الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 34/صندوق الكتاكيت

مجلة الرسالة/العدد 34/صندوق الكتاكيت

بتاريخ: 26 - 02 - 1934


للاستاذ أحمد أمين

كان أمس، من أيام الشتاء المشهودة: ريح صِرّ، وليل قَرّ، حتى خَصِرَت اليد، وقفقفت الأسنان، ويبست الأطراف، وتجلّى (أمشير) بأجلى ما وسم به من هَوَج ورَعَن. حتى لو كان طفلاً لسال لعابه، أو رجلا لسقطت عنه االتكاليف.

ثم انجلى الليل عن صبح بديع: سماء صافية، وشمس مشرقة، حاولت أن آتي لهما بتشبيه جديد، فكانت الشمس في السماء أجمل من كل تشبيه قديم وحديث.

غادرت حجرتي إلى حديقتي الصغيرة المتواضعة فوجدت خادمي قد سبقت، فاخرجت صندوق الكتاكيت إلى الشمس لينعم ما فيه بحرارتها ودفئها - وقع عليه نظري، وصادف ذلك مني تفكيراً في موضوع للرسالة.

شعرت إذ ذاك بشخصيتين من نفسي تتناظران مناظرة عجيبة عنيفة اسجلها للقراء:

لم لا يكون (صندوق الكتاكيت) موضوعاً طريفاً؟

إنه مووضوع تافه لا يليق بأستاذ في جامعة، ولا بمدرس، ولا بمساعد مدرس - إن الجامعيين وأمثالهم يجب أن تكون موضوعاتهم في أعلى السماء، أو أعمق الأرض، ويجب أن تصبغ بصبغة ميتافيزيقية، ويكون فيها الجوهر والعرض، والكمية والكيفية، والأنِّيّة والعلية. أما صندوق الكتاكيت فموضوع يثير الهزؤ والسخرية، ويستخرج من النفس عاطفة الازدراء والاحتقار.

ليس ذلك بصحيح، فكل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مس الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الاشياء فكرة بديعة، أو رأياً طريفاً. لقد قال تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما، بعوضة فما فوقها، والكتكوت خير من البعوضة من جميع الوجوه، فالبعوضة منبع ألم، والكتكوت منبع لذة - والبعوضة إذا كبرت كانت أقوى على اللدغ وأقدر على الايلام، بنفسها وبمنتجاتها، والكتكوت إذا كبر كان دجاجة أو ديكاً، يسيل لعاب الانسان إذا تصوره على مائدة أنيقة، أو تخيّله وقد أنضجه طاه ماهر.

وضب الله الذباب مثلا فقال تعالى (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباّ ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعُفَ الطالب والمطلوب) وأ الذباب من الكتكوت؟ وقد سميت في القرآن الكريم سور منه بالبقرة والنحل والنمل والعنكبوت.

وقرأت لأديب كبير لا أذكره الآن مقالا بديعاً في زنبار أراد أن يخرج من شباك فاصطدم بزجاجة، وحاول مراراً أن يخرج فلم يستطع، فاستخراج الكاتب من ذلك قطعة فنية طريفة في الحرية والاسترقاق، وكيف يبحث الزنبار عن حريته فلا يجدها، ثم هو لا ينساها مهما صادفه من عقبات، وتحمل من آلام.

وكتب فيكتور هوجر قصة طريفة عن برغوث أنقذ أمة من الأمم سلط عليها حاكم ظالم لم تستطع حمله على العدل ولا إبعاده عن الحكم.

وبعد هذا وذاك كتب مستشرق كبير معاصر كتاباً جمع فيه ما قيل من الأدب العرب في البراغيث واقترح عليه مستشرق آخر أن يسمي الكتاب (صيحة المستغيث من البراغيث) إلى ما لا يعد ولا يحصى.

إذن فنظرتك في اختيار الموضوع وأنه يجب أن يكون (أكاديمياً)، وأن يعنون عنواناً ضخماً يستعمل في اختياره كل ضروب التكلف والتعمق والفلسفة، نظرة أرستقراطية بغيضة يجب أن تتخلص منها وتهزأ بما جرى عليه العرف فيها.

على هذا النحو ظلت الشخصيتان تتناظران، وظللت أصغي اليهما وأقيد أفكارهما، إلى أن طال الاخذ والرد، وأشفقت على القراء من استرسالهما في الجدل، وحاولت أن أبتعد عن الصندوق، وأهرب من الموضوع فلم أستطع.

