروثة، وهي الذكاء الذي يظهر في فهم معاني الكلمات والأفكار المعنوية المجردة والذكاء الحركي أو المهارة العملية في استعمال الأيدي، والذكاء الاجتماعي، أو القدرة على التفاهم والانسجام مع من يتصل بهم الفرد في المجتمع. ومن أنصار هذه النظرية أيضاً البروفيسور جودفري تومسون

والنظرية الثالثة وهي الشائعة المعتمدة الآن هي التي تقول بوجود عامل عقلي رئيسي عام يؤثر في كل ما يدركه الفرد، ويؤثر في كل المعليات الادراكية الخاصة التي يقوم بها الفرد. ومن أنصار هذه النظرية ويليام شترن الألماني. ويعرف الذكاء بأنه (القدرة على التهيؤ العام للمعضلات الجديدة وظروف الحياة). والأستاذ كارل سبيرمان الذي زار مصر في العام الدراسي الماضي وحاضر في الجامعة وخارجها. أعلن سبيرمان في سنة 1904 النظرية المشهورة (بنظرية العاملين) - وفيها يرد على القائلين بأن القوى العقلية مستقلة بعضها عن بعض - كما في النظريتين السابقتين - ويقول بوجود عامل مركزي مشترك بين جميع القدرات العقلية. ويسمى هذا العامل بالعامل العام ويرمز له بالحرف وهذا العامل يختلف من فرد لآخر، ولكن يبقى ثابتاً في الفرد الواحد، وبوجود عوامل أخرى خاصة مستقلة إلى حد ما بعضها عن بعض وتختلف قواتها في الفرد الواحد ويرمز لها بالحرف وسنرمز للعامل العام الجامع هنا بالحرف (ج)، وللعامل الخاص بالحرف (ص). فكل عملية عقلية - على رأي سبيرمان - إنما هي نتيجة مؤثرين: العامل العام الجامع وهو ثابت في الفرد الواحد، والعامل النوعي الخاص بهذه العملية. فقدرة الفرد على حل معضلة حسابية تتوقف على مقدار العامل الذكاوي العام عنده، وعلى العامل النوعي الحسابي الخاص، والحال كذلك في الأعمال الموسيقية والفنية. وقد يكون العامل العام قوياً عند فرد ولكن العامل النوعي الخاص بالرسم مثلاً ضعيف عنده. وقد نجد فردين والعامل العام عند أولهما أقوى منه عند الثاني، على حين أن العامل الخاص بقرض الشعر عند الثاني أقوى منه عند الأول. ولذلك نجد الثاني شاعراً أجود من الأول، مع أن الأول أذكى من الثاني - إن صح هذا التعبير سيكولوجياً، ولا يدخل العامل العام في كل العمليات العقلية بنسبة واحدة، بل نجده في بعضها قوياً وفي بعضها ضعيفاً، فهو يدخل في المسائل المنطقية والتي تحتاج إلى استنباط علاقات أكثر من دخوله في عمليات الرسم النظري مثلاً أو العزف على البيانو. ويفسر سبيرمان هذا بأن بعض العمليات العقلية أكثر تشبعاً بالعامل العام من البعض الآخر. ولكن بِمَ نسمي هذا العامل العام؟ أنسميه الذكاء بالمعنى العادي الذي يفهمه الناس، وهو في الحقيقة جزء من هذا الذكاء بالمعنى العادي؟ إن سيبرمان ليكره أن تطلق كلمة الذكاء بالمعنى المعروف عند الناس على هذا العامل العام، ولكن لا بأس من أن ننفق اصطلاحاً على تسمية هذا العامل العام الثابت بالذكاء

ثم يعود سبيرمان ويزيد عاملاً ثالثاً يسمى العامل الطائفي. وذلك أن أية عملية عقلية كحل مسألة حسابية عن القسمة مثلاً تتوقف على ثلاثة عوامل: العامل العام (ج)، والعامل النوعي الخاص بهذه العملية (ص)، والعامل الثالث هو العامل الطائفي (ط) الذي يدخل في كل المسائل الحسابية من جمع أو طرح أو قسمة الخ، ويسمى وقد أثبتت التجارب وجود عدد من هذه العوامل أو القدرات الطائفية أهمها: القدرة الحسابية، والقدرة اللغوية، والقدرة العملية أو الميكانيكية والقدرة الموسيقية، والقدرة الفنية ومن أنصار هذه النظرية الأستاذ سرل برث، وقد عرف الذكاء بأنه: (كفاية عقلية عامة موروثة) , ' وقد أجرى تجارب كثيرة لقياس ذكاء الأطفال بالمدارس الأولية في ليفربول وأكسفورد ولندن، ووضع مقاييس تناسب الأطفال الإنجليز. وبناها على قياس القدرات العقلية العالية كإدراك العلاقات بين الأشياء. وهو يرى - بعد التجارب - أن هذه القدرات العقلية العالية متشابهة بين الأبناء والآباء ولذلك فهي موروثة. وهو يقول بوجود ذكاء عام وقدرات خاصة كتلك التي ذكرها سبيرمان. . .

ومع أن علماء النفس لم يتفقوا بعد على ما هو الذكاء الذي يقيسونه، فإنهم متفقون على (ما هو ليس بالذكاء). فهم متفقون على أن الذكاء ليس الخلق ولا المزاج والعاطفة. وهم متفقون على أن الذكاء ليس المعارف المكتسبة بالتعلم، ولذلك يجب ألا تتعرض مقاييسه لما يعرفه الطفل بالتعلم: كالقراءة والهجاء والحساب والجغرافيا. وكذلك هم متفقون على أن أي موهبة خاصة محدودة - كالموهبة الشعرية أو الموهبة الموسيقية - لست المقصود بالذكاء، لأن الذكاء عامل عام يدخل في كل العمليات العقلية الخاصة ومن بينها الشعر والموسيقى

عبد العزيز عبد المجيد