الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 34/القصص

مجلة الرسالة/العدد 34/القصص

بتاريخ: 26 - 02 - 1934


قصة في رسالة

سيدي الطبيب:

إن المصادفات المشئومة والحظوظ السيئة، ساتقتك الي وعرفتك بي، ما كنت أظن أن أمراً تافهاً ستكون نتيجته وخيمة إلى هذا الحد!

قبل أيام وقفت عجلة كبيرة مملوءة بالأثاث أمام الدار المواجهة لدارنا، فرغبت أن أعرف وأنا في نافذتي أولئك الذين سيكونون جيراننا في هذا الصيف، فرأيتك عاري الرأس تأمر وتنهي وتساعد الخدم كلما قضت الحاجة بذلك، ثم رفعت رأسك نحو نوافد غرفتي: وكانت - ياللأسف - نافذتي مفتوحة، فرأيتني - ويا ليتك لم ترني - أجل، رأيتني وأنا أبتسم، وكنت السبب في تلك الابتسامة، لأن انهماكك في تفريغ العجلة وأوامرك التي لا حد لها ولا نهاية كانت مضحكة جداً. فالذنب إذا ذنبك وتبعته عائد عليك. ثم رأيتني مرة ثانية وأنت ترسل ستائر نوافذ بيتك، في تلك الأثناء وجهت بصرك نحو نوافذنا وابتسمت لي فهذا ذنب ثان كان منك، كنت أظن أن هذه الأشياء تافهة في ذاتها وأنها لن تبقى راسخة في مخيلتك عالقة بذهنك، ولكني في ملاقاتي الثالثة علمت أنك أعطيت ذلك من الاهتمام شيئاً كثيراً.

أظن أن ذلك كان بعد عشرة أيام، خرجت مع والدتي من البيت فرأيتك مقبلا من الشارع الذي أمامنا، ولكنك في هذه المرة لم تبتسم لي - وياليتك أبتسمت - ولو فعلت ذلك لما اكترثت بل كنت أعدك ككثير من الرجال الذي يبتسمون لكل انثى يصادفونها في طريق. انك لم تبتسم بل اصفر وجهك، وفي أقل من ثانية لم يبق فيه أثر للدم كأنه انسحب ليجتمع في قلبك فقط. ما هو سبب ذلك؟ ولماذا اصفر وجهك؟ كان يجب أن تلحظ أن حالة كهذه أمام الفتيات توجب لهن القلق وتسبب الاضطراب، وهذا الذنب الثالث أوجهه اليك أيضاً، بعد أن مررت قالت والدتي: (أليس هذا الرجل هو الطبيب الذي سكن أمامنا؟) ولا أدري لماذا كذبت عليها وقلت (لا أعرف) مع أني كنت أعرف جيداً أنك في هذا الصيف نزيل الدار التي امامنا.

وكانت مقابلتي الرابعة لك في النزهة، وفي هذه المرة لم يبخل بالابتسام فقط بلبخلت بالنظر أيضاً، يالله ما أشد أصفرار وجهك إذ ذاك! كلما ذكرت حالتك تلك، شعرت بحس غريب، وألم لا أدري مصدره، فاني لم أفعل شيئاً يوجب اضطرابك ولا أرى على أدنى تبعة يمكن ان يتحملها وجداني.

فقررت بعد ذلك أن أبالغ في الاحتياط، وأشتد في الحذر وبخاصة منك، لأن ابتسامة عن غير قصد ولا رأى أخذت موقعاً مهماً أرعبني، فقررت أنه يجب أن يقف الأمر عند هذا الحد.

ولكنك لم تقف عند هذا الحد، ولم تلحظ أن الفتاة التي ابتسمت لك عن غير قصد، وابتسمت لها لم تكن إلا طفلة لا شابة، وانها تود الآن أن تصلح خطأها.

كلما قرع جرس الباب، وكلما حدثت ضوضاء أمام الباب برز خيالك من وراء زجاج النوافذ، لقد طرأ عليك وعلى أحولك تبدل هائل خلال هذه الخمسة عشر يوماً، كنت ترى مطرقا حزينا عميق الافتكار، تمشي بطيئا جدا كأن المشي السريع سيقطع سلسلة أفكارك، تقف أمام داركم وتلمس زر الجرس الكهربائي وتلتفت نحو نوافذنا، وتنظر نظرة استرحام تدل على أن كل ذلك كان من تلك الطفلة البريئة صاحبة تلك الابتسامة.

