مجلة الرسالة/العدد 336/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 336 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
من هنا ومن هناك ← |
بتاريخ: 11 - 12 - 1939 |
أرقام تتحدث وتنبأنا بقصة الإلكترون
للدكتور محمد محمود غالي
- 2 -
من تجارب ميلكان - رسالته الشائقة يطالعها في الطبيعة -
رقصة الإلكترونات وحركاتها الثابتة - مليكان كشامبليون في
تعرفه على اللغة الهيروغليفة - رقصة أخرى للجسيمات
بكشف عن مغزاها جان بيران
لا بد أن يكون قد أستشعر القارئ عظم المعنى الذي أدته هذه الرسالة، رسالة الجسيمات التي علقت بها الإلكترونات، ولا بد من أن يكون قد فطن إلى مبلغ الدقة الذي يُظهر جلال هذه التجارب الرائعة لمليكان التي ذكرناها في مقالاتنا السابقة، وهي التي حصل فيها على إلكترون حر واحد محمول على جسيم دقيق يتحرك في غرفة صغيرة، وما على القارئ إلا أن يستدرك في ذهنه أمراً سبق أن ذكرناه ليتأمل مقدار ضآلة الإلكترون الذي هو أصغر ما نعرفه من الوحدات المادية والكهربائية فيذكر أن ذرة الهيدروجين التي هي واحد على ألف مليون المليون من الجرام تكبر الإلكترون بحوالي ألفي مرة، وللقارئ بعد ذلك أن يتخيل مقدار صغر الإلكترون الذي يصعب استيعاب مبلغ ضآلته، ويذكر أن هذا الإلكترون بذاته هو الذي فصله مليكان وتحقق من وجوده حراً على هذا الجسيم طوراً يعلق به وتارة ينفصل عنه، ولا يسع القارئ مع دهشته إلا تصديق الحوادث بعد البراهين التي أدلينا بها والتي يثبت منها أنه كان يعلق بالجسيم إما قدر محدود واحدا أو قدران أو ما يزيد من الأقدار الصحيحة، ولكن لا يمكن أن يعلق به قدر ونصف القدر أو قدر وثلثان. كسور هذا القدر وأجزاء هذا الإلكترون غير موجودة، وهي حالة تشبه بالضبط تلك التي ذكرناها من قبل عن بعض المحال التجارية في باريس ولندره التي لا تبيع الأشياء إلا بأقدار معلومة هي ضعف أو أضعاف قدر أولى معين، فهي لا تبيع مثلاً إلا بخمسة فرنكات أو مضاعفاتها.
وإلا فلماذا لم يحدث مرة واحدة في آلاف التجارب التي أجراها (مليكان) وأجراها العلماء من بعده أن أخذ الجسيم طيلة ارتفاعه تحت تأثير المجال الكهربائي فترة تقع بين فترتين من الفترات التي كانت يختارها الجسيم لذاته ويلاحظها مليكان؟ لماذا تخيَّر الجسيم في الصعود فترات معينة لا تتغير؟
ثمة مخرج واحد وتفسير وحيد للظاهرة المتقدمة، ذلك أن يفرض مليكان فرضين:
الفرض الأول: وجود جسيمات صغيرة كهارب يسمونها ألكترونات يستطيع أن يعلق بالجسيم واحد منها أو اثنان أو ثلاثة أو ما يزيد، ولكن لا ينقسم إلكترون منها ليعلق بالجسيم جزء منه.
الفرض الثاني: أن وزن هذه الإلكترونات صغير بالنسبة إلى وزن الجسيم الحامل لها، وهذا يفسَّر السرعة الثابتة التي يسقط الجسيم بها دائماً عند انعدام المجال الكهربائي، هذه السرعة تتغير متى أخذ الجسيم في الصعود تحت تأثير هذا المجال، بحيث إذ علق بالجسيم إلكترونان صعد بسرعة تعادل ضعف السرعة عندما يعلق به إلكترون واحد، وإذا علقت به خمسة ألكترونات صعد خمسة أضعاف هذه السرعة الخ
ولا يتسع المجال هنا لنذكر للقارئ الذي قصدنا معه التبسيط المعادلات السهلة التي استنتج منها مليكان شحنة الإلكترون، وذلك من حساب المجال الكهربائي وسرعة الجسيم وهذه المعدلات التي استعملها من قبله توسنذ وغيره من علماء معمل كافندش بكامبردج، ولكنا نكرر أن مليكان استنتج هذا القدر الإلكتروني بطريق سهلة يستنتج طالب المدرسة المبتدئ في الحساب العدد خمسة في مثال محلات باريس الذي ذكرناه في مقالنا السابق، على أننا نورد للقارئ أمثلة من تجارب مليكان الأولى منقولة عن نشراته الخاصة:
الزمن مقدر بالثانية الذي سقط فيه جسم معين المدى بين شعرتي المكروسكوب
الزمن مقدر بالثانية الذي صعد فيه الجسم ذاته المدى السابق
13. 6
12. 5
13. 8 12. 4
13. 4
21. 8
13. 4
34. 8
13. 6
84. 5
13. 6
84. 5
13. 7
34. 6
13. 5
34. 8
13. 5
16. 0
13. 8
34. 8
13. 7
34. 6
13. 8
21. 9
13. 6
13. 5
13. 4
13. 8 13. 4
المسافة بين الشعرتين 0. 5222 س. م
ويلاحظ أنه خلال صعود الجسيم لثالث مرة تغيرت فترة صعوده من 12. 4 إلى 21. 8 ثانية، وهذا يدل على أن هذا الجسيم ذا الشحنة الموجبة أكتسب ايوناً جديداً، ثم أكتسب بعد ذلك ايونات أخرى حافظ عليها طيلة صعوده للمرة الخامسة والسادسة وفقدها في المرة السابعة فعاد إلى فترة من فترات صعوده السابقة وهي 34. 6 ثانية وهكذا، وفي الجدول الثاني تتضح فكرة وجود الشحنات الكهربائية بحالة متقطعة بسبب وجود الإلكترونات.
ويحوي العمود الأول الشحنة المرصودة والعمود الثاني مقدار هذه الشحنات لو أننا استنتجناها نظرياً بضرب عدد ثابت قدره 34. 6 في الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4، 5 الخ، وفي العمود الثالث الأعداد الصحيحة التي بضربها في عدد ثابت تنتج أرقام تدل على الشحنات المقيسة.
الشحنة الكهربائية المرصودة
الشحنة المشتركة (4. 917) مضروبة في عدد صحيح قدره 1 أو 2 أو 3. . الخ
العدد الذي يضرب في العدد الثابت (4. 917) فنتج الشحنة المتقدمة
4. 917
1
9. 834
2
14. 75
3
19. 66
19. 66
4
24. 60
24. 59 5
29. 62
29. 50
6
34. 47
34. 42
7
39. 38
39. 34
8
44. 42
44. 25
9
49. 41
49. 17
10
53. 91
54. 09
11
59. 12
59. 00
12
63. 68
63. 92
13 68. 65
68. 84
14
73. 75
15
78. 34
78. 67
16
83. 22
83. 59
17
88. 51
18
وليس أبلغ من هذه الأرقام التي تحدثنا عن قصة الإلكترون وتعطينا شحنته، إذ يرى القارئ أن ثمة عدداً ثابتاً قدره 4. 917 إن ضربناه في الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4 حتى العدد 18 في الجدول السابق تنتج الشحنات الكهربائية المرصودة
وهكذا استطاع هذا العالم الكبير الذي يسرنا أن نسمع أنه سيزور مصر قريباً أن يقيس قدر الألكترون، وأن يحصل على جسيمات صغيرة سخرها لتجاربه وأبحاثه جسيمات استوثق بالدليل أن بعضها كان يحمل إلكتروناً حراً واحداً ولا يحمل سواه. وكأني بمليكان في المريخ استطاع وهو فيه أن يعد سكان الأرض من البشر دون أن يكون بحاجة لأن يراهم. ذلك أنه كان أمام أرقام تتحدث وحقائق لا تقبل الجدل، بل أنه كان أمام رسالة علمية عرف كيف يطالع رموزها ويستخلص منها أمراً خاصاً بقصة الوجود، وكان شأنه في ذلك شأن شامبليون الفرنسي عندما استطاع أن يطالع اللغة الهيروغليفية من مجرد معرفته للغتين الإغريقية والقبطية القديمة، وذلك عندما وجد نصاً مكتوباً باللغات الثلاث على حجر رشيد المعروف، وعندما استطاع أن يجد في إطار بيضاوي الشكل اسم (بطليموس) ذلك الاسم الذي فَصَل شامبليون حروفه والذي بسببه قرأ الأسماء (برنيس) و (كليوبترة) و (اسكندر)، وتوصل منها إلى حروف أبجدية أولية ساعدته في معرفة اللغة المصرية القديمة بحذافيرها.
تُرى هل استوعب معنا أسطورة مليكان؟ وهل اطلع فيها على جانب من التطور العلمي وأدرك ناحية من نواحي البحث التجريبي؟ تُرى هل لمس القارئ أمراً خالداً تدل عليه تلك الأسطورة - أمراً في خلوده صورة من صور الأبد تختلف عن صور العاديات القديمة التي تبلى مع كر الزمن: الإلكترون المكون لنا - وجوده - قدره - كل ذلك نشهده في هذه التجارب الخالدة.
وعندما يتغير وجه المدينة، ويرقى الإنسان إلى المدنية أعظم شأناً، عندما ينمو فيه عقل أكثر رجحاناً من عقله الحاضر فتوجد جماعات تتسابق جميعها في سبيل تقدمه بدلاً من أن تتهالك أحياناً على تحطيمه، عندما يأتي عصراً تزدهر فيه دور الكتب والعلم، ويأتي إنسان أعظم، يطالع فيفهم ويتأمل فيُقِّدر، فإنه سوف يرى على ممر الأجيال أسطورة مليكان ويطالعها بين الأساطير البارزة التي يحفظها التاريخ، فإذا حصل هذا القارئ البعيد في الزمن على (بطارية) من صنع يديه، وصنع لنفسه مكثفاً كمكثف مليكان، وغرفة صغيرة كغرفة جهازه، وإذا وضع إزاء هذا ميكروسكوباً في اتجاه عمودي على خط الضوء الواقع على جسيمات دقيقة من الميسور الحصول عليها، استطاع أن يعيد رقصة هذه الجسيمات، واستطاع أن يراها تعلو وتهبط في فراغ الحجرة فيرى رقصات رذاذ الزيت كما تحددها للقارئ البعيد، يرى رقصة الأبد وهي بهذا ثابتة مهما كرَّ الزمن وأينما دارت الأرض، رقصة يلعب الراقصون فيها على أنغام ثابتة ويبدون في ذلك حركات لا يتغير شيء في جوهرها ولا يتعدل حدث في مسارها، وهي رغم الذي ذكرناه لم تكن الدليل الأول والأخير على وجود الإلكترون والتحقق من شخصيته ومن قدره. ثمة طريقة أخرى نلمس فيها هذا الكائن في ثوب جديد وبدليل يختلف عن دليل مليكان السابق.
ثمت شيخ بلغ اليوم السبعين حولاً لا يزال حياً يرزق، متوسط القامة ينتهي وجهه بلحية مدببة وخطها المشيب، قد تركت له الطبيعة التي تفني كل شيء شعره المنتشر كثيفاً على رأسه والذي يكسوه طوله هيبة وجلالاً. ولو أنك جلست ظهراً في أحد مقاهي الحي اللاتيني بباريس مر أمامك هذا الشيخ في تجواله كما يمر أي رجل من الشارع، وهو طوراً لا يعرفه أحد من الجالسين وتارة يشير إليه أحدهم من بعيد قائلاً: (هذا هو (جان بيران) مكتشف شحنة الإلكترون ومحدد عدد - أوفوجادرو). وإذا تركت المقهى ودخلت إحدى المكتبات أمكنك أن تشتري صورته إذ تباع للجمهور كما تباع صور الملوك والفاتحين، ذلك أن بيران من العلماء المعروفين فقد توصل في الوقت ذاته الذي قام فيه مليكان بتجاربه السابقة إلى شحنة الإلكترون وإلى النتائج ذاتها من سبيل جديد يختلف جد الاختلاف عن سبيل مليكان، ويتميز بدقة الموضوع ومهارة الطريقة وبساطة التجارب وقوة الاستنتاج وعظمة الاستقراء، فأنم هو أيضاً أسطورة جديدة نأتي عليها لنكون قد أنصفنا العلم وأرضينا التاريخ، وهي الأسطورة التي وإن كانت تمت فصولها في سنتي 1907، 1908 منتي تجارب مليكان، إلا أن معهد السويد منحه عنها جائزة نوبل في سنة 1929.
تحضرني ليلة في السوربون إذ كانت الساعة التاسعة مساء دخل هذا العالم بعد نيله الجائزة المدرج الكبير ليحدث العلماء والجمهور الباريسي عن أسطورته الخالدة، وتمر بذاكرته الصور العديدة التي عرضها، والجمهور الغفير الذي استمع إليه، هذه الأسطورة أخط فيها على صفحات الرسالة مقالاً أو اثنتين وأعنونها (أرقام تتحدث) وهو العنوان الذي اتخذته لموضع مليكان، ولقد كان في الواقع (بيران) هو أيضاً أمام أرقام تتحدث إليه، وفهم حديثها، واستطاع أن ينقل هذا الحديث إلى الناس، وأن يسطره في حالة مفهومة ومعقولة للأجيال القادمة
لي من هذه الأساطير غاية لقراء الشرق، الأدباء منهم والعلماء والمطلعون، أطمع أن تتعدى الحدود العلمية التي أردنا منها هذا النوع من الكتابة في التبسيط، ذلك أن يستنتج القارئ فوق ما قصدناه من علم أن العمل العلمي ككل عمل سلمي هو حجر الزاوية في مستقبل الإنسان، وأنه خير لسكان هذه المعمورة عن كل ما عداه من الأعمال، فالعلم يحمل في طياته سر الوجود وعليه وعلى المتصلين به تترتب حركة التقدم، وغرضنا أن يدرك القارئ من وقت لآخر أننا مهما أصبنا في هذه الأزمنة من محن فإن أنصار الإنسان موجودون وموجودون دائماً. ثمة أناس حريصون على الميراث العلمي الكبير يشعلون دائماً شمعة المستقبل، وغايتنا أن يدرك القارئ أن الإنسانية تخطو دائماً خطوات جريئة إلى الأمام وأن يلمس شيئاً من هذه الخطوات على حقيقتها فيلمس أثر ما بلغته الفلسفة وما وصل إليه الفكر.
هناك في السوربون استطاع بيران، كما استطاع مليكان في باسادينا وتومسون في كامبردج، أن يتعرف هو أيضاً بطريقته الخاصة الإلكترون، وفي هذه البيئة الجامعية، حيث الحسد أقل خطراً هناك منه عندنا، وحيث الهجوم الخفي لا يعرف طريقاً للدخول، وحيث الجميع يتعاونون على الخير وعلى رفعة حق الإنسان، رأينا (بيران) يحدث العلماء عن قصته مع الذرة والإلكترون في المدرج ذاته الذي رأى باستير وكيري وغيرهم.
من هذا الحديث الذي أصبح ملكا للبشرية، ومن هذه الذكريات العزيزة التي مضى عليها اليوم عشرة أعوام نستملي للقارئ مقالنا القادم الذي يرى فيه كيف عثر (بيران) على رقصة تشبه الرقصة السابقة، وكيف استنتج من طول ملاحظتها قصة خالدة من قصص الوجود، وكيف وضع بهذا حجراً أساسياً في بناء المعرفة.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة