الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 34/صفحة من تاريخ افغانستان المعاصر

مجلة الرسالة/العدد 34/صفحة من تاريخ افغانستان المعاصر

مجلة الرسالة - العدد 34
صفحة من تاريخ افغانستان المعاصر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 02 - 1934


لمناسبة حوادثها الاخيرة

للاستاذ محمد عبد الله عنان

في الثامن من نوفمبر الماضي سقط نادر شاه ملك أفغانستان السابق قتيلاً برصاص طالب أفغاني في احدى حدائق كابول اثناء حفلة رياضية كان يشهدها الملك القتيل، فخسرت أفغانستان بذهابه أميراً قوياً حازماً لبث مدى أربعة أعوام يشرف على مضايرها ويعمل لتنظيم شئونها وتوطيد سلامها في ظروف عصيبة.

وكانت أفغانستان قبل أن يتبوأ عرشها نادر خان قد اضطرمت باحدى هذه الثورات القومية التي يتميز بها تاريخا منذ أواخر القرن الماضي، والتي تدفع بها دائماً إلى فترة من الفوضى الخطرة، وتجعل من عرشها مثار معارك طاحنة بين الزعماء والمتغلبين، ومن استقلالها هدفاً تعلم السياسة الاجنبية ما استطاعت للنيل منه؛ وكان عرشها بعد أن غادره الملك السابق أمان الله في صيف سنة 1929 فراراً من نقمة شعبه قد تداوله اثنان في بضعة أشهر، أولهما عناية الله أخو أمان الله الأكبر، والثاني حبيب الله أو باشا سقا، الزعيم الثائر: وكانت أفغانستان تمزقها الحرب الاهلية حينما جاء اليها نادر خان وزير الحربية السابق في أواخر سنة 1929 من مقامه في أوربا، وانتزع كابول من يد الثائر وقبض عليه وأعدمه، ثم نادى بنفسه ملكاً، واستطاع في أشهر قلائل أن يقمع الفوضى وأن يعيد إلى أفغانستان نوعاً من السكينة والاستقرار.

ولم يكن مقتل نادر شاه (نادر خان) مفاجأة ولا حادثاً غير عادي في تاريخ أفغانستان الحديث؛ فعرش أفغانستان يرتجف دائماً فوق بركان من المنافسة الدموية؛ وقد قتل في الفترة الأخيرة من ملوك أفغانسان عدة، أولهم حبيب الله خان الذي قتل سنة 1919. ولو لم يبادر الملك السابق أمان الله بالفرار لكان نصيبه هذا المصير الدموي. بيد أن هذا العرش الخطر ما فتئ يغري زعماء القبائل والاسر الأفغانية؛ وتخشى أن تعود هذه المعركة الخالدة على العرش فتضطرم غير بعيد في أفغانسات، وان كان الامير الفتى ظاهر شاه ولد نادر شاه قد جلس على العرش غداة مقتل أبيه، واتخذت في الحال كل أهبة لاخماد كل نزعة للخروج والثورة. فقد كان نادر شاه يحكم أفغانستان مدة الأعوام الاربعة الماضية بقو وذكاء، ولكنه لم يستطع رغم عزمه وحزمه أن يخمد كل عوامل الانتقاض والفوضى التي تضطرم بها أفغانستان منذ أواخر عهد الملك أمان الله؛ وقد نشبت في عهده غير ثورة أخمدت دائماً في سيل من الدماء، ومازال الملك السابق أمان الله يتربص فرص العودة إلى عرشه، وما زالت تؤازره في أفغانستان بقية من أنصاره، هذا إلى أن القبائل الافغانية القوية في الشرق والشمال الشرقي مازالت تعيش في نوع من الاستقلال الاقطاعي، وتتردد بين تايد العرش والخروج عليه حسبما تملي عليها مصالحها أو حسبما توجهها المؤثرات الاجنبية في كثير من الاحيان.

