مجلة الرسالة/العدد 336/رسالة الفن
→ حيرة!. . . | مجلة الرسالة - العدد 336 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 11 - 12 - 1939 |
دراسات في الفن
ملامح الأرواح
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هل سمعت أن شارلس لوتون سيمثل هتلر للسينما؟
- قرأت ذلك ومن يومها وأنا مشتاق لمشاهدة لوتون في هتلر
- أظن أنه لم ينجح
- لماذا؟
- لأن لوتون طويل عريض، وهتلر ضئيل الجسم
- وأي شيء في هذا؟ إن الذي سيمثله لوتون من هتلر نفسه لا بدنه - ولكن هذه الصورة الحاضرة في أذهاننا والتي نعرف بها هتلر لا يمكن أن يمحوها لوتون بتمثيله، وسيذكر الناس عندما يرونه أنه ممثل يمثل، بل قد يرى بعض الناس أنه ممثل أغتصب دوراً ليس هو أهلاً له
- هذا يخيل إليك. وقد يكون الذي تقولين حقاً إذا كان الممثل ضعيفاً. . . ولكن لوتون. ألم تريه في هنري الثامن؟ لقد كان هو هنري الثامن
- لأنه يشبه هنري الثامن كثيراً في جسمه، وعلى الخصوص في وجهه. . .
- صحيح! فكيف رأيت هاري بور في بتهوفن؟ هاري بور طويل عريض هو أيضاً وكان بتهوفن ضئيل الجسم مثل هتلر، ومع هذا فلا أظن أحداً من النظارة أحس شيئاً من الكذب في بتهوفن الذي أخرجه هاري بور. . . اللهم إلا أولئك الذين يذهبون إلى السينما ليعرضوا على الناس أجسامهم وأزياءهم. . .
- قد يكون التوفيق أتيح لهاري بور في بتهوفن، لأن هاري بور ممثل وبتهوفن موسيقي، وليس عسيراً على الفنان أن يدرك الدخائل في نفس فنان مثله، فإذا حاكاه ومثله كان كمن يحاكي نفسه ويمثلها. . .
- والله إنها فكرة لم أكن أتوقع أن تجول في ذهنك، وإنها لجديرة بالتأمل والدرس، وإنك لجدير بالمكافأة عليها. . . خذي هذه النكلة. . .
- شكراً. سأعلقها على باب البيت تعويذة وحجاباً دون إبليس. . .
- بل أعيديها فقد وجدت الرد. . . هات. . . إن هتلر أيضاً ممثل
- رحت في داهية! هل أنت ممن يؤمنون بهذا الذي يدعيه من أنه فنان؟!
- ليس هذا قصدي، وإنما الذي أقصد إليه هو أن الناس جميعاً يمثلون
- آه. هذه فكرة أخرى. ولكن ألا ترين أن فكرتك هذه لو كانت صحيحة لما ارتفع سعر التمثيل
في الدنيا، ولما كان أجر الممثل المجيد آلاف الريالات ومئات الجنيهات في الدور الذي لا يستغرق منه إلا الساعات القليلة. . .
- الحق معك
- إذن فرأيك غير صحيح. . .
- لماذا؟ أفلا يستطيع الحق أن يكون معك وأن يكون معي في الوقت نفسه؟
- يستطيع. قادر على كل شيء. . .
- ولا قادر غيره. . . والتوفيق بين الذي تقولين وبين الذي أقول يسير. فأما أن كل الناس ممثلون فهذا حق. وأما أن أندر الناس هم الذين يستطيعون أن يمثلوا فهذا حق أيضاً، فالناس كالأواني: كل آنية تصلح لأن تعبأ بما يملؤها، فإذا امتلأت لم تعد تصلح لأن تمتلئ مرة أخرى، إلا إذا فرغت. ومن الناس من يملك نفسه يملؤها ويفرغها وهؤلاء هم الممثلون المجيدون، ومنهم من امتلأت نفسه مرة فاكتظت وجمد حشوها فيها فلم يعد ميسوراً أن تفرغ وأن تملأ. ومن هؤلاء محمد عبد الوهاب فهو يمثل على نفسه وعلى الناس دور الأستاذ الموسيقار مطرب الملوك والأمراء والعظماء وقد (عقد) هذا الدور في نفسه فكلما مثل دوراً ظهر فيه بمظهر الأستاذ الموسيقار مطرب الملوك والأمراء والعظماء مهما تطلب منه هذا الدور الجديد شيئاً من البؤس، أو شيئاً من الخيبة، أو شيئاً من اليأس. زيدي على ذلك أن الصورة التي رسمها عبد الوهاب لنفسه في خياله صورة متكلفة ليس فيها من الحقيقة شيء، فقد عرف الناس هنا في مصر مطرباً كان الملوك والأمراء والعظماء يطلبونه حقاً ويسعون إليه ويكرمونه كل التكريم ولم يكن فيه شيء من هذه الأرستقراطية التي يلبسها عبد الوهاب فيتعثر في أذيالها، ذلك هو المرحوم عبده الحامولي تؤكد الروايات أنه كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
- وهل لا يأكل عبد الوهاب الطعام ويمشي في الأسواق؟
- حاشا لله. وإن أكل فتنازل، وإن مشى فكما كان يمشي هرون الرشيد
- إني لا أحب فيك هذا التعصب على عبد الوهاب. وإن الذي تأخذه عليه يمكن أن آخذه على شارلي شابلن نفسه، لشارلي أيضاً لوازم تبدو في كل أفلامه: قبعته وعصاه وشارباه ومشيته وحذاؤه وتلعيب فمه ومسحه الحذاء في البنطلون وهزة كتفيه.
