مجلة الرسالة/العدد 343/رسالة الفن
→ الأدب في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 343 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1940 |
دراسات في الفن
فكرة. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- أين قضيت عيدك؟ وماذا نعمت به من الفن فيه؟
- قضيت العيد في البيت والشارع كما أقضي كل يوم، ولم أنعم فيه من الفن المعروض إلا بسهرة في سينما أوليمبيا الوطني الكبير شاهدت فيها فلم العزيمة.
- دائماً متأخر!
- إني على سجيتي ولكنكم تتعجلون!
- وماذا رأيت في العزيمة؟
- كمال سليم
- إنه لم يظهر في الفلم، أنا شاهدت الفلم في سينما أستوديو مصر قبل أن يعرض في أوليمبيا بشهور.
- لم يظهر إلا اسمه، ظهر بعد ما عرضت أسماء الممثلين منسوباً إليه تأليف الرواية وإخراجها.
- وكيف إذن لم تريه؟
- لأنه لم يمثل دوراً!
- آه. . . إذن، فأنت لا ترين إلا بعينيك؟ وإذن فأنت تربحين كثيراً إذا اشتغلت مخرجة سينما في مصر. . .
- ما هذه اللغة؟ تثير مسألة لتروغ من مسألة؟
- لست أنا من يلف، وإنما أنت الثابتة المثبتة لا يتنقل تفكيرك ولا يتحرك إلا إذا اقتعد قاعدة لتسير هي به. . . فأركبي ما أقول يجرك إلى ما أريد. . . إنه مادام قد ألف رجل قصة وأخرجها هو نفسه، فهو صاحب كل ما فيها وإن لم يعرض صورة بدنه للناس قانعاً بصورة نفسه التي يعرضه - آه!
- حمداً لله على السلامة
- وفيم كان قولك إني أصلح مخرجة؟
- هذه كنت أقصد بها - ولا مؤاخذة - السخرية بكثير من المخرجين في مصر. أولئك الذين يحسبون الإخراج للسينما ليس إلا عرض لوحات من الصور المتتابعة. . . والذي ذكرني بهؤلاء هو قولك أنك لم ترى صاحب العزيمة مع أنك شاهدت الفيلم، وهذا وجه شبه بينك وبين هؤلاء المخرجين الذين يعيشون في الدنيا على أنهم مخرجون وفنانون فلا يقفون بجمهورهم وشعبهم إلا عند كل لوحة ولوح. . .
- وكمال سليم من هؤلاء؟
- ألم تقولي إنك شاهدت العزيمة؟ ثم أليس لك عقل تستطيعين به بعد مشاهدة فيلم أن تحكمي على مخرجه أهو من أهل اللوحات والألواح أم هو من أهل الحياة؟ فإذا كان عقلك لا يقوى على استخلاص الحكم وحده، أفلا تستطيعين أن ترى مدى اهتمام الصحف والناس بهذا العمل الفني لتحكمي بهذا وحده على قدر ما فيه من الدسم؟
- حاسب، حاسب. . . هذه بعثرة لا أطيق التمزق معها. . . قل لي: ما رأيك في فيلم العزيمة، أو إذا شئت في كمال سليم؟
- أول كل شيء أنه ليس من أصحاب اللوحات والحمد لله. فهو مخرج له عقل وراء عينيه. ولهذا فالذي ينتظر منه دائماً خير. ولكني لست أدري إذا كان سيوفق إلى خير بعد (العزيمة) أو أنه سيظل بعدها وقتاً طويلاً إلى أن يواتيه الخير؟. . .
- ولم هذا التشاؤم؟
- لأنه حشد في هذا الفيلم (محصولاً) كان عسيراً على أن أتصوره قد أتيح لشاب في سنه. . . فإذا كان قد أتيح له كل هذا فإني أظن إنه كل ما يملك. . .
- ناس كثيرون قالوا هذا، وأنا قلته أيضاً. . .
- إه! أنت أيضاً قلته؟!. لابد إذن أن يكون الحق غير ذلك؟
- أعوذ بالله منك مشاكساً. . . رأيت رأياً، وكنت تراه، ألأني رأيته تنقض عليه؟
- التجارب علمتني أنك لا ترين الحق. . . فكلما رأيتني اتفقت معك على رأي أدركت أن عقلي نائم. . . إسمعي، لاشك في أن صور الحياة وحوادثها هي موارد المؤلف والمخرج، ولكن الذي لا شك فيه أن كل صورة مفتاح إلى صور، كل صورة منها مفتاح صور، وأن كل حادثة مفتاح إلى حوادث، كل حادثة منها مفتاح إلى حوادث. وهذا شيء لا نهاية له، ولهذا كان الفنان يستطيع أن يجعل من الحبة قبة كما يقولون
- كلام معقول. فانقضه لأني اقتنعت به
- قد كنت أنقضه لو كنت سبقت إليه. . .
- إذن فانقض ما يأتي: صور الحياة وحوادثها التي يستخلص منها الفنانون فنونهم لها ناحيتان: إحداهما وراء الأخرى. أما الأولى فهي الناحية المادية المتجسدة ولا يستطيع إنسان أن ينكر ما فيها من جمال وروعة لا يخلوان من المعاني، والناحية الأخرى هي تلك الناحية الشفافة (الغائرة) في أعماق هذه الصور والحوادث، وهي أيضاً فيها جمال وروعة ومعان. وللناحية الأولى مخرجون يشغفون بها ويهتمون، وللناحية الثانية مخرجون، وهناك مخرجون لهم في هذه وفي تلك. وعلى كل صورة وحادثة من صور هاتين الناحيتين وحوادثهما تنطبق القاعدة التي قررتها أنت وهي أن كل صورة مفتاح لصور، وأن كل حادثة مفتاح لحوادث. فكما أن أصحاب الصور والحوادث المعنوية لا تفرغ من عندهم الصور والحوادث، كذلك لا تفرغ الصور والحوادث المادية من عند أصحابها لأن آيات الله لا نهاية لها، ولأن كل آية منها مفتاح لآيات كل منها مفتاح لآيات. . . انقض هذا، أو قل لي لماذا تفضل أصحاب المعاني على غيرهم؟
- من قال لك إني أفضل أصحاب المعاني على غيرهم. . . هؤلاء وأولئك من غير شك فنانون
- حرت معك. . . ألم تسخر من أصحاب اللوحات والألواح. . . أنت؟!
- يا هذه!. . . إنما كرهت منهم أن يتركوا ميدانهم وأن يعملوا في السينما، هؤلاء الواحد منهم يصلح لأن يكون مصوراً بالفوتغرافية، يجمع ما يشاء من صور الناس الذين يحلون في عينيه، ومن صور المناظر التي تروقه، ومن صور الحوادث التي يقابلها وتعجبه. . . ليعرضها في (فترينة) أو ليطبعها في كتاب؛ أما أن يلصق عدداً من هذه الصور بعضها إلى بعض ويقول للناس تعالوا شاهدوني إني أخرجت فيلما، فهو إذن يسخر من الناس ويستحق منهم السخرية. . . فالسينما لم تعد كما كانت منذ نصف قرن (صوراً متحركة) يرضى جمهورها (بالزغللة)، وإنما أصبحت السينما اليوم (سينما) أول ما يطلبه جمهورها فيها شيء (يدلك) أرواحهم، فإذا لم يعطهم العاملون في السينما هذا كانوا كأصحاب المقاهي الذين يسقون قصادهم بدلاً من البن فولاً محمصاً مطحوناً مغلياً قهوة لا تمس الأعصاب وإن كان فيها غذاء للمصارين
- لو ضربت لي مثلاً يوضح ما تقول؟
- لو ضربت مثلاً لغضب الدكتور زكي مبارك؟
- زكي مبارك؟ وما له هو والسينما والإخراج وما إلى ذلك؟
- إنه صديق الناس جميعاً ولا يحب من أحد أن ينقد أحداً. . . إن فيه طبع المسالمة
- لم يقلها عنه أحد، فالناس يعرفونه يناوش الحجر. . . أنسيت معركته مع الأستاذ أحمد أمين؟
- هذا لأن الأستاذ أحمد أمين (ابن كاره) كما يقولون. . . وعلى أي حال مالنا نحن وهذا. . . ألا تحبين أن نعود إلى ما كنا فيه فنتحدث عن العزيمة. . .
- فلنعد. . .
- فلنعد. . . ما رأيك فيها؟
- لقد كنت أنت الذي تبدي الرأي فأتمم حديثك. . .
- لقد قلت ما كنت أريد أن أقوله. . . أليس لك أنت ملحوظة. . .؟
- لي. . . وهي إن كانت لا تدل على ضعف في الإخراج، فهي تدل على ضعف في نفس المخرج. . .
- يا عظمة! وما هي ملحوظتك هذه يا مدموازيل فرويد. . .
- لقد عني كمال سليم عناية كبيرة بتقديم أبطال قصته بطلاً بطلاً قبل أن يدخل في صلب الرواية، وأظنه لم يفعل هذا إلا لأنه خشي لو بدأ الرواية من غير هذا التقديم أن يضطرب النظارة فلا يحددون كل بطل من أبطالها التحديد الصحيح أو التحديد الذي يريده هو على الأقل. . . وهذا ولا شك اعتراف منه بأنه عاجز عن أن يقدم الأبطال في تلافيف الحوادث تقديماً واحداً - قد يكون هذا، وقد يكون انه لا يحسن الظن كثيراً بالجمهور المصري، فهو يكلف نفسه في هذا التقديم، وإن كان يعرف فيما بينه وبين نفسه أنه تقديم لا لزوم له. . . أليس لك ملحوظة أخرى؟
- لي. . . وهي أيضاً وإن كانت لا تدل على ضعف في التأليف ولا في الإخراج فهي تدل على فراغ في رجولة كمال سليم. .
