مجلة الرسالة/العدد 333/الفروق السيكلوجية بين الأفراد
→ بين الإسلامية والعربية | مجلة الرسالة - العدد 333 الفروق السيكلوجية بين الأفراد [[مؤلف:|]] |
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش ← |
بتاريخ: 20 - 11 - 1939 |
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
(تابع)
كان - معلم البيان - بيئيَّ المذهب فكان يعتقد أن الفروق السيكلوجية بين الأفراد - وبخاصة العقلية والخلقية منها - هي من آثار البيئة. وكان يرى أن التربة تمحو هذه الفروق أو تقلل من أهميتها. وقد بني رأيه هذا على تجاربه في إعداد خطباء الجماهير. وهو يميل إلى أن التمرين قد يعوض على الفرد ما قد حرمته الوراثة. وهو يقول في كتابه (معاهد الخطابة) يأتي:
(على الوالد أن يفكر منذ ولادة طفله في أفضل مهنة يريد إعداده لها. لأنه بتفكيره هذا يكون قد وضع نصب عينيه الغاية التي يريد تنشئته لها، فينمو بذلك نشاطه، وتشحذ جهوده في تقويمه وتسويته من طليعة حياته. وإنه لزعم واهٍ أن يقال: إن قليلاً من الأفراد قد وهبوا الذكاء والقدرة على فهم ما يلقى إليهم، وإن الجمهور من الأفراد يَضيع جهدُه ووقته سدى بسبب قلة الذكاء وبطء الإدراك. فالحقيقة تناقض هذا الزعم. لأننا نجد السواد الأعظم من الأفراد قابلاً للإدراك سريع التعلم، ولأن سرعة التعلم ميزة من ميزات الإنسان. ونحن البشر خُصِصْنا بالنشاط والفهم الحكيم، لأن عقلنا قد نزل من السماء وقل من الأفراد من يولد غبياً أو غير قابل للتعليم، كما قل من الأفراد من يولد ممسوخ الخلق مشوه الشكل. ويؤيد رأيي هذا أنني أرى بذور الذكاء كامنة في نفوس الكثير من تلاميذي، وقد تموت هذه البذور بمرور الزمن. ومعنى ذلك أن ظهور الذكاء وتفتحه رهن بالعناية والتمرين لا بوجود المقدرة الطبيعية فقط. ولعلك تعترض فتقول إن تفوق فرد على آخر إنما هو لما امتاز به الأول من مقدرة طبيعية. وإنني أسلم ذلك، ولكن هذا التفوق لا يُعترف به إلا إذا كانت المقدرة الطبيعية عملية محسوسة منتجة، كما أنك تسلم معي أن من جَدَّ وجد. فعلى من اقتنع بصواب رأيي هذا أن يسارع بمجرد أن يصبح أباً، فيفكر في مستقبل ابنه، وماذا سيكون، فيعمل لذلك المستقبل بحرص وعناية ويقظة).
ونحن وإن سلمنا بأن كوينتليان من أنصار مذهب البيئة لا يسعنا إلا أن نثبت له أيضاً أنه يعترف بوجود الفروق السيكلوجية الموروثة بين الأفراد. فهو إذاً الفطرية، وبأن هذه الفروق يمكن إزالتها بالتربية والتمرين.
وفي عصر النهضة أخذت دراسة الفروق السيكلوجية بين الأفراد اتجاهاً جدياً في المدارس الايطالية، وعنى المعلمون بها في توجيه تلاميذهم إلى نوع العمل والدراسات التي تصلح لهم.
ويعتبر فيتورينو عاش في القرن الخامس عشر أول مدرس بيداجوجي بحق. كان ناظراً لمدرسته ومدرساً بها. وقد اهتم بمعرفة الفروق السيكلوجية بين تلاميذه واكتناه أسبابها، وكيفية استغلالها في تكوين شخصيتهم. درس ولاحظ ميول تلاميذه الطبيعية المختلفة، ومظاهر هذه الميول، وقدراتهم الفطرية. وكان يضع لكل تلميذ منهم طريقة للتدريس خاصة تتفق وقواه العقلية وذوقه. وهو يقول في هذا الصدد (ليس كل فرد صالحاً لأن يكون قانونياً أو طبيباً أو فيلسوفاً محترماً باقي الذكرى بين الجمهور، وليس كل فرد موهوباً نعمة الذكاء الطبيعي).
ونحن نجد مما سقنا عن فيتورينو أنه لم يكتف بمعرفة الناحية النظرية من الفروق السيكلوجية بين الأفراد بل طبَّق هذه المعرفة في مدرسته، بل لقد بالغ وأسرف في تطبيق نظرية الفروق السيكلوجية ونتائجها. فكان لا يتردد في أن يطرد من مدرسته أي تلميذ يرى أنه سيئ الخلق. كما كان في كثير من الأحيان يفصل البلداء، أو من تخلف ذكاؤهم بعد سبق.
وفي القرن الثامن عشر سادت أوربا حركتان عقليتان في فلسفة التربية: الحركة التعقلية التي تعزز من شأن العقل وحده وتدعو إلى الثقة بما يوحي به، والحركة الطبيعية وهي التي تجعل للميول والعواطف المحل الأول في شؤون التربية والاجتماع، والتي تدعو إلى أخذ الطفل بما يوافق طبائعه ويلائم ميوله ورغباته. وتدعو هذه الحركة إلى إعطاء الطفل أكبر نصيب مستطاع من الحرية لتنمية غرائزه الصالحة وقواه المنتجة النافعة. وزعيم هذه الحركة هو جان جاك روسو. وقد كانت رسالته في التربية (إميل) ثورة على نظريات التربية القديمة التي كانت تحول بين الطفل وبين نمو غرائزه، وتحدد من نشاطه العقلي وتقيده بآراء دينية واجتماعية تقليدية.
جاء روسو منادياً بتقوية الفردية وبتشجيع الغرائز على إظهار آثارها، وإزالة العوائق التي تقطع عليها طريق الحرية الكاملة. وهاك اقتباساً من كتابه (إميل) يحث فيه على تنمية المواهب الفردية وتقويتها:
(لكل طفل استعداد عقلي خاص. ووفقاً لهذا الاستعداد يجب أن يوجه الطفل. وإذا أردنا نجاحاً في تربية الطفل وجب علينا أن نسير مع ميوله الطبيعية. كن حازماً وراقب طبيعة طفلك طويلاً، ولاحظه بحرص وحيطة من قبل أن توحي إليه بكلمة أو إرشاد. دع أولاً بذور طبيعته تترعرع، وأحذر أن تتدخل في نموها إلا قليلاً حتى ترى عم تتفتح براعمها) وإذاً فروسو وراثي المذهب، لأنه يرى أن الفروق السيكلوجية - وهي التي تكون الفردية - طبيعية وموروثة، وأن مهمة المربي هي أن يرعى ما في الفرد - أي الطفل - من قوى، ويراقبها، وهو يحث المربين والكبار على (أن يحترموا الأطفال، وألا يتعجلوا في الحكم على أفعالهم بالخير أو الشر. وإذا كان من بين الأفراد بعض الشواذ، فالأولى أن يتركوهم مدة من الزمن حتى تظهر نواحي شذوذهم، ثم يعالجوهم بما يصلح لها. دع الطبيعة - يعني طبيعة الطفل - تعمل وئيداً، واترك لها الزمن الكافي قبل أن تستعيض عنها غيرها، خشية أن تعطل وظيفتها النافعة).
وفي أثناء المراحل الأولى من نمو الطفل سيعرف الطفل نفسه بنفسه. ويرى روسو أنه (لا ضير أن يترك الطفل وشأنه يفعل ما يشاء، لأنه قد عرف قوة نفسه، ومن المستحيل أن يعمل شيئاً لا يقدر على عمله