- صحيح صحيح. . . ولكنك نسيت أن شارلي يمثل في كل أفلامه شخصاً واحداً هو ذلك المتشرد الحائر الذي يطارده المجتمع في أغلب الأحياء، ولا يعطف عليه إلا في أقل الأحيان. وروايات شارلي شابلن كلها يمكن أن توصل وأن تعرض على أنها حوادث حدثت لهذا المتشرد. وعلى هذا الأساس فإنه ليس عجيباً أن يلزم هذا المتشرد حركات وسكنات وإشارات خاصة هي هذه التي تقولين عنها
- طيب. ونجيب الريحاني الذي تشهد له بالتفوق. أليست له هو مواهب أيضاً لازمة لا تخلو منها رواية من رواياته هي هذه (المطة) التي يختم بها أكثر جمله وعباراته
- صحيح أيضاً. ولكنك أيضاً نسيت أن هذه (المطة) هي من آثار كشكش بك في نجيب الريحاني، فقد كان نجيب مثل شارلي يمثل شخصاً واحداً هو عمدة كفر البلاص، وكان هذا العمدة لا ينجو من مأزق حتى يقع في مأزق، وكانت الحيرة والدهشة و (اللخمة) تأخذه من أول الرواية إلى آخرها، وكان يستغيث، وكان يلوم، وكان يسترحم، وكل هذا يستدعي منه هذه (المطة) فلزمته ولكنه بدأ يتخلص منها فهي لا تعاوده الآن إلا نادراً
- ولم تلجأ إلى هذا التعسف ولا تقول إن لكل ممثل إسلوبه الخاص به
- لأن موضوعنا هذا لا صلة له بأسلوب الممثل. وإنما أسلوب الممثل شيء آخر
- هو الطريقة التي يتذوق بها الممثل الناس، والتي يعرض بها بعد ذلك هؤلاء الناس
- وكيف يتذوق الممثل الناس؟
- للأرواح ملامح كما للأجسام ملامح، ومن الممثلين من ينعم النظر في هذه الملامح حتى يحصرها كلها، ومنهم من يروعه بعضها فيقف عنده ولا يعود يرى غيره، أو يرى غيره ولا يهتم به. والممثل بعد أن يشبع من التمعن في هذه الملامح الروحية يبدأ فيرسمها في نفسه هو، ويشكل روحه بشكلها ويكون تمثيله بعد ذلك إبرازاً لها، وأقدر الممثلين على هذا من لم تكن لروحه هو ملامح قوية ناتئة تستعصي تغطيتها على الماكياج الروحي، وهؤلاء الممثلون القادرون هم الذين تكون نفوسهم شديدة الشبه بنفوس الأطفال فهي بريئة صافية تعيش على الفطرة والحق، ولعلك قد لحظت أن الأطفال أقدر من غيرهم على تقليد الناس وتصوير نفوسهم والمظاهر الواضحة التي تنثرها نفوسهم على أجسامهم. . . ولو كان الناس كلهم يعيشون على الفطرة وعلى الحق لكثرت بينهم أوجه الشبه، بل ربما كانت أشكالهم تتوحد فلا يكون بينها خلاف، والذي يعزز هذا الرأي هو ما نراه من توحد أشكال الحيوانات التي من فصيلة واحدة - ولا أقول ألوانها - فهذا التوحد لا مرجع له إلا أن الحيوانات تسلك في حياتها المسلك الفطري الحق
- فكأنك تقول إن اختلاف ملامح الوجوه في الناس يرجع إلى اختلاف الملامح في أرواحهم
- هو هذا. وإن كنت لا أنكر آثار البيئة والوراثة وغيرهما
- ومعنى هذا أن الذي يسيطر على حياة الإنسان نفسه وليس بدنه وغريزته الجنسية كما يقول فرويد
- لو كانت الغريزة الجنسية هي التي تسيطر على حياة الإنسان لما اختلفت أشكال الناس، وإنما الغريزة الجنسية نفسها تخضع لذوق الإنسان والذوق عامل نفسي لا بدني
- ولكنك قلت مرة إن له مرجعاً يرده إلى كهرباء الجسم
- وقلت لك وقتها إني أستعمل كلمة الكهرباء حيث أريد أن أقول (الروح) وإني أختارها لأضمن ارتياحك وارتياح الناس إليها فهي عند أهل هذا العصر أقرب إلى العقل من كلمة الروح. . .
