مجلة الرسالة/العدد 339/من وراء المنظار
→ وصف ديك | مجلة الرسالة - العدد 339 من وراء المنظار [[مؤلف:|]] |
الملاحة عند العرب ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1940 |
صنع في إنجلترة!. . .
جلسنا نتحدث فمال بنا الحديث فيما مال إلى مبلغ شعورنا بقوميتنا ومبلغ حرصنا على مظهرها، ورحنا نتساءل هل نحن كرماء لضيوفنا حقاً، أم أن في الأمر شيئاً غير الكرم؟ واحتدام الجدال كالمعتاد وعلت الأصوات، وتشعب الكلام واضطرب نظامه، وضاعت الحجج جميعاً سليمها وسقيمها في ذلك الضجيج المتصل. وكانت أشد الدعاوى إيلاماً لنفوسنا أننا قوم نتلاشى في غيرنا ويسهل على أي قوة أن تسوقنا حسبما تريد
وقطع هذا الضجيج دخول صديق لنا في رفقته شاب أخذ يقدمه إلينا، فحيا وحيينا، ثم جلسنا برهة صامتين، ومالت أنظارنا إلى هذا الشاب الذي بدأت معرفتنا به. وما هي إلا برهة حتى فطنت إلى أن منظاري قد وقع منه على شخصية أضيفها إلى ما عرفت من أشباهها من الشخصيات التي لا تكاد تفترق إحداها عن بقيتها في شيء
وفي نفسي عن هذه الشخصيات التي عرفت معان استيقنتها فما أشك فيها أبداً، بيد أني أميل إلى تبينها في كل شخصية منها، فقد جرى الأمر في ذلك عندي مجرى التسلية، إن جاز أن فيما يؤلم ما يسلي كما جاز أن في المصائب ما يضحك!
ونظرت فإذا صاحبنا يضطجع في مقعده ويشمخ بأنفه، ورأينه يضع إحدى رجليه على الأخرى أولاً، ثم يمدهما معاً إلى حيث يستقر قدماه على مقعد خال ونعلاه قبالة الجالسين في غير تحرج ولا استحياء. . .
وأدخل يده في جيبه فأخرج بيبته وحشاها وأشعلها، وراح ينفخن في الجو من دخانه، دون أن يشاطرنا ما أخذنا فيه من الأحاديث. وشعرت وشعر أصحابي جميعاً بهذا التكبر السخيف، كأننا لم نكن أهلاً لمحادثيه. وكيف نكون عنده أهلاً لذلك، وليس فينا من خرج من مصر، كما تبين له من كلامنا؟
وكانت تختلج على شفتيه ابتسامة ليس فيها إلا معاني السخرية من عقولنا أو قل من جهلنا، وفي نفسه أننا لا زلنا على عقليتنا الشرقية جامدين ضيقي المعرفة، وتمنيت أن يتكلم لأرى شيئاً من عقليته الغربية التي عاد بها من إنجلترا. . .
ولم يطل تطلعي فلقد أخذ يجيب على سؤال وجه إليه، فسمعت وأنا أجهد في يكت ضحكي عبارة بين العربية والإنجليزية، فهي عربية الحروف إنجليزية النطق، الأمر الذي جعلها في جملتها قردية اللهجة والجرس. . . وكانت لا تسعفه ذاكراته أو كان يتكلف أن ذاكرته لا تسعفه ببعض الألفاظ العربية، فكان ينطق بها إنجليزية ثم يسرحها لنا كأنما يثق أننا لا نفهم تلك اللغة فهمه؛ وكان يكرر قوله: (لما كنت في إنجلترا. . .) كأنما يخشى أن ننسى أنه كان هناك، وهو يقدم تلك الحقيقة بين يدي حججه ليجعلها بذلك قاطعة صادعة
وليته ظل ساكتاً فلقد حمدت الله تعد كلامه الطويل على عقليتي الشرقية. . . وحيا الشاب تحية نصفها شرقي ونصفها غربي، وانطلق هو وصاحبه، والتفت إلى أحد أقراني وقال: أرأيت الدليل المادي على صحة ما أقول؟ وقال آخر: ما لهؤلاء لا يتكبرون ولا يزهون وقد افترضت الدولة فيهم الكفاية لمجرد ذهابهم إلى أوربا وإن بدا لها من أكثرهم تقصيرهم في أعمالهم، وافترضت في كثير غيرهم ممن لم ينالوا شرف الاغتراب الجهل وإن بدا لها فطنتهم فيما يناط بهم؟
وقلت في نفسي متى يفهم هؤلاء أن ليس بين التكلف والصعلكة كبير فرق؟ وأن في المصريين من سافروا مثلهم فتلقوا العلم في أوربا، ثم عادوا إلى وطنهم محتفظين بمظاهر قوميتهم فإن قلدوا غيرهم قلدوهم في العظائم، وأخذوا عنهم ما يشرفهم أخذه، ونبذوا ما يشينهم من سخيف المحاكاة. . .
وساورني خيال غريب عن أولئك المتكلفين، وذلك أنهم يضعون أنفسهم موضع السلعة في السوق، والسلع الإنجليزية يكتب عليها عادة (صنع في إنجلترا) لتزحم غيرها في الأسواق، وهؤلاء يباهي الواحد منهم بأنه - على حد تعبيره -
(عين)