مجلة الرسالة/العدد 337/رسالة النقد
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 337 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 18 - 12 - 1939 |
كتاب (الإمتاع والمؤانسة)
بقلم الدكتور بشر فارس
صيف سنة 1930 قدمت من باريس إلى القاهرة أطلب فيها كتباً ومخطوطات؛ فاهتديت (دارَ العروبة)، فعرفت أحمد زكي باشا - رحمه الله رحمة واسعة - فكان بيني وبينه ما تشاء من الود: أُكبره ويأنس بي. وقد وقع إليَّ فيما وقع من خزانة كتبه الخاصة كتاب (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي. فأقبلت عليه، فإذا هو جليل نفيس. وكم تمنيت وتمنى (شيخ العروبة) أن يُنشر هذا المخطوط فتُذاع فوائده فتُدرَك على غير كلفة. وهذان الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين أقدما على طبعه وليس بين أيديهما سوى نسخة وبعض نسخة على جانب غير يسير من الاضطراب والتحريف (والنسختان مما خلفه زكي باشا). فما أحرى الأستاذين بالتهنئة والشكر! وكان الأستاذ أحمد أمين أخبر المستشرقين في مؤتمرهم (سبتمبر 1938، بركسيل) بأنه ناشر كتاب التوحيدي، فاهتز القوم لذلك.
ونشرُ كتابٍ ذاهب في التصرف بضروب الكلام، جامع لمنثور المسائل من أدبية وفلسفية، مع ما يفسد ألفاظه ويُسقم عباراته من جهة مسخ النسّاخ، ليس بالمطلب السهل. ومن هنا ما جاء في ضبط الكتاب من فَرَطات. وقد بيّن طائفة منها صديقي الدكتور زكي مبارك في العدد الماضي من الرسالة، ولا عجب فإن الدكتور زكياً بأدب التوحيدي عارف وبأسلوبه بصير؛ ألم يؤلف فيه فصولاً؟
والحق أني كثيراً ما توقَّفت وأنا أقرأ (الإمتاع والمؤانسة). فلا أرى بداً من التنبيه هنا على ما وقَفَني، وإنما مقصِدي تقويم الكتاب لوجه العلم وحدَه. وإني قاصر الاستدراك على الأربعين صفحة الأُوَل، على سبيل التمثيل (والكتاب في 226ص). ثم إني مقسم المآخذ على حسب المنهج الذي عليه يجري العلماء في تحرير المخطوطات.
1 - التباعد عن سياق النصّ:
ص 19 - 20: يروي التوحيدي كيف مثل في (الليلة الأولى) بين يدي الوزير، فأخبره الوزير بأنه استقدمه للمحادثة والتأنيس. فيكتب التوحيدي (ص20 س8): (فقلت: قبل كلٍ، شيءٌ أريد أن أُجاب إليه يكون ناصري على ما يُراد مني. فقال (الوزير): قل ما بدا لك.
قلتُ: يؤذن لي في كاف المخاطبة وتاء المواجهة للفرار من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض. . .).
هذا وأما الناشران الفاضلان فقد دوّنا ذلك هكذا: (فقلت قبلُ: كلُّ شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري. . .). وهذا غريب: فإن التوحيدي لم يبدأ بالكلام، وإنما قوله ذلك هو فاتحة نطقه في مجلس الوزير. فكيف يكتب: (فقلت قبلُ). ثم إن غرضه أن يقول للوزير ما تفسيره: (أجل سأحادثك وأؤنسك، ولكنْ قبلَ كلٍ هنالك شيء أريد أن أجاب إليه وهو أن تأذن لي قي استعمال كاف المخاطبة وتاء المواجهة فترفع الكلفة وتيسّر لي الحديث إليك).
وعلى ذلك اضطراب الترقيم، وهو كثير تصيبه في كل صفحة. ولن أتمهل عند هذا المأخذ خشية الإملال. وحسبك وضع نقطة في آخر السطر الـ14 من الصفحة الثانية، وأخرى بعد الكلمة الرابعة ص7 س4، وأخرى بعد الكلمة الثانية ص13 س11، وأخرى بعد الكلمة العاشرة ص14 س6، وأخرى بعد الكلمة السابعة ص15 س2؛ ثم ضع شولة منقوطة بعد الكلمة الأولى ص13 س11، ونقطتين بعد الكلمة العاشرة ص14 س5، وبعد الكلمة الثانية ص16 س13؛ ثم ضع علامة استفهام بعد الكلمة السادسة ص15 س14 والكلمة الثانية ص15 س16.
2 - التجافي عن أسلوب المؤلف:
ص14 س2، 3: (وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداة تُجدُّها وفاشية (أي مال) تَمدُّها) - والوجه: تُمدُّها، موازنةً لتُجدُّها؛ والتوحيدي معروف بإيثار الازدواج (راجع مقدمة الكتاب لأحمد أمين ص: ق، و (النثر الفني في القرن الرابع) ج1 ص113، 115).
ص24 - س4، 5: (فأما الفَلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقِه الحفيّة، فقد. . .) - والصواب: (في معانِقِه). والذي هداني إلى ذلك كلمة (مناطقِه)، إذ قلت: إن التوحيدي أراد الازدواج هنا. وإذا (المعانق) جمع لمِعْنقَة ومعناها القِلادة، كما أن (مناطق) جمع لمِنطقة (وهو كل ما شُدَّ به وسطه كالنطاق: عن (لسان العرب)). ثم استُعملت المِنطقة والقِلادة والمِعنقة في مصطلح علم الهيئة (راجع مثلاً: (مفاتيح العلوم للخوارزمي) مصر 1342 ص128 و (محيط المحيط) مادة: ن ط ق، ق ل د، ونص التوحيدي). والدليل القاطع - بعد هذا كله - أن التوحيدي كتب خمس عشرة صفحة (ص39 س 4): (الصعود إلى معانق الفَلك).