- ما شاء الله. . . إن عقلك اليوم منساب. . . ما ملحوظتك هذه؟
- ليس في روايته امرأة
- ماذا كانت فاطمة رشدي؟!
- بنتاً. كانت بنتاً حتى بعد أن تزوجها البطل. فقد كانت تنساق بسهولة لما يثيره فيها الناس ولما تثيره فيها الحوادث من النزعات، وكانت تقف مواقف صريحة قاطعة، وليس هذا من طبع المرأة وإنما هو في طبع البنت أقرب ما تكون إلى الطفولة والسذاجة. ليست المرأة التي أخرجها كمال سليم امرأة وإنما هي طفلة. . .
- ربما يرجع هذا إلى أن كمال سليم نفسه حينما أحب. . . أحب طفلة صغيرة هي التي أخرجها بطلة لهذا الفيلم. . . ولعله قد حدث له بعد ذلك ما أبعد بينه وبين المرأة، وما زاد على ذلك، حتى حمله على كراهية النساء، فكانت كل نساء الفيلم ما عدا البطلة وأم البطل بغيضات مُنْكَرات أخرجهن جميعاً ولهن مآرب ملتوية وأغراض خاطئة خبيثة. فمنهن من تبيع بنتها وتقسو على زوجها، ومنهن من تسخر في الكارثة، ومنهن من تحرض على السخرية فيها، ومنهن من تفرح لها وتشمت. . . وهذه الكراهية للمرأة التي تسمينها أنت فراغاً في الرجولة يعوضها في هذا المخرج تمكن ظاهر من نفوس الرجال، واهتمام ظاهر بنفوس الصبيان، فقد وفق كمال توفيقاً تاماً في اختيار أبطال قصته من الرجال، وفي إسناد كل دور للممثل الملائم له القادر عليه حتى إنه لا يستطيع الناقد مهما أشتد ومهما تحامل أن يشير إلى ذات واحدة من ذوات الفيلم ويقول إنها قلقة في مكانها غير مطمئنة إلى دورها، وقد أتيح هذا التوفيق لكمال لأنه فيما أعتقد لا يكره رجال الدنيا ولا يحبهم وإنما هو يعيش بين الناس متفرجاً متفحصاً مختبراً متعلماً متذوقاً. . . ولا ريب أن هذا هو الذي أفاده في اختياره لأبطال روايته. . .
- والصبيان؟. . .
- لقد جعل لبطلة الفيلم أخاً ولم يكن في القصة ما يوجب أن يكون للبطلة أخ. ولكنه لم يستطع أن يحبس ما يجيش في نفسه من الإلمام بأحوال الصبيان، فتنفس عن هذا الصبي الذي جعله أخاً للبطلة وعرضه في صورة من (السهتنة) والخبث المتظاهرين بمظهر البلاهة والبراءة. . . وليس هذا عجباً من فنان ينفر من النساء، ويحب الفتيات الصغيرات، ويستغرق في عشرته للرجال تأملاً ودراسة. . . أنها طبيعته وظروف حياته، ولو كان لي أن أقترح على هذا المخرج موضوعاً لفيلم جديد فإني أقترح عليه أن يسرع إلى موضوع تجري حوادثه في مدرسة للبنين ابتدائية، أو ثانوية. . . ولا يكون في هذا الفيلم امرأة على وجه الإطلاق، وإنما يكون فيه ناظر ومعلمون وتلاميذ وفراشون. . . ولن يستطيع أحد أن يعترض على هذا النوع فقد سبقتنا أمريكا إليه واستقبلته الجماهير بالارتياح والإعجاب، وقد برز من ممثليه سبنسر تراسي، وفريدي بارتولوميو، وميكي روني. . . كما برز من مؤلفيه مارك تواين. . .
- وهل تحسب كمالاً يوافقك؟. . .
- أنا لا أطلب منه أن يوافقني اليوم، ولكني أبشره بأن هذا النوع هو نوعه، ولا يبعد أن يقتنع بهذه الفكرة قريباً أو غير قريب فيخطو بالسينما المصرية هذه الخطوة الجديدة. . . وإني أحس أن في نفسه أن يصنع شيئاً جديداً. . .
- ولكن أين يجد المخرج الذي يريد هذا - الممثلين بين الأطفال والصبيان بينما أنت ترى أن في مصر أزمة ممثلين وممثلات. . .
- يا ما فيا لمدارس، ويا ما في الشوارع، ويا ما في البيوت! وإني واثق من أن كمالاً إذا بحث وجد. . فإن فيه القدرة على أن يجد. . .
- صديقك كمال أليس كذلك؟
- والله إني لم أراه ولم أعرفه. ولكني رأيته في فنه عيوبه قليلة، ومميزاته هي هذه التي ذكرناها وهي كما ترين جديرة بالاهتمام
عزيز أحمد فهمي