مجلة الرسالة/العدد 342/من عيون الأدب الإنجليزي
→ الفروق السيكلوجية بين الأفراد | مجلة الرسالة - العدد 342 من عيون الأدب الإنجليزي [[مؤلف:|]] |
من وحي الديوان ← |
بتاريخ: 22 - 01 - 1940 |
مرثية في مقبرة ريفية
لتوماس جراي
للأستاذ محمد مندور
المدرس بكلية الآداب
ليست معرفتي (بجراي بنت ألامس. ولقد سمعت شباب الجامعة بكمبردج يرددون مقطوعاته، وفي جمال اطرادها ما ينسيني هوى نفسي وعهدي بها نزاعة إلى الجائش المضطرب اضطراب نزوات الحياة عندما يسحق عمقها. ومن قديم وصف بوالو هذا النوع من الاضطراب الجميل بأنه منبع آيات الفنون
ولطالما سألت نفسي عن سر إصغائها إلى (جراي) على بعد البون بين ما ألتمس في نفوس الشعراء وما جبل عليه هذا الصديق، فما وجدت جواباً غير راحة النفس المضناة تجد في اطراد النغمات مسكناً لما يجيش فيها بالألم
وفي الحق أن الشعر الإنجليزي لا يعرف قصيدة أمعن من مرثية جراي في اطراد الوزن ونقاء المبنى. فالقصيدة تنتظم رباعيات متعانقة القوافي متلاحقة التفاعيل في غير زحاف ولا علة، بحيث ينطلق فيها البصر، والنفس تلاحقه في يسر ينزل منها منزلة قطرات المطر تتساقط موقعة على زجاج نافذة، فإذا بالنفس قد هدأت وسكن جائشها إلى اطراد النغم. ومن منا يتردد إذن في صداقة رجل كهذا؟
لم يعرف (جراي) ثورات النفس ولا مغامرات الهوى، وفي انتظام حياته ما يملأ القلب إعجاباً، فقد أنفق عمره يطلب العلم بكمبردج، وكأني به يطلب إلى العلم سلوى عن طفولته البائسة. طفولة طفل يولد لأبوين متفاوتي المشارب حتى ليستحيل على أحدهما أن يسكن إلى الآخر
ولأمر ما يحلو لي دائماً أن أتصور (جراي) رقيق النفس رقة النسمات المتهافتة؛ وفي ميوله ما يغربني بهذا الظن، فلقد أولع الرجل أشد الولع بأغاني تلك الأغاني الشعبية التي كانت ولا يزال يرددها سكان جبال إبقوسيا، وساقه أوسيان إلى أساطير البلاد الشمالية يستلهمها سذاجة الشعر قانعاً بما تعطيه من بديهي المعاني دون ما يمكن أن يكون خلف ذلك من رمز بعيد
وما كان لجراي وتلك طبيعته أن ينصرف عن آداب روما وأتينا ونفوس منشئيها في غضاضة نفسه يوم ابتسمت الإنسانية ابتسامة الطفل توقظه من مهده رقة الصباح. . . نعم ابتسمت الإنسانية فملأت الطبيعة بخيالها الضاحك، وإذا بعرائس الشعر ترقص في كل مكان، وإذا بعذب الأساطير يوقع نغمات ذلك الرقص
هامت نفس (جراي) في هذا العالم المسحور فطرب لآثارهم أيما طرب وود أن لو كان من عشيرتهم فقال الشعر باليونانية وباللاتينية، حتى لأحسب هذا الطرب قد بلغ في نفسه مبلغ الشهوة، ونحن في ذلك لا نتجنى عليه مادمنا نؤمن أن نفساً لا تعرف الشهوة لا يمكن إلا أن تعقم إن لم تتحطم
وأنفق جراي حياته بغير زواج ولا ولد بين جدران كمبردج يستمع إليها تقص من أنباء الماضي أجمل القصص، واطردت حياته على تلك الوتيرة حتى دلف إلى سكون الموت
عاشر جراي هومير وفرجيل، فرقت نفسه، ونزعت إلى المثل الأعلى نزوع الطبع المصقول. واتفقت له أثناء ذلك رحلات رأى فيها من جلال الطبيعة ما يسمو بالقلوب قدر ما يلهب الخيال. وكلنا يذكر كيف قاد روسو تلميذه إلى قمم الجبال ليهديه السبيل إلى ربه
أتى (جراي) إلى الألب بفرنسا وحط رحاله إلى جوار (جرينوبل) حيث يقوم معبد الرهبان المتوثقين