3 - ترك الغامض على حاله:
ص14 س3، 4: (وتركُ خدمة السلطان غيرُ الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين. . .) - ما المعنى هنا؟ وما غيرُ الممكن)؟
ص25 س6، 7: (ما الفرق بين الحادث والمحدَث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يُلحظ نفسُه. . .) - فربما كان يحسن بالناشرين أن يهتديا بكتب الفلسفة ودواوين مصطلحاتها فيشرحا تلك العبارة. لغير قراء الفلسفة، على نحو شرحهما - في غير موطن - لألفاظ لغوية قد تدقّ على المتأدبين.
4 - التسرع في تصويب الأصل:
ص17 س12: (فذهب هذا كله، وتاه أهله). وزاد الناشران في الهامش: (تاه أهله: هلكوا. وفي الأصل: باه) - والصواب عندي: (باد) فهو أقرب إلى مدلول العبارة، فضلاً عن أن التوحيدي كتب بعدُ (ص111 س13): (وقد عفت (اللغة) منذ زمان طويل، وباد أهلها).
ص39 س3: (الشهوات الغالبة، والعقيدة الردئية، والأفعال القبيحة). وفي الأصل: (العالية) - وألصق بمادة النص عندي: (الغالية أو العاتية أو العائبة. ألا ترى التوحيدي يستعمل (الردئية) صفة للعقيدة، و (القبيحة) صفة للأفعال، فأين ما يفيد التهجين في كلمة (الغالبة)؟
5 - قلّة التقصّي:
ص38 س15، ص39 س1: (ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الناس من العدو. . . لأن الحركة قد بطلت بالركاكة. . .). وهنا زاد الناشران في الهامش: (الركاكة: الضعف أو لعل صوابه: (الزمانة) إذ الركاكة كثيراً ما تستعمل في ضعف العقل والرأي، والمراد هنا ما يخص البدل).
فإن صح أن الركاكة كثيراً ما تستعمل في ضعف العقل والرأي (راجع (لسان العرب) أول مادة ر ك ك) فلا شك أنها استعملت أول الأمر في ضعف البدن، وذلك على حساب سنّةٍ من سنن فقه اللغة: مدارها أن الألفاظ تتدرج من جانب الحِسّ إلى جانب المعنى. والركاكة للبدن معروفة، من ذلك ما جاء في (باب ضعف الخَلق) من (مختصر تهذيب الألفاظ) لابن السكيت (بيروت 1897 ص88): (والركيك: الفَسل الضعيف (والفَسل بالفتح: الذي لا مروءة له، عن (القاموس) والمروءة هاهنا: الهمة) قال جميل بن مَرثد:
فلا تكوننَّ ركيكاً ثنتلا ... لعوًا وإن لاقيتَه تقهَّلا)
(وتقهّل: مشى مشياً ضعيفاً، عن (القاموس)). وعلى هذا فالذي جاء في الهامش لم يظفر بالتدبّر كله.
6 - التحكم في رفض رواية النصّ:
ص24 س13، 14: (وأما قولهم: هذا شيء خَلَق، فهو مضمَّن معنيين (كذا): أحدهما يُشار به إلى أن مادته بالية، والآخر أن نهاية زمانه قريبة). وفي الأصل (سايلة) - فرفض الناشران الفاضلان رواية الأصل إذ وجدا فيها (تحريفاً وقلباً). هذا وكان يحسن بهما أن يتبينا مُفاد كلمة (السايل) من دواوين الفلسفة، وكلام التوحيدي في هذا الموطن يدخل في فنها. فالسايل في الفلسفة العربية من السيلان الذي هو (عبارة عن تدافُع الأجزاء. . .) ((كشّاف اصطلاحات الفنون) كلمة (السيلان) و (السائل)). وفي (تهافت التهافت) لابن رشد مثلاً (بيروت 1930 ص137، 140، 572) يرد (السيلان) في سياق الكلام على الفناء، وتأتي صفة (سيْال) ضدّاً لصفة (ثابت). وقد جاء (السايل) (لا: السائل) في (كشاف اصطلاحات الفنون) من غير تفريق (واذكر قول المناطقة: (الألفاظ أعراض سيالة)). وعلى هذا فرواية الأصل صحيحة إذ يجري الحديث على الفناء في أسلوب فلاسفة العرب.
ص25 س14: (كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد). وفي الأصل، بدلاً من (وواد): (وهو) - فرفض الناشران رواية الأصل إذ قالا (لا معنى لها)، وكأني بهما عدّا (هو) ضميراً منفصلاً لا اسماً مُعْرباً. ففي (لسان العرب) ج20 ص251 س16: (هَوْ من الأرض: جانب منها). فالهَوْ إذن له معنى، ومعناه يفيد مُفاد الوادي وهو اللفظ الذي آثره الناشران بسلائقهما المُحدثَة على سلامتهما، ظناً منهما أن الهَوْ ليس في اللغة.
أذكر في لغتنا العامية: (الهِوْ)، وفصيحه: الهوة.
ذلك ما حقَّقتُه. ولعل الأستاذ أحمد أمين ينظر في سطور الكتاب على منهج قويم وهو به أدرى، فيستدرك عليه. فإني لا أشك - بعد الدكتور زكي مبارك - أنه لم يصرف إليه عند التحرير موفور هَمّه.
بشر فارس