- فهل تريدني أن أعرف الروح على أنها كهرباء؟
- يصح ولكن على أن تكون كهرباء لها إرادة ولها عقل ولها عواطف ولها ذاكرة ولها أمل ولها صلة بالماضي ولها صلة بالمستقبل ولها كل ما للحياة من مميزات تسمو بها على الجمود والموت
- ملامح الأرواح التي تتحدث عنها هي ملامح هذه الكهرباء. . .
- ولم لا؟ فهناك إنسان قوته ألف شمعة، وهناك إنسان قوته خمس شمعات، وهناك إنسان كهرباؤه مائة فولت وهناك إنسان كهرباؤه عشرون. وهناك إنسان كهرباؤه مستقاة من دينامو، وهناك إنسان (ببطارية)، وهناك إنسان كهرباؤه صواعق، وهناك إنسان كهرباؤه شرر. . . وهناك وهناك. . . وكل هذا يحسه الممثل المجيد ويستطيع أن يقلده. . .
- فإذا قصرت قوة الكهرباء في الممثل عن قوة الشخص الذي يريد أن يمثله فماذا يصنع؟
- لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا أراد الممثل أن يقلد طفلاً صغيراً. . . وكلما كان أصغر كان تمثيله أصعب
- ومعنى هذا أن في الطفل كمية من الكهرباء أوفر مما في الكبير. . .
- لا. وإنما معناه أن درجة وضوح الروح في الطفل أكبر منها في الكبير. فالطفل إذا فرح ظهر عليه الفرح فياضاً جارفاً، وهو إذا غضب لم يمكنه أن يكتم غضبه وإنما أرسله قوياً عنيفاً وهذا شيء لا يقوى عليه إلا هو أو ممثل فيه من هذا الوضوح ما في نفوس الأطفال. وهذا الوضوح الذي يستوجبه التمثيل، وهذه البراءة التي تستلزمها المحاكاة هي التي تحول بين النساء وبين النبوغ في هذا الفن. . . إلا النادرات النوادر منهن. . .
- ولماذا؟
- لأن النساء لا يعشن على الفطرة مطلقاً وإنما كل منهن تمثل في حياتها دوراً خاصاً
- بل أدواراً
- لا. . . لو أن النساء كن يمثلن أدواراً مختلفة لقلنا إنهن قادرات على التمثيل، ولكن هذه الأثواب المختلفة التي تبدو عليهن إنما يلبسنها في دور واحد يظللن يمثلنه طول الحياة وهو دور حواء
- وهل سيطلب المسرح منهن أو السينما أن يمثلن دوراً آخر
- نعم، والمشكلة هنا أصلها أن الذين يؤلفون الروايات رجال، والرجل مهما ألم بنفس المرأة ومهما أحاط بها فهو لا يرضى أو لا يستطيع أن يظهرها في تأليفه على صورتها الطبيعية، وإنما يكتب لها عادة صورة أقرب إلى الروحانية من صورتها، وهذه الروحانية أمر صلة المرأة به صلة بعيدة ولذلك فإنها لا تدركها الإدراك التام ولا تخرجها الإخراج الصحيح - فهو عيب الرجال الذين لا يطبقون أدبهم على الواقع. . .
- إنه العيب الذي ينزعون إليه بأدبهم وفنونهم محاولين به أن ينقذوا الحياة من شر الواقع. . .
- ولكن لماذا نقول إن صلة المرأة بالروحانية صلة بعيدة
- لأن المرأة تبدأ في صناعة التمثيل من سن مبكرة فالتمثيل عونها على الإغراء، وهو ستارها، وهو سلاحها. . . وكي أثبت لك ما أقول أسألك كم مرة مثلت النساء في السينما مريم العذراء وجان دارك مثلاً وكم مرة مثلت النساء في السينما كليوباترا؟ إن مريم العذراء لم تمثلها إلى اليوم ممثلة وجان دارك مثلتها ممثلة فرنسية لشركة باتيه منذ خمسة عشر عاماً على ما أذكر. . . أو أكثر. . . أما كليوباترا فقد مثلتها ممثلات كثيرات وفي أوقات مختلفة. . .
- وعلى أي شيء تستدل بهذا؟
- أستدل به على أن النساء أقرب إلى كليوباترا منهن إلى جان دارك ومريم العذراء
- ولكن لمريم العذراء قدسية لا تحب شركات السينما أن تمسها
- لقد مثلت شركات السينما المسيح نفسه. . .
- طيب. . . وجان دارك هذه لم تكن امرأة وإنما كانت رجلاً. . .
- إنها التي بذلت نفسها في سبيل وطنها. . . أنا معك لم تكن امرأة
عزيز أحمد فهمي