هنالك تنهض الجبال عاتية وقد كستها الغابات يرتفع إليها البصر فيعود محملاً بأعمق الآيات ترددها النفس بذكر الله. هنالك يملأ القلب شعور ديني بتفاهة الحياة وإذا بنا نود أن لو استحلنا إلى مثل دمعة عيسى التي زعم الشعراء أنها استحالت إلى ملاك رحمة وسعت رحابه كل نفس حتى نفس إبليس. هنالك يستقر في الحواس إحساس بالجمال يتمثل صوراً تأخذ النفس كارهة أو راضية إلى حيث تلتمس أطيب المثُل. وما غفل جراي عن شئ من هذا، ففي خطاباته لصديقه لكل ذلك أجمل الذكرى
وخالس (جراي) الزمن مرة أخرى فانطلق إلى حيث تنتثر البحيرات الصغيرة بين الجبال فيما يشبه قبلات العذارى على وجه السديم، انطلق إلى إيقوسيا حيث السكون الرهيب لا تحركه إلا نغمات الناي يرسلها الرعاة من أعلى الجبال فتنساب بين الوديان أو تطفو على سطح المياه وكأنها من روح الله، ونفذ كل ذلك إلى قلب (جراي) فقيد (بيومياته) التي طالما باركناه أن تركها لنا دليلاً يأخذ بنا إلى حيث نرجو أن نجد الجمال
وكرت الأيام و (جراي) يطهر من نفسه إلى أن بلغ ولعه بالمثل الأعلى تلك الدرجة الجميلة التي نجدها عند الكثير من هؤلاء المطهرين الذين لا يزال إنجلترا تغص بهم رغم وفرة من ترحلّ منهم إلى أمريكا حيث وجهوا النفوس هذا الاتجاه الذي أنتج أمثال (نلسن) ممن بلغ بهم الإيمان بالمثل الأعلى مبلغ السذاجة المقدسة
وما كان جراي بحاجة إلى روسو ليحنو على الضعفاء أو ليقدر سذاجة النفوس قدرها، وفي نفسه وفي ملابسات تلك النفس ما يقوده إلى حيث انتهى في تلك المرثية الخالدة التي كفلت للشاعر الخلود، والتي لم تكد تنشر سنة 1750 حتى تناقلتها جميع الألسن، وحتى أخذت الأمهات أطفالهن بحفظها كما نفعل نحن ببعض آيات كتابنا الكريم، وأكبر ظني أنه حتى اليوم لا تزال تلك القصيدة أكثر القصائد انتشاراً بين القوم في جميع أنحاء إنجلترا
قال (جراي):
1 - دق ناقوس المساء ينعى النهار المدبر، وانسابت القطعان متهادية ثاغية خلال المروج، واتخذ الفلاح المضني سبيله إلى مأواه في خطى متثاقلة مخلفاً العالم لي وللظلام
2 - وتضاءل ما بقى من ضوء خفيف، فامحت من البصر آفاق الطبيعة، وأخذ سكون رهيب يسود الفضاء فلا تسمع إلا الجعل يرسل دوي أجنحته في كل فج، أو أجراس القطعان تنهنه ما انبسط من مروج تنشر فوقها غفلة الكرى
3 - أو نعيق البومة المحزن يحمل إليك من برجها النائي وقد كساه متسلق النبت ما ترسله من شكوى إلى القمر إذ مر بمأواها العتيق الموحش عابرو السبيل فأقضوا منها المنام
4 - تحت هذا النّشم والى ظلال هذا السرو سكن أجداد القرية في نومهم الأخير، كل في قبره الضيق حيث ترتفع تلك الكثبان المنهارة وقد علاها ضعيف الحشائش
5 - رقدوا في متواضع مضاجعهم رقدتهم الأبدية، فما لنسمات الصباح العطرة، وما لتغريد النغير يرسله من أسقف أكواخ العشب، وما لصياح الديك النافذ، أو لما يتردد صداه من صوت البوق، أن يوقظ لهم رقدة 6 - رقدوا فما للموقد أن يرسل إليهم بعد اليوم لهيبه؛ وما لربة بيتهم أن تخف إلى مهامها إذا جاء المساء، وما للأطفال أن يهرولوا إلى أمهاتهم يتمتمون إليهن رجعة أبيهم، ومالهم أن يتسلقوا أرجله يتناهبون ما يتقاتلون عليه من قبلات.
