الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 340/على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية

مجلة الرسالة/العدد 340/على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية

مجلة الرسالة - العدد 340
على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 01 - 1940


الفصل بين القيم الذاتية

ظاهرة من ظواهر الرقي

للدكتور محمد البهي

كما أن من ظواهر المدنية والحضارة في سياسة الأمة الفصل بين السلطات المختلفة، كذلك من ظواهرهما في وزن الأعمال وتقدير الإنتاج الفردي (الفصل بين القيم الذاتية)، لأن الثقافة تنوعت تبعاً لتنوع الحياة، واصبح لكل نوع من أنواعها قيمته الخاصة لأنه يؤدي غرضاً في الحياة بعينه لا يعوض من طريق آخر.

والنظرة إلى إنسان اليوم غيرها إلى إنسان الأمس، أو يجب أن تكون غيرها، لأن له واجباً في الحياة، وعليه تبعة نحو المجتمع، وله قيمة في أية ناحية من نواحيها. فالشعبي والأرستقراطي سواء في القيام بالتكاليف العامة، وفي استحقاق التقدير على أداء الواجب المكلف به. إلا أن بعض القيم، قد يختلف لا من حيث ذاته، وإنما من حيث نظرة المجتمع إلى ناحية من نواحي الحياة التي تتصل به.

فقيمة الفرد قد تكون في علمه، فهو صاحب قيمة علمية؛ وقد تكون في فنه، فهو صاحب قيمة فنية؛ وقد تكون في سلوكه، فهو صاحب قيمة خلقية؛ وقد تكون في موهبته الاقتصادية، فهو صاحب قيمة اقتصادية؛ وقد تكون في إصلاحه، فهو صاحب قيمة إصلاحية. . . وهلم جرا. وكلها متساوية في ذاتها إلا أن المجتمع وما يسود فيه من نظرة إلى الحياة هو الذي يخص بعضها بالتفضيل. فإذا كان المجتمع مثلاً متشعباً بفكرة الإنسانية كان اتجاه تقديره إلى الصفة العلمية. وإذا كان متديناً أو يغلب عليه إقحام الدين والعادات والتقاليد في آرائه كانت نظرته الأولى في التقويم إلى الصفة الخلقية. وإذا كان في حاجة ماسة إلى الإصلاح الإداري أو الاجتماعي لم يكد يعرف في حكمه على الإنتاج الفردي غير القيمة السياسية. وهكذا في الناحية الفنية من أدب وموسيقى وتمثيل وتصوير. . . الخ

وعلى الفصل بين هذه القيم والاعتراف باستقلالها الذاتي درجت مدنية القرن العشرين، وقام التهذيب الحديث، وتأسس الإصلاح الاجت فغاية مدرسة اليوم أعداد الفرد للتمييز بين نواحي الحياة والاعتراف أدبياً. بكل مجهود في أية ناحية من نواحيها. غايتها عداده لأن يكون موضوعياً في حكمه على الإنتاج الفردي غير متأثر بميوله ورغباته أو بالإيحاء والتقليد. غايتها تهيئته لأن يكون مستقلاً، وهذا هو السبب الذي من أجله لا يأنف الأوربي أو الأمريكي من مزاولة أي عمل. ومن أجله لا يبخس الغربي قيمة أي فرد في إنتاجه ولا ينظر إليه شزرا إذا كان دخله من عمله أقل من دخله هو مثلاً. هذا هو السبب الذي من أجله ملك الأوربيون كل ميادين النشاط الاقتصادي تقريباً في البلاد الأسيوية والأفريقية

والإصلاح الاجتماعي الحديث يقوم أيضاً على الاعتراف بالفرد - وهو غير الفردية - وهذا معناه الاعتراف بقيمته في أية ناحية. هناك طبقات، ويظهر أن وجودها ضرورة اجتماعية لداعي رابطة خاصة تربط فريقاً من الناس، ولكل طبقة قيمتها. وتفضيل طبقة على أخرى لغلبة نظرة من نظرات الحياة في وقت بعينه؛ ولكن ليس معنى هذا التفضيل احتقار الطبقة الأخرى وإهمالها، لأن الإهمال لم يعد الآن وسيلة من وسائل الحياة المتحضرة، كما أن الاحتقار لم يصبح في جملة الأحكام التقديرية

والطابع الاجتماعي للقرن العشرين الآن هو المساواة. وطابعه السياسي الديمقراطية. حتى داخل الحكومات الديكتاتورية، فهذه قامت على هدم تحكم إحدى الطبقات في الأخرى. قامت على الحدِّ من الرأسماليين والتضييق على الأرستقراطيين

وحقاً إن الفصل بين هذه القيم والاعتراف بذاتيتها من ظواهر التمدن ورقي الإنسان، لأنه دليل على عدم على عدم إدخال الرغبات والميول، أي على عدم إدخال الناحية الشخصية في الحكم على عمل الغير وإنتاجه. والفرد لا يطلب حقاً في الحياة أكثر من الاعتراف بقيمته الذاتية في أية ناحية، لأنه على أساس هذا الاعتراف سيعيش معتداً بنفسه، وسيعمل جاداً في عمله، ومسروراً من عمله لأنه لا غنى - في نظره إذاً - لمجتمعه عنه. والمجتمع لا يطلب أكثر من اشتراك أفراده في بناء صرحه، ولا أكثر من أن يشعر كل فرد بسعادته الشخصية ومتعته النفسية

والعصور الماضية إذا قيست بعصرنا الذي نعيش فيه كانت ميزتها في الخلط بين هذه القيم وعدم التفريق بينها عند إصدار الأحكام التقديرية. فقيمة الفرد تهمل، ووجوده يهمل كذلك إذا كان إنتاجه في غير الناحية التي ينظر إليها المجتمع ويطلبها لعوامل خاصة. فالعالم صاحب القيمة العلمية أو الفنية كثيراً ما اضطهد، ولم يهمل وجوده فحسب، لأن سلوكه في بحثه كان على أساس النقد وعدم التسليم مبدئياً بما فرضه عليه وقته من عقيدة وقد كانت الناحية التي تقوم في ذلك الوقت، وبجانبها تهمل كل ناحية أخرى في التقويم، هي الناحية الدينية أي السلوك طبقاً لأوامر رجال الدين. وبعض الطبقات كان يستعبد ويباع ويشرى، وهي طبقة الرقيق، لان الناحية التي كانت تقدر حينئذ ناحية الشرف والجاه، وليس لهذه الفئة من جاه من ثروتها أو ثقافتها

وهذه الظاهرة، وهي ظاهرة الخلط وإهدار القيم الأخرى ما عدا قيمة الناحية المطلوبة، تشبه في تطور الأمم ظاهرة الطفولة في أدوار نمو الإنسان. فالطفل لا يميز ذاته عما في بيئته؛ وبعبارة أخرى لا يعرف قيما للأشياء إلا بقدر ما تشبع بعض رغباته أو تلبي بعض ميوله. فالحسن عنده ما انتفع به، والقبيح هو ما لم يستطيع السيطرة عليه؛ فأمه (حُوَّة) إذا لبت رغبة له، و (كُخَّة) إذا منعت عنه بعض ما يطلب

وبالتالي ظاهرة الفصل بين القيم والاعتراف باستقلالها عند أمة من الأمم تحاكي دور النضوج وبلوغ الرشد العقلي لدى الإنسان. فقدرة تصرف الرشيد معناها التمييز بين النافع في ذاته والضار في ذاته. معناها الاعتراف بالقيم الذاتية واستقلالها

لنا الآن أن نسأل أنفسنا: في أي طور من أطوار النمو تعيش الأمة المصرية؟ هل بلغت طور الرشيد أم تجاوز بعد دور الطفولة؟

لنرجع إلى وصف ما يسود فيها من طاهرة تتعلق بإصدار الأحكام التقديرية، وعلى أساس هذا الوصف المميز يمكن أن نعرف في أي طور تعيش

طبيعي أنه يسود مجتمعنا ككل مجتمع إنساني نظرة معينة في الحياة. والنظرة الغالبة في مجتمعنا النظرة الدينية أو نظرة التقاليد. وسواء أكانت سيطرة هذه النظرة على مجتمعنا الآن دليلاً على تغلب الناحية (اللاشعورية) وهي ناحية النزعات، أم دليلاً على (إدراكه) لأهمية الدين في تكوين المجتمع فإن ذلك لا يعنينا فيما نحن بصدده.

هل مجتمعنا يعترف بقيمة الفرد العلمية أو الفنية، السياسية أو الإصلاحية أو الاقتصادية إن خرج في سلوكه الفردي عما رسمته التقاليد؟ ألا يحكم عليه بالفسوق والمروق - على الأقل - عن التقاليد والأخلاق القومية إذا ما أنكر في بحثه بعض التقاليد أو بعض مبادئ هذه الأخلاق؛ وبعبارة أخرى إذا لم يسر وفق ما تتطلبه نظرتنا في مجتمعنا إلى الحياة؟

أغلب الظن أن هذا هو الذي يقع بالفعل. فالعالم جاهل لأنه (متفرنج) أي مقلد غير ما هو شعبي مألوف بيننا، وزنديق لأنه يرى (الاجتهاد) من ضروريات العصر، وهو غير مألوف أيضاً في أبحاثنا. والمفكر لا خلق له، أي ليست له قيمة بحسب نظرة المجتمع لأنه يميل إلى النقد وعدم الإذعان لكل ما هو مألوف في نقلنا الثقافي

وإذا تجاوزنا دائرة العلم والبحث إلى العلاقات الاجتماعية، وجدنا الصديق ينكر على صديقه بالأمس كل قيمة لأنه لم يف بوعد ربما ألجئ لأسباب خاصة إلى عدم الوفاء به. ووجدنا الزميل يأبى إلا تجريد زميله من كل اعتبار لأنه ينافسه في زمالته، وربما كان شريفاً في منافسته. ووجدنا الرئيس يفحص قيمة مرؤوسه لأنه أخذ - أي المرؤوس - عليه خطأ في تصرفه أو خالف المألوف من تملقه. . .

كذلك نجد بعض الأعمال مفضلاً على بعض، وبعض المهن يرفع حتى الذروة، والبعض الآخر يحط من شأنه حتى الحضيض. نجد عامة الشعب لا يُعتَرف بوجودها عملياً، بينما نجد خاصته تمثل دور حكام الإقطاعيات

فنواحي النشاط المختلفة في الحياة، وأنواع الثقافات المتعددة، لم تأخذ بعد في مجتمعنا قيمتها الذاتية. وتقديرها في الغالب مبني على التأثر بما يسود المجتمع من نظرة إلى الحياة ورأى بعينه فيها، مبني على التأثر بالعنصر الشخصي والرغبات والميول

ولهذا أظن أن مجتمعنا لم يزل دور الطفولة، لأنه لا يفصل في تقدير الأعمال وتقويم الإنتاج الفردي بين القيم الذاتية بعضها تجاه بعض، كما لا يفرق بينها وبين ذاته وشخصه.

محمد البهي