مجلة الرسالة/العدد 339/الملاحة عند العرب
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 339 الملاحة عند العرب [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1940 |
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يهتم الغربيون بالملاحة وينفقون علها الأموال الطائلة لِمَا لها من أثر في الحروب والتجارة وسير العمران. وقد أصبحت مدنية الأمم تقاس إلى حد كبير بدرجة اهتمامها وعنايتها بالشؤون البحرية وبراعتها في بناء الأساطيل. وكان لها - ولا يزال - شأن خطير في مصير الشعوب، وكثيراً ما غيّرت المواقع البحرية مجرى التاريخ واتجاه الحضارة
والأمة العربية - وهي من الأمم التي لعبت دوراً هاماً في التاريخ وكان لها أكبر نصيب في تقدم المدنية - قد وّجهت بعض جهودها إلى ناحية الملاحة وخلّفت قيها مآثر خالدة اعتمد عليها الأوربيون في ترقية الملاحة والتقدم في صناعة السفن. وقبل البدء في حديثي عن الملاحة لا بد لي من القول إن ناحية الملاحة عند العرب لا تزال غامضة لم تعط حقها من البحث والتنقيب. والذي نرجوه أن يحفز حديثنا هذا الهمم للعناية بالمآثر الإسلامية والآثار العربية في مختلف النواحي التي أدتْ إلى فتوح العرب الواسعة، والتي لا تزال محل دهشة علماء التاريخ
إن في بقض هذه النواحي صفحات لامعة يحق لنا أن نباهي بها أمم الأرض وأن نأخذ منها إلهاماً للاقتداء بالسلف والسير في خطاهم
ومن المؤلم حقاً ألا نجد أحداً من باحثي العرب ومنقبيهم عُني بناحية الملاحة عند العرب وتاريخ إنشاء الأساطيل. وعسى أن تلتفت جامعة فؤاد الأول والكليات الحربية بمصر إلى هذه الناحية، وأن تعمل على إظهار المآثر العربية فيها، وبذلك تكشف عن روح المغامرة التي امتاز بها العرب على غيرهم من الأمم، وتكون قد مهّدت السبيل لخلق روح الإقدام والشجاعة في أبناء هذا الجيل والأجيال التي تليه
والآن نأتي إلى موضوع الملاحة فنقول:
كان العرب في بدء فتوحاتهم يخافون البحر ويهابونه، وكيف لا يخافونه ويهابونه وهم أهل صحراء منقطعون عنه لم يتعودوا رؤيته فكيف بركوبه. ولم يكن الخلفاء الراشدون يشجعون ركوب البحار لخوفهم على أرواح المسلمين، ويُقال إنه حينما استولى المسلمون على مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يسأله أن يصف له البحر فكت إليه (. . . إن البحر خلق كبير يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء. إن ركد أحزن القلوب وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة. هم فيه دود على عود. إن مال غرق، وإن نجا برق. . .) فكان هذا سبباً في منعه المسلمين من ركوبه. وجاء أيضاً أن عمر بن الخطاب كثيراً ما عنف الذين يخوضون عبابه، فقد عنف عرفجة بن هرثمة الأزدي لركوبه البحر حين غزوه عمان. ولا شك أن السبب في منع الخلفاء هو خوفهم على أرواح المسلمين لأنهم لم يكونوا أهل بحر ولم يتعودوا السير على أعواده. وبقي الأمر على هذه الحال إلى أن اتسعت الفتوح الإسلامية وأصبح من العسير بل من المستحيل حماية بعض البلاد ولا سيما وقد أصبح العرب مجاورين الرومان ورأوا أن الحاجة ماسة لحماية الشواطئ، ومن هنا بدأ اعتناؤهم بالملاحة فأخذوا في إنشاء السفن مثل الرومان، وفي مدة وجيزة صارت لهم دراية وخبرة بالبحار وركوبها وطافوا أشهرها وقهروا محيطات العالم واتصلوا بالبلاد البعيدة وعرفوا عنها الشيء الكثير. مهروا في صناعة السفائن وأنشئوا لذلك دوراً عظيمة وصار لهم في مختلف الأنحاء أساطيل أصبحت عرائس البحار وزينة الشواطئ متقنة الصنع كثيرة العد، تفننوا في صنعها وأدخلوا تحسينات جمة على آلاتها ومعداتها، ووضعوا لها الخرائط والمصورات البحرية وكانوا على علم بالأوقات الملائمة لخوض البحار وعلى معرفة تامة بأوقات هبوب الرياح. اتخذوا المنائر في المرافئ وفي المواضع الخطرة لهداية السفن واستعملوا الإبرة المغناطيسية لتعيين الجهات