7 - لكم تساقط الحصاد تحت ضربات مناجلهم! ولكم شقت أسنة محاريثهم ما شقت من جوف الغبراء! بأي نشوة كانوا يسوقون قطعانهم إلى الحقول؟ وبأي يسر كانت أشجار الغابات تطأطأ لهم من هاماتها ما أعملوا فيها معاولهم القوية؟!
8 - ما للكبرياء أن تحقر جهودهم المنتجة ومسراتهم العائلية وذكرهم المغمور؟ وما لعظماء هذه الحياة أن يبتسموا احتقاراًلصغار المهام التي شغلوا بها أيامهم؟
9 - وألقاب الفخار، وأبهة السلطان، وكل ما يمنحه المال والجمال. كل هذا ساعة الحتف له بالمرصاد، إذا أن سبل المجد لا تقود إلى غير القبر!
10 - وأنت أيها المتغطرس: ليس لك أن تلومهم إذا لم تر الأسلاب قائمة فوق قبورهم تخلد ذكراهم حيث تتردد أناشيد النصر في القباب الممتدة، وتحت الأقواس المزينة بالتماثيل، حاملة نغمات المديح. . .
11 - وهل لأجمل الأواني نقشاً، أو لأنطق التماثيل بالحياة. أن ترد إلى مأواه ما تصاعد من نفس؟ وهل لأصوات الفخار أن تبعث الحياة في صامت التراب؟ وهل للملق أن يلين من مسامع الموت البارد القاسي؟!
12 - من يدرينا لعل في هذه البقعة المهملة قلباً كانت تسكنه أنوار السماء؟ أو يداً كانت تستطيع أن تأخذ بصولجان الملك، أو توقظ الناي إلى حد الإلهام؟
13 - ولكن العلم لم ينشر أمام أبصارهم صفحاته الطويلة التي أغناها بأسلاب الزمان. فلقد أطفأت برودة الفقر نبل حماستهم، وجمدت مجرى العبقرية في نفوسهم.
14 - كم من جوهرة نقية الشعاع صافيته، ظلت مخبوءة في أعماق المحيط؟ وكم من زهرة تتورد بعيداً عن الأبصار، ثم ترسل عبيرها هدراً إلى بيداء الفضاء؟
15 - من يدرينا، لعل هنا يرقد (هامدن) قريته وقد ثبت بقلب جسور لصغار الطغاة بريفه، أو (ملتون) آخر صامتا ًعارياً عن المجد، أو (كرومول) ثانٍ نقى اليد من دم وطنه.
16 - أما تحريك أيدي النواب بالتصفيق، وأما احتقار صيحات التهديد يرسلها الجائعون والمتألمون، وأما در الخير على الأرض المتهللة، وأما قراءة تاريخ الشعوب في أعين أهلها. . .
17 - فذلك ما حرمهم منه القضاء. على أنه لم يمنع فقط حميد خصالهم عن أن تزهر؛ بل منع أيضاً جرائمهم من أن تستفحل. منعهم أن يخوضوا الدماء إلى العروش وأن يسدوا منافذ الرحمة عن العباد
18 - منعهم أن يخفوا وخزات الضمير إذا أخفيت الحقيقة التي يعلمونها، أو أن يطفئوا حمرة الخجل البريء. منعهم أن يلتمسوا من آلهة الشعر يضرمون بها أضواء المباخر التي يكدسونها ف وق مذابح الكبرياء والرفاهية
19 - عاشوا بعيدين عن المعارك المزرية تعتركها الجماهير المعتوهة فما ضلت بهم المتواضعة. عبروا وادي حياتهم الوارف البعيد عن الجلبة بخطى صامتة مطردة
20 - على أنه حفظاً لعظامهم أن تهان ينهض بالقرب من هذا المكان تمثال ضئيل تزينه قواف خشنة وتماثيل ممحوة الصور. نهض هذا التمثال ليستدر عابر السبيل واجب الزفرات
21 - أسماؤهم وأعمارهم خطها آلهة مقلة من آلهة الشعر لتكون لهم بمنزلة المجد والرثاء فانتثرت حولهم النصوص المقدسة تحدث حكيم الريف كيف يموت
22 - إذ ما من نفس تحس أنها ستسلَم فريسة إلى النسيان وتُسلِم تلك الحياة السارة المقلقة معاً، أو تترك تلك الآفاق الدفيئة آفاق الضوء دون أن تلقي إلى الوراء نظرة الحسرة، نظرة الرغبة المتباطئة. . .