والحقيقة أن أفغانستان تجد نفسها منذ نحو قرن من مركز حربي وسياسي يكاد يحرمعليها الحياة الهادئة. فهي تقع بين الهند البريطانية من الشرق، وبين التركستان الروسية من الشمال، وتكون بذلك ملتقى الجذب بين سياستين استعماريتين قويتين تتنازعان السيادةوالنفوذ في أواسط آسيا، وتلتقيان دائماً في ذلك الاقليم الجبلي الوعر، الذي يحد نفوذهما ويفصل بين أراضيهما، اعني أفغانستان. والشعب الافغاني لا يتجاوز أربعة ملايين جلهم من القبائل الجبلية، ولكنه شعب قوي بخلاله الطبيعية ونزعته العسكرية يعتصم دائماً بهضابه الوعرة، ويحرص على استقاله أيما حرص. وإذا كان تجاذب السياستين البريطانية والروسية يعرض افغانستان بين آن وآخر إلى تيار النفوذ الأجنبي، فان أفغانستان من جهة أخرى تتخذ من هذا التجاذب أداة لتدعيم استقلالها، وتجعل منه دائماً وسيلة لاقامة التوازن بين السياستين المتنافستين. بيد أن السياسة البريطانية التي تقدر أهمية افغانستان في حماية حدود الهند الشمالية الغربية من الغزو الروسي، تحرص دائماً على أن تكون راجحة النفوذ والكلمة، ولا تترد في تأييد هذا التفوق في السهر على مصاير أفغانستان بالقوة القاهرة. وأفغانستان تعرف أنها لا تستطيع أن تتخلص من هذا النفوذ دون أن تعرض استقلالها للخطر؛ وقد أنست هذا الخطر في تاريخها الحديث غير مرة إذ غزتها الجيوش الانجليزية في سنة 1838، ثم في سنة 1878؛ وعرض استقلالها للضياع في المرتين. وما زالت السياسة البريطانية إلى يومنا تقوم بدورها التاريخي في السهر على توجه شئون أفغانستان وتطوراتها.

ونستطيع أن نرجع من مرحلة التاريخ الأفغاني المعاصر إلى أواخر القرن الماضي، أو إلى عهد الأمير عبد الرحمن خان الذي تولى العرش عقد تطورات الحرب الأفغانية الإنكليزية الثانية، سنة 1884؛ فقد استطاع هذا الأمير القوي لأول مرة أن يحطم سلطة القبائل الاقطاعية، وان يخضعها لصولة العرش، واستطاع أن ينشئ لأفغانستان جيشاً نظامياً حسناً، وان ينظم الضرائب والموارد العامة؛ وتمتعت افغانستان في عهده بعد طويل من السكينة والاستقرار في ظل ادارة قومية صارمة. ثم توفى عبد الرحمن سنة 1901 وخلفه على العرش ولده حبيب الله خان. واستطاعت السياسة البريطانية في تلك الفترة ان توطد نفوذها في أفغانستان؛ وكان حبيب الله برغم حرصه على استقلال افغانستان الداخلي، يصانع السياسة البريطانية ويتقي اثارتها ما استطاع؛ وفي عهده بلغ النفوذ البريطاني ذروته في توجيه سياسة افغانستان الخارجية، ولا سيما في علائقها مع روسيا القيصرية، وتضاءل النفوذ الروسي إلى أعظم حد ولما نشبت الحرب الكبرى حافظ حبيب الله على صداقته مع بريطانيا العظمى، وقاوم كل مسعى بذلته المانيا لتحريض افغانستان على نقض هذه الصداقة، ثم تُوفي قتيلاً في أوائل سنة 1919، فخلفه اخوه نصر الله؛ ولكن ثورة نشبت بقيادة امان الله ثالث اولاد حبيب الله انتهت بعزله. وتبوأ أمان الله العرش في ربيع هذا العام وهنا كان تطور حاسم في تيار النفوذ الخارجي؛ وانتهزت روسيا السوفيتيه، هذه الفرصة لتسترد نفوذها الذاهب، فعاونت امان الله على انتزاع العرش من عمه، واستعملت كل وسيلة لمقاومة النفوذ الانكليزي والقضاء عليه؛ وذهب امان الله في خصومته للانكليز االى حد أنه دفع بجنده إلى اجتياز الحدود الهندية، ولكن الانكليز ردوها في الحال وعبروا الحدود الافغانية إلى (دكا) وأرغموا امان الله على عقد الصلح، ولكن بشرط أن تعترف انكلترا باستقلال افغانستان (اغسطس سنة 1919).