ثم مرضت، وأخذ القدر يمشي بك نحو الهاوية التي كنت أحترس منها، لما علمت أن والدتي تود أن ترسل اليك لتعودني مانعت وطلبت طبيباً غيك، ولكني غلبت على أمري، ولو رأيتني حينذاك لعلمت جيداً كيف كنت أخشاك. لما دخلت عليّ لفحصي كنت مضطرباً أصفر الوجه، وكل ما كنت أتمناه أن يجس نبضك جاس حينما أمسكت أنت يدي لتعد نبضي. . . كنت تسعى لأخفاء اضطرابك وتخلط كلامك بالنكت اللطيفة، وتظهر عدم الاكتراث، ولكن كان تكلفك ظاهراً وكان مثلك في ذلك كمثل المغني الذي يغني أنشودته على غير توقيعها. كنت في كل مرة تدخل علي عائداً أكثر اضطراباً وأشد يأساً وتألماً من المرة السابقة، وأرى ورد خديك قد صار بهاراً كأنني كلما تقدمت نحو الصحة تقدمت أنت نحو المرض، وأخيراً بعد أن انتهى المرض ومضى دور النقاهةقلت لي بلهجة مملوءة بالحزن العميق الشامل جميع انحاء فؤادك (انك لست بحاجة بعد اليوم إلى المعالجة) وكانت نغمة صوتك تحمل معنى (إنني أنا المحتاج إلى العلاج).

إن تلك العلاقات التافهة البرئية التي بيننا كان يجب أن تقف عند هذا الحد، ولكننك أنت أبيت إلا أن تسير في هذا الطريق وأنت لا تعلم أتصل إلى نهايته أم لا؟ ان تبعة ما فعلته بعد رؤيتك لي وأنا مريضة عائدة عليك كما كانت عليك تبعة الذنوب التي كانت قبل المرض.

لقد شاهدتك البارحة وأنت جالس على كرسي في غرفتك تراقب نافذتي وأنت مشغول عن كل ما حولك إلا عن نافذتي كأن عينيك لا تشاهدان إلا ما وراء زجاجها، فسمعت صوتاً ساعدني على فهمه سكون الليل وهدوءه، سمعت صوت زوجك تناديك قائلة (لماذا لم تدخل إلى الغرفة؟) فأجبتها بحدة جواباً ظهر لي منه انك تألمت لهذا السؤال الذي قطع تلك اللذة التي كنت تشعر بها وأنت منفرد عن بقية أفراد الأسرة، قلت لها (إذا كنت تريدين النوم فنامي، إني أود أن أبقى في الشرفة).

لا أدري لماذا أكتب اليك كل هذا؟ وربما كان ذلك لتبرئة نفسي من تبعة ما كان، إني لا أدري كيف عزمت وقر رأيي على كتابة هذه الرسالة، ولست أدري ما الذي يمنعني من تمزيق تلك الورقة التي أحررها اليك؟ أنت ترى اني لم أجد جواباً لهذه الاسئلة، ولكني أرى اني تابعة لحسن خفي يسوقني لارسال هذا الكتاب اليك. تصور فتاة نشأت بين دلال الأم وعطف الأب، تقضي أكثر ليلها في مكتبة والدها تتلسى بقراءة الحكايات، وأكثر أيامها تمضي في السينما تبكي من الفواجع التي تصورها اللوحة الفضية، لا هم لها ولا غم، ولكنها تتألم الألم الناس وتحزن لحزنهم. ثم تذهب إلى مخزن الازياء فاذا عادت بما تحب قدمت إلى والدها أوراق الحساب ذات الارقام الضخمة. لم تفكر في حياتها كلها بشيء غير هذا، ولم يطرأ على حياتها طارئ الا ان شاباً ابتسمت له وهو يأمر وينهي خدمه وهم ينقلون الاثاث إلى المنزل الذي امام دارها، ثم ابتسم لها وهو يرسل سجف نوافذ المنزل، أليس الأمر حتى الآن طبيعياً؟ ولكن هذا الشاب لم يتلق هذا الابتسام كأمر طبيعي، بل ظل يراقب النافذة وهو مضطرب حائر، ثم بعد كل ذلك يرمى داخل مظلتها المغلقة وهو يمر من جانبها كتاباً من غير أن تشعر بذلك والدتها التي بجانبها، ان هذه الأشياء اخذت تخرج عن الحد الطبيعي، لذلك أصبحت الفتاة الشابة ترى أن الضحك ليس أمراً طبيعياً.

ما أشأم تلك المصادفات التي القتك في طريقي، وما أضل الافكار التي أوحت اليك وضع الورقة في مظلتي؟ ما هو الشيء الذي خولك حق رمي ورقة إلى فتاة لم تر ولو في المنام من يؤذيها أو يلعب بشعورها؟ كنت حتى اللحظة أشعر نحوك بشيء لا أدري ماذا أسميه؟ أشعر بشيء شبيه بالرحمة والعطف، ولكني منذ سمعت صوت الورقة وهي تقع في مظلتي نفرت منك نفوراً شديداً.

لقد شعرت بحس قوي يدفعني إلى أن أفتح مظلتي وأرمي تلك الورقة في الأرض، ولكني لا أدري لماذا لم أنفذ هذا العزم؟ لقد تغلب علي حب الاطلاع، وأردت أن أعلم ما الذي كتبته لي في كتابك. هل قدرت عظم ذنبك وأنت ترمي ورقتك في مظلتي؟ هل قدرت حرج موقفي في تلك الدقيقة؟ وهل قدرت أنها جناية غير قابلة للغفران؟

إن ما يشع في عينيك من النجابة ومااا يقرأ فيهما من آثار العفة يشهد بانك كنت تحت تأثير غفلة خضعت لها عن غير ارادة منك.

حينما بلغت البيت ذهبت توا إلى غرفتي وفتحت رسالتك فلم فيها ولا كلمة واحدة تثقل على سمع فتاة مثلي.

فرأيي السابق فيك كان صحيحاً. لقد أثبت لي ذلك كتابك ذو الصحائف الأربع الذي لا يحتوي على معنى تفيده جملة مركبة من أربع كلمات، فما الغاية إذن من كتابته اليّ؟ هل أظهرت لك رغبتي في الاطلاع على أنك لست سعيداً في حياتك؟ وهل طلبت منك ان تكتب اليّ ذلك في صحائف أربع؟ قرأت كتاتبك المرة تلو المرة ولم أفهم له غاية. فقلت في نفسي: إنه يعلن لي حبهن ولكن زوجته؟. . . أولاده؟. . .

في مساء أحد الأيام كان الأولاد يلعبون أمام الدار، فشاهدت ابنتك الصغيرة ذات الوجه الجميل والشعر الاشقر المحيط بوجهها احاطة الهالة بالقمر تصفق طرباً وتصيح: هاهوذا والدي قد جاء وتركض نحوك، فاذا أنت تقطب حاجبيك وتأمرها بالابتعاد عنك، وترفع عينيك نحو نافذتي، فعادت الصغيرة كئيبة حزينة، لا يقدر يراعى أن يصف لك نفوري منك وكرهي لك في تلك الدقيقة، اذن أنت في شغل بي حتى عن أولادك فأنت تنظر اليهم بقسوة وتعاملهم معاملة سيئة؟ إن حالتك هذه كافية لتشرح لي الآلام التي سببتها لتلك الاسرة التي أنت ربها.

قلت في نفسي مادمت سبباً في نفوره من زوجته وأولاده فالواجب ان تقف هذه المسألة عند هذا الحد. أخذت كتابك حينذاك وقرأته في انعام مرة أخرى، فخطر ببالي ان ارسله إلى زوجتك، ولكني عدلت وانقلب ذلك النفور الذي كنت أشعر به منذ لحظة إلى رحمة من أعماق قلبي.

وفي صباح اليوم الثاني بينما انا خارجة من البيت، ولم أكن اسدلت النقاب على وجهي شاهدتك تنزل مسرعاً من الدرج فالتقت العين بالعين، خانتك قواك عند ذلك، ولولا استنادك إلى الجدار لوقعت على الأرض لا محالة. فشعرت أن مهمتي تجاه هذه الحال شاقة جداً وانه يجب ان اشفق عليك وعلى زوجك وأولادك لا أن احقد عليك.

أعترف لك انك بارع جداً في ارسال الرسائل، اني بعد أن قرأت رسالتك الأخيرة التي وجدتها بين زجاج نافذتي وبين القفص الخشبي، تلك الرسالة التي حتى الآن لم اكتشف كيفية وصولها اليّ ولم اعلم بأية وطريقة وضعت، شعرت بأن دافعاً اهم من السابق يدفعني للكتابة اليك، لا لأجلك بل لأجل تخليص زوجك من مصيبة محتملة الوقوع، ولمنع هذه الاضحوكة من ان تتحول إلى فاجعة كبرى.

في كتابك هذا تبحث عني وتعلمني أن مصادفتك لي كانت سبباً في شقائك، وانك تحبني حباً بغير امل، واني كدرت حلو معيشتكم وأنك حتى الآن كنت سعيداً بحياتك مع زوجك وأولادك، وأن حبك لي حول نعيم حياتك في البيت إلى جحيم، وأنك ستكون ضحية هذه الصدفة، إلى آخر ما في كتابك من كلمات. . . .

اني واثقة كل الثقة من أنك الآن خجل بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى لكتابتك هذه الجمل وهذه العبارات تصور أنك ستترك زوجك أرملة، وأولادك يتامى من أجل ابتسامة من فتاة غرة، وفي هذا منتهى الغرابة. . . .

أيقنت الآن اني سأكون سبب فاجعة كبرى، فالواجب يقضي عليّ أن أقف امام تلك الكارثة، وهو الذي اضطرني أن التجئ إلى هذه الوسيلة وهي الكتابة اليك، انت تعلم يقيناً انها جرأة من فتاة مثلي، ولكن. . . ولكن الوجدان. . . .

تبحث أيضاً في كتابك عن اشياء كثيرة كلها متقاربة وتقول ان حبك لي جعل بينك وبين زوجك واولادك فراغاً لا يسده شيء؛ وانك الآن بعيد عنهم بعد الارض عن السماء، وان كان جسمك قريباً منهم متصلاً بهم، وانك حاضر الجسم بينهم لكنك غائب القلب والعقل عنهم؛ وان كل ذلك سيكون سبباً لفرارك من هذه الحياة التي أصبحت في نظرك جحيما.

أنا اعلم انك تبحث لي عن هذه الأشياء كلها، ولست أعلم لذلك سبباً، وإذا كان الأمر كما ذكرت في كتبابك، فالفرار الفرار مني. . .

إن حياتك في هذين الشهرين الأخيرين تمر من أمامي كما تمر الصور على اللوحة الفضية امام الجمهور النظارة فامتع النظر بها فأرى ان الشقاء في حياتك سرى إلى حياتي ايضاً، وتلونت حياتي بلون حياتكم الأسود، لقد كنت سعيدة أنا أيضاً حتى قبل شهرين من الزمن، لقد كنت مرحة مرح الصبا والشباب، وليتك تعلم مقدار حزني وألمي وبؤسي، لأنني كنت سبباً في شقائكم اذن انا من حيث لا ادري ولا أشعر كدرت صفو حياتكم، وبدلت سرورها شقاء، وقلبت نعيمها إلى جحيم، وصفاءها إلى كدر وبهجتها إلى عبوس. آه ما اتعسك ايتها الزوجة؟ ليت شعري كم من الدموع ذرفت، ومن الزفرات صعدت بسببي؟. . .

اسائل نفسي عن الاسباب التي اضطرتك إلى المجيء هنا، وساقتك إلى السكنى في هذا المصيف؛ فتقول لي ربما كان سبب ذلك ان هذه الزوجة مصابة بفقر دم، او أحد الأطفال مبتلى بمرض ثقيل، فاضطر ذلك الاسرة كلها إلى نزول هذا المكان طلباً للعافية وتخلصاً من الاسقام، فاذا كان الأمر كذلك فقد حضرتم هذا المكان في طلب الصحة والعافية ففقدتم معهما السعادة العائلية، نعم ويا للاسف ان قطرة من السم وقعت صدفة واتفاقاً في حياتكم السعيدة فسممتها وجعلتها جحيما. . .

اتمتلك في بيتك مطرقاً حزيناً غريقاً في بحر الافكار تسألك زوجتك (ما بك أيها الرفيق؟ وبماذا تفكر؟) فلا تجيبها بل تبقى في حزنك واكتئابك، ثم تتبرم من كثرة الاسئلة وتؤلم زوجتك ببضع كلمات فيكسر قلبها وتبكي تلك الليلة في فراشها بكاء مراً، تبكي بصوت خافت خشية ان تسمعها، ولكنك تشعر بذلك وتشفق عليها، فتقبلها تنسيها كل ما بها من الم وهم وتذهلها عن كلما كان.

ولكن بعد ذلك يعود اليك ضجرك وحزنك، فتعامل زوجك وأولادك بقسوة وخشونة ما كنت تعاملهم بهما من قبل.

ويخطر ببالي أشياء اخرى يقشعر بدني لهولها وسوء أثرها في زوجك واولادك، إذا كان الامر كذلك فالفرار الفرار مني. . .

أنتم أتيتم إلى هذا المصيف لتجدوا فيه الصحة والسعادة، ولكنكم لم تجدوا غير العلة والشقاء، فالفرار الفرار من هنا. . .

لقد جمعتني المصادفة بزوجك، فليتك تعلم مقدار ما كان لها في قلبي من محبة، وفي نفسي من مكانة، كلما تمثل لي وجهها الشاحب ومحياها الجميل المرسومة عليه آثار الحزن العميق؛ تألمت لها وأشفقت عليها كأنها أختيي، فيالله من سوء ما جنيت عليها وهول ما سقت اليها من العذاب على غير علم مني بذلك ولا رغبة فيه ولا قصد اليه.

أتمثلها واقفة أمامك مع أولادها تنظر اليك نظرة الاسترحام والاستعطاف والدموع ملء محاجرها، ولسان حالها يقول: (لماذا أدرت عنا وجهك وطويت دوننا كشحك؟ لماذا تغير قلبك علينا منذ شهرين؟).

أكتب اليك ولا أدري كيف أرسل اليك هذه الرسالة، ولا أعلم ما الذي سيكون من أثرها في نفسك؟ يخيل إلى أنها ستصل اليك وزوجك نائمة في فراشها وحولها أطفالها يغطون في نومهم، فاذا وقعت في يدك جلست االى منضدتك ونشرت الكتاب عليها وجعلت رأسها بين كفيك ثم اخذت تقرؤها. . ولعلك لا تنتهي من قراءة الصفحة الأولى حتى تشعر بأن غشاء الغفلة الذي يغشى عينيك اخذ ينقشع عنهما، وتعلم يقيناً انك كنت تابعاً لحس غير ثابت الأساس، أجل! كنت تابعاً لذلك الحس محاطاً به مغلوباً له خاضعاً لسلطانه مشغولاً به عن كل ما يجب عليك، كانك كنت جاهلا حتى الآن ان من العيب على المرء ان يسير وراء عواطفه وان ينقاد لها فتسوقه إلى المهاوي.

في تلك اللحظة تشعر انك لا تزال تحب زوجك واولادك فتتحرك الشفقة في قلبك وتترك العنان لدموعك فتجري. . أجل أترك لها العنان تنسيل فوق تلك الورقة التي كلفت أن تخبرك بانتهاء تلك الرؤيا المخيفة. . .

آه. إني لا أجد ملجأ يلجأ اليه المرء لتطهير قلبه مثل دموعه، يخيل إلى أنك الآن تبكي، أليس كذلك؟ إبك ما ساعدتك الدموع وأسعفتك الجفون: وغداً، أجل! غداً ستأخذ أسرتك وتهرب مني. أجل خذها ثم الفرار الفرار.

والآن أتمثلك وقد نهضت عن كرسيك مطمئن القلب؛ وقد اخذت الورقة بيدك وأحرقتها بنار الشمعة المضاءة أمامك، ثم مشيت على رؤوس أصابع رجليك، وخرجت من غرفتك نحو غرفة زوجك وأولادك، وأنت حذر كل الحذر أن توقظهم بوقع قدميك، ثم طبعت قبلة طويلة على جبين كل من زوجتك وإبنك وإبنتك.

كن على ثقة ان في الدار التي أمامكم قلباً يتمنى لك السعادة من الصميم، ويطلب لتلك القبلة الدوام إلى ابد الابد، اجل! ان هناك قلباً يخفق طرباً لرجوع السعادة إلى عشكم.

حلب

فتاة الفرات