23 - فالنفس الراحلة تسكن إلى صدر محبوب، والأعين المغلقة تستدر دموع الوفاء؛ ومن أعماق القبور يصبح صوت الطبيعة كما لا يخمد الوميض فيما يخلف من رماد
24 - أما أنت وقد حرصت على هؤلاء الموتى المغمورين فقصصت نبأهم في شعرك الساذج، فمن يدرينا لعل نفسا ًقريبة إلى نفسك تقودها الوحدة إلى السؤال عن مصيرك
25 - ولعل شيخاً أبيض الرأس من شيوخ الريف يجيب: - طالما رأيناه عند انبلاج الصباح يكتسح بخطاه السريعة قطرات الندى مهرولاً إلى لقاء الشمس فوق القمم الخضراء
26 - وهنالك إلى جذع البلوط المتمايل - البلوط الذي يرسل جذوره المختلطة عالية بالمرتفعات - كان يستلقي ماداً كل جسمه تحت أشعة الظهيرة ثم يطيل النظر إلى الجداول تخر بجواره.
27 - طوراً يهيم بتلك الغابات وعلى شفتيه ابتسامة السخرية وقد أخذ يردد أحلام الطريق، وطوراً ينطلق في سبيله مقوس الظهر شاحب اللون من البؤس كمن تخلى عنه أحبابه أو ذهبت بعقله الهموم أو حطم نفسه حب عاثر
28 - وفي ذات صباح تفقدته فلم أجده لا على التل المعهود ولا على حافة البراري ولا إلى جذع شجرته المحبوبة، وجاء صباح آخر فما وجدته إلى جانب الجداول ولا بقمة التل بل ولا بالغابة.
29 - وفي اليوم التالي رأيناه محمولاً في طريقه إلى (القبر في حفل الموت وأناشيد الغناء تصحبه. أدن واقرأ (مادمت تستطيع القراءة) تلك المرثية المنقوشة على الحجر تحت أشواك هذه الشجرة العتيقة):
ما على القبر
1 - تحت هذه الأرض يرقد في راحته الأخيرة شاب جهله المجد كما جهلته الحظوظ. كان نصيبه من العلم نصيباً متزناً بينما وسمته الأحزان بميسمها
2 - واسعةً كانت طيبةُ قلبه، ومخلصة كانت نفسه، وبقدر تلك الطيبة وذلك الإخلاص كافأته السماء
لقد جاد على البؤساء بكل ما يملك، وما كان يملك إلا دمعة. أنالته السماء كل ما تمنى، وكل ما تمناه كان صديقاً
3 - لا تحاول أن تفض الغلاف عن حسناته، أو أن توقظ سيئاته من مكمنها المخيف. فقد اجتمعت الحسنات إلى السيئات متساوية في أمل مضطرب مفزع: أمل من أوى إلى أحضان أبيه، أحضان ربه
ولو علم (جراي) يوم أن كتب تلك المرثية الخالدة أنها ستفتح له أبواب المجد إلى الأزل لعلم أن فتاه ما كان للمجد أو للحظوظ أن تنساه، وفي نفسه هذا المزيج العجيب من قوة الفكر وروعة التصور ورقة العاطفة
تلك الرقة التي حملته على أن يحصر كل ما يتمنى أن تهبه السماء في صديق. وفي الحق أني لا أدري أنبل من نفس تستطيع أن تخلص الصداقة، والصداقة أبعد المشاعر عن غرائزنا التي نجدها عادة في أسس كل شعور قوي.
قهرت الصداقة الحب في نفس جراي الصافية الرقيقة، بحيث لو أنني أردت أن أضع على لسانه عبارة عن صداقته لهوراس ولبول، لما وجدت خيراً من كلمة مونتين الخالدة، وقد فقد صديقه لابويسيه: (لقد كنا نقتسم كل شيء مناصفة، حتى فقدته فأصبحت اليوم لا أصيب خيراً إلا أحسست أني من صديقي العزيز النصف الذي كان يؤول إليه).
وأما اليوم، فليس لنا إلا أن ندعو الله أن يبارك تلك الأرواح الظاهرة في ملكوت رحمته.
محمد مندور