وكانت روسيا من وراء أمان الله تؤيده وتوجه خططه؛ وكانت انكلترا من جانبها تقدر هذا العامل الجديد في تطور حوادث افغانستان، وتتحاشى الاصطدام بروسيا السوفيتية، وتعمل لاتقاء دسائسها ما استطاعت، وأفغانستان من جانبها تجني ثمرة هذا النضال بين الدولتين الخصيمتين. بيد أن السياسة البريطانية لم تعدم وسيلة للاتفاق مع امان الله؛ ففي سنة 1921 عقدت في كابول معاهدة انكليزية افغانية جديدة، تعترف انكلترا فيها باستقلال افغانستان الخارجي والداخلي؛ وتعترف افغانستان فيها بالحدود الهندية الافغانية القائمة؛ وتنص على تبادل التمثيل السياسي والقنصلي؛ وتخول لافغانستان الحق في ان تستورد من انكلترا ما يلزمها من الاسلحة والذخائر معفاة من الرسوم. وفي سنة 1923 عقدت بين الدولتين معاهدة تجارية. ومع أن العلائق بين انكلترا وأفغانستان لبثت عاديةودية، فان النفوذ الانكليزي لم يعد إلى سابق تمكنه واستئناره، واستمر النفوذ الروسي متفوقاً في افغانستان مدى حين.

وقضت افغانستان فترة من الاستقرار والسكينة، توطدت فيها شئونها الداخلية وعلاقتها الخارجية. وفي سنة 1927 قرر الملك امان الله أن يقوم مع زوجته الملكة ثريا برحلة رسمية في بعض الدول الاوربية؛ فغادرا أفغانستان في شتاء هذا العام، ومرا في طريقهما بمصَر، وانفقا فيها بضعة أسابيع، واستقبلا اينما حلا بمنتهى لاكرام والحفاوة؛ ثم سافرا إلى أوربا وزارا ايطاليا وفرنسا وانكلترا والمانيا، وتسابقت الدول في الاحتفاء بهما واغداق الهدايا عليهما، كما تسابقت في التقرب إلى امان الله ومحاولة الحصول منه على بعض المزايا السياسية والتجارية، ولكن امان الله لم يتورط في التعاقد واكتفى ببذل الوعود. ثم غادر المانيا إلى روسيا، واستقبله

؟؟؟؟ حلفاؤه البلاشفة أعظم استقبال، وعقدت اثناء مقامه بموسكو معاهدة افغانية روسية تجارية جديدة. وأبدى امان الله اثناء رحلته اهتماماً عظيماً بمظاهر الحضارة الغربية، ولم يخف اثناء تجواله نيته في الا قتباس منها لبلاده بأعظم قدر، والعمل على تجديد افغانستان ودفعها إلى طريق الحضارة الغربية باسرع ما يستطاع، ولم تخف زوجته الملكة ثريا نيتها في العمل على تعليم المرأة الافغانية وتحريرها، وكان لهما في ذلك تصريحات رنانة مازلنا نذكرها. واستمرت الصحف الاوربية مدى حين تفيض في رحلة الملك الشرقي وفي اخباره وأعاله وأقواله، وفي برنامجه الاصلاحي، وفي آحوال أفغانستان وشئونها وأهميتها الحربية والسياسية. بيد أنه لو حط مذ قصد أمان الله إلى موسكو فتور الصحافة الغربية في الحديث عنه، ولوحظ بنوع خاص أن الصحف البريطانية أخذت تحمل على سياسته، وتنتقد زيارته لموسكو وتورطه في محالفة البلاشقة. ولم يكن حديث الصحف البريطانية عبثاً، وإنما كان دلالة اتجاه جديد في السياسة البريطانية كما سنرى.

عاد امان الله إلى افغانستان بعد أن زار تركيا وفارس، وعقد مع كل منهما معاهدة صداقة، وتأثر ايما تأثر بما رأى في تركيا من مظاهر التجديد الاوربي. ولم يضع وقتا في تنفيذ برنامجه الاصلاحي: وكان برنامجاً شاملاً تناول نظم الحكم، كما تناول كل نواحي الحياة القومية. فاما في نظم الحكم فقد ألغي أمان مجلس الحكم القديم الذي يضم زعماء الدين ومشايخ القبائل بمجلس تمثيلي يؤلف بالانتخاب، وأدخل نظام الوزارة الحديث، والغي سلطات الاشراف وزعماء الدين، وفرض الضرائب العامة المنظمة والخدمة العسكرية الاجبارية على كل أفغاني. وكان أمان الله في الناحية الاجتماعية أشد جرأة واندفاعاً وقد خيل له أنه يستطيع بقوة التشرع العاجل أن يخلق من افغانستان العصور الوسطى، أمة جديدة تتمتع بمظاهر التمدن الحديث. وكانت زوجة الملكة ثريا، وهي امرأة سورية لاتفهم روح الشعب الذي رفعت إلى عرشه، تدفعه في ذلك الطريق بعنف فاصدر طائفة من القوانين الاجتماعيةالجديدة ترى إلى تحرير المرأة وسفورها، والغاء تعدد الزوجات، ورفع سن الزواج، والزام الافغانيين بلبس القبعة والثياب الاوربية على نحو ما فعل مصطفى كمال بالترك، وأرسل إلى أوربا بعوثاً من الشباب والفتيات ليعلموا في معاهدها. وكان الشعب الافغاني يشهد هذا الانقلاب في دهشة وروعة ولا يكاد يصدق أنه المقصود بهذه الاجراءات، وفي افغانستان أمة قديمة تغلب فيها البداوة، ولم تخرج بعد من غامر القرون الوسطى، وللتقاليد الدينية والاجتماية فيها ايما هيبة ورسوخ، فوقعت هذه السياسة الجريئة في الشعب الافغاني وقع الصاعقة، وثار سخطه لهذا الاجتراء على تقاليد القرون، وقابل زعماء الدين والقبائل تلك المحااولة لسحق سلطانهم القديم بمنتهي الانكار والمقاومة، ولم تمض أشهر قلائل حتى سرى ضرام الثورة إلى ذلك الشعب المضطرم المتأهب ابداً للثورة وتحطيم أية سلطة مطلقة تحاول ارغامه على ما لا يرضى.

نشبت الثورة بسرعة لأسباب وعوامل لم تتضح تماماً. ولا ريب أن تطرف الملك أمان الله في تطبيق برنامجه الاصلاحي كان عاملاً هاماً في نشوبها بين القبائل الاقطاعية القوية التي أدركت خطر السياسة الجديدة على نفوذها واستقلالها المحلى، ولكنه لم يكن كل شيء، فقد نشبت الثورة بادئ بدئ في الولايات الشرقية المجاورة للسند، ولا سيما منطقة جلال أباد، وهي منطقة يسود فيها النفوذ البريطاني، ثم امتدت بسرعة مدهشة برغم ما بذله أمان الله لحصرها واخمادها. وقد كانت السياسة البريطانية تأخذ دائماً على أمان الله تأثره بنفوذ السوفييت ومحالفته إياهم، وترى في زيارته لموسكو وتقوية صلاته بالسوفييت تحدياً لا تحمد عواقبه. وللسياسة البريطاينة دائماً أثرها في تطورات أفغانستان الحاسمة، والمرجح انها لم تكن بعيدة عن ذلك الانفجار الذي فوجئ به أمان الله وكان خطراً على عرشه وشخصه. وقد استطاع أمان الله أن يهزم الثوار بادئ بدء، واعتقد مدى لحظة أنه سيد الموقف، ولكن الحوادث تفاقمت بسرعة وامتدت الثورة إلى الجيش، وزحف الثوار على العاصمة الأفغانية، فبعث الملك بزوجه وأسرته إلى قندهار، وفر الأجانب من كابول على متن طيارات بريطانية أرسلت من الهند، وحاول أمان الله عبثاً أن يهدئ الثورة بالغاء القوانين الجديدة التي أصدرها، فلما رأى أنه فقد كل أمل في الاحتفاظ بعرشه وسلطانه، نزل عن العرش لأخيه الأكبر عناية الله، وفي صعب، ولم يجرؤ على مواجهة الحوادث، فغادر بدوره ذلك العرش الخطر وفر ناجياً بنفسه، ودخل الزعيم الثائر باشه السقا كابول ظافراً، وتربع على العرش باسم حبيب الله. (أوائل سنة 1929) ولما رأى أمان الله تطور الحوادث على هذا النحو عاد فاسترد تنازله. وجمع فلوله وحاول السير إلى كابول، ووقعت بينه وبين خصومه معارك عديدة انتهت بهزيمته، فانسحب من الميدان أخيراً وفر مع زوجه وأسرته في مايو سنة 1929 عن طريق الهند، ثم جاز إلى أوربا منفياً طريداً، واستقر برومه، يرقبت مجرى الحوادث في أفغانستان، ونسمع صوته كلما اضطرمت أفغانستان بحادث جديد. وكان آخر العهد بتصريحاته في أوائل نوفمبر الماضي، حينما قتل المرحوم نادر شاه، فقد صرح يومئذ لبعض الصحف الكبرى أنه لا يتأخر عن العودة إلى أفغانستان، وتبوئ العرش إذا دعاه الشعب الأفغاني، ولكن الشعب الأفغاني لم يقم بمثل هذه الدعوة، وقد تبوأ ظاهر شاه ولد الملك القتيل العرش غداة مقتل أبيه.

(لها بقية)

محمد عبد الله عنان