ولا حاجة إلى القول إن أساطيلهم كان لها أثر كبير في ازدياد قوة الإسلام واتساع رقعته، فلقد تمكن العرب بواسطتها من فتح سردينيا وصقلية وقبرص ومالطة وكريت، وكذلك تم لهم الاستيلاء على كثير من شواطئ البحر الأبيض المتوسط وبعض شواطئ فرنسا. ولقد وصل الأسطول الإسلامي الأندلسي في عصر عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب، وكذلك أسطول أفريقيا إذ وصلت أساطيل المسلمين في دولة الموحدين من العظمة والفخامة إلى ما لم تصل إليه في أي عصر آخر وبلغت في أيام المعز لدين الله بمصر ستمائة قطعة. وجاء في مقدمة ابن خلدون أن عدد أساطيل المسلمين في أوربا وأفريقيا في القرن الخامس والسادس للهجرة وصل إلى مائة أسطول!. . . وكانت أساطيلهم هذه على أنواع، منها التجارية ومنها الحربية، والأخيرة تتركب من سفن ومراكب مختلفة منها ما هو خاص للدفاع يقيمون فيها الأبراج والقلاع أطلقوا عليها اسم (الشونة). ومنها ما هو خاص بحمل المنجنيقات التي يُرمي بها النفط المشتعل على الأعداء، وقد أطلقوا عليها اسم (الحراقة)، ومنها الطرادات وهي سفن صغيرة سريعة الجري، ومنها سفن تختلف عن التي ذكرنا لأغراض حربية وغير حربية. وللسفن الحربية معدات وأدوات منها (الزَّرَد) و (الخود) و (الدَّرَق) - والأخيرة أتراس من جلد ليس فيها خشب. وكانوا يستعملون عدا هذه الرماح والكلاليب وسلاسل في رؤوسها رمانات من حديد. وكثيراً ما كانوا يستعملون قوارير النفط يرمون بها الأعداء وهي في حالة اشتعال. ومن العجيب أنهم كانوا يستعملون أيضاً مسحوقاً ناعماً من مزيج الكلس والزرنيخ يرمون به مراكب العدو فيعمى الرجال بغبارها. وكانوا يعلقون حول المراكب من الخارج الجلود أو اللبود المبلولة بالخل والماء والشب والنطرون أو الطين المخلوط بالبورق والنطرون ومواد أخرى لتخفيف أثر النفط المشتعل. وقد وفق العرب على سر تركيب النار اليونانية بعد أن فتكت بهم في مواقع حربية كثيرة وأوقعت في بعض الحالات خللاً وفوضى في معسكرا تهم وسفنهم وصاروا يستعملونها في حملاتهم البحرية على شواطئ إيطاليا وبعض جزائر البحر الأبيض المتوسط. ويرجع بعض الباحثين أنها تتركب من (زيت النفط) والكبريت والجير والقار بنسب لا تزال مجهولة، وينتج عن هذه المركبات سائل ملتهب يحدث دخاناً وانفجاراً عظيمين كما تخرج منه نار تشعل الأجسام التي تلامسها أو التي تقع عليها. واستعمل الموحدين هذه النار في حصار (لبلة) من أعمال البرتغال في القرن الثالث عشر للميلاد لدفع جيوش ألفونسو العاشر ملك قشتالة. ويقال إنهم (أي العرب) استعملوا آلات يقذفون منها على الأعداء حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوي كالرعد، ويرى بعض العلماء أن هذه الآلات ليست إلا قاذفات النار اليونانية
ومن طريف ما يروى أنهم كانوا يستعملون طرقاً مبتكرة أثناء الحروب تدل على فطنة وذكاء وشدة حذر وبراعة في وسائل الحيطة، فقد كانوا يطفئون الأنوار (أي لا يشعلون ناراً)، وكانوا إذا أرادوا تضليل الأعداء والمبالغة في الاختفاء يسدلون على مراكبهم قلوعاً زرقاء حتى لا تظهر عن بُعْد. وهذا يذكرنا بوسائل الوقاية التي تستعملها الدول الأوربية المتحاربة من إطفاء النور واستعمال الضوء الأزرق في السيارات. وجاء في بعض الكتب أن العرب كانوا لا يتركون ديكا في (المركب) أثناء الحروب، وذلك خوفاً من صياحه الذي قد يستدل منه على مكان المركب
ولسنا الآن في موقف نستطيع معه تفاصيل المعدات الحربية الأخرى التي كانوا يستعملونها، كما أنه ليس هناك مصادر نستطيع منها سرد الطرق التي كانوا يتبعونها في البحار، وقد يطول المقال إذا أردنا وصف الاحتفالات الرائعة التي كانت تجري عند إخراج الأساطيل للحرب. وهذه كلها لا تزال في حاجة إلى من يتعهد جلاءها ويقضي على غموضها. ويؤلمنا أننا لم نسمع عن هيئات علمية أو أفراد اهتموا بهذه الموضوعات أو صرفوا لها بعض جهودهم وعنايتهم. وعلى كل حال فمن مطالعة لبعض الكتب القديمة ومؤلفات جديدة تمكنا من تهيئة هذا الحديث. وقد تجلى لنا منه أن العرب وصلوا في الملاحة إلى درجة لم يصل إليها غيرهم من قبلهم إذ جعلتهم سلاطين البحار وغزارة المحيطات، وكان لذلك تأثير كبير في فتوحاتهم وفي اجتياح كثير من الجزر البحرية وشواطئ البحر الأبيض المتوسط. وبقى العرب أسياد العالم في البحار إلى أن قامت عليهم قيامة الغرب بحروبه الصليبية وقيامة المغول والتتار وهبت عليهم عواصف الفتن والقلاقل فضعف شأنهم وأضاعوا عزهم ومجدهم واستولت عليهم غفلة طويلة وجمود مروع كاد يذهب بالكيان والخصائص التي يمتاز بها العرب على غيرهم وكاد يستحيل كل هذا إلى اضمحلال وفناء. . .
(نابلس)
قدري حافظ طوقان