أيها الكتكوت! فيك كل معاني الحياة ومشاكلها ومظاهرها. فاسمك - أولا - كتكوت ويجمع على كتاكيت، ولم أدر من أين أتى لك بهذا الاسم، فقد راجعت القاموس المحيط ولسان العرب، وغيرهما من كتب اللغة، فلم أجد فيها هذا اللفظ للدلالة عليك، ولا يستعمله الا أهل مصر. أما أهل الشام والعراق فلا يعرفونه - أتعمدت اللغة إهمالك لحقارتك؟ ذلك ما لا أظن، لأني أعلم أن اللغة ديمقراطية تعنى بالجليل والحقيرعلى السواء، بل اللغة العربية مفرطة في الديمقراطية فقد وضعت لأتفه الأشياء أسماء تعد بالمئات، واحتقرت أشياء عظيمة فلم تضع لها اسماً للآن كالراديو والبيانو ومئات من المخترعات الحديثة، بل هم وضعوا لك اسماً آخر هو (الفرخ) ولكن الفرخ غير مقصور عليك، شاركك فيه كل صغار الطيور حتى استعملوه أحياناً في صغار الشجر والنبات، على انهم وضعوا لك اسم (الفروج) فلم يطلقوه على غيرك من صغار الحيوان ولكنهم أشركوا معك فيه نوعاً من أقبية وأمثالها ولعل العامة كانوا أنصف لك فوضعوا لك اسماً خاصاً، ومن أولى التخصص منك؟

ولكن - مع كل هذا - لا أدري من اين أتى اسمك (الكتكوت) فسأتركك لعلماء اللغة والاشتقاق ومقارنة اللغات، من سريانية وآرامية وفارسية وعبرية، لعلهم يجدون لك أصلاً - وعلى كل حال فقد أثبتَّ أن فيك مشكلة من مشكلة الحياة العظمى، وهي مشكلة اللغة، وستثبت مشكلة أخرى أعظم من هذا وأعقد فهب أن علماء اللغة استنكروا هذه الكلمة فأين سلطانهم على لفظك الذي تداولته العامة ونطقت به قروناً.

فهل إذا صدر قرار بمحو هذه الكلمة لأنها ليست عربية يسمع ويطاع. على أي وجه من الوجوه أنت مشكلة حتى في اسمك هذه هي الخادم قد رمت الحب للكتاكيت، فلا تسأل عما كان بينها من خصام ونزاع، ومباراة وسباق وضرب وطعان

وهل الانسان الا هذا - وهل تاريخ حياته الا نزاع وصراع وقد عبروا عن ذلك أصدق تعبير فقالوا، ان الحياة جهاد - أو ليس أكبر باب من كتب التاريخ هو تاريخ الحروب والفتوح، واعلان الحرب، ومعاهدات الصلح. وكل الفرق بينك ايها الكتكوت وبين الانسان أنك استعملت في جهادك ونزاعك منقارك الوديع وجسمك اللين الغض وجاء الانسان الراقي فاستعمل في الحصول على غذائه الكذب والخديعة والرياء والنفاق، واستعمل في مدافعة خصومه كل طر الكيد والدهاء، واستخدمت الجماعات في حربها كل أنواع المدمرات والمهلكات - وقد أعطى الانسان عقلا أرقى من عقلك لينظم عيشه فأفسده، ولينظم السلم فنظم الحرب، وليعاون أخاه فعاداه.

- أيها الصندوق!

فيك تنازع البقاء وبقاء الاصلح، فيك استكانة الضعيف وغلبة القوى، فيك الضعيف يكره العراك، وفيك القوي يصول ويجول، ويدعو إلى النزال - فيك الجمال وفيك القبح

- استأنست ايها الكتكوت بالانسان صغيراً، ثم علمتك التجارب ففررت منه كبيراً.

وكنت مادة صالحة للغذاء كما كنت مادة صالحة للادب، فمن قديم استعيرت منك الاستعارات اللطيفة، والابيات الجميلة، فقد قال الشاعر أرى فتنهة هاجت وباضت وفَرّخَتْ ... ولو تُرِكَتْ طارت اليها فراخها

وفي حديث عمر. يا أهل الشام تجهزوا لأهل العراق فان الشيطان قد باض فيهم وفرخ

ثم قالت العامة (الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح) وأخيراً، فيك سر الحياة الغاض - كيف دبت الحياة فيك يوم كنت بيضة، وكيف تطورْتَ جنيناً، وكيف نبض قبلك لاول مرة، وكيف خرجت إلى هذا الوجود، وكيف تموت ولم خرجت، ولم تموت؟ لو أفصحت لنا عن كل هذه الاسرار لكشفت سر الوجود، ولما كان هناك مجال لفسلفة ولا حكمة ولكنك أعجزت الفلاسفة، إذا كتمت سرك بين جناحيك فهامت الفلاسفة علىوجوهها، وارتبكت في تفكيرها.

إذن فيك ايها الصندوق الصغير، كل ما في العالم الكبير، من معاني الحياة وغوامضها وأسرارها، وفيك كل مظاهر الانسان على تبجحه وغروره - وفيك ما حير العقول قروناً، وأجهد الفكر أجيالاً - وهل العالم الا لغز، لو حل جزؤه لحل كله.

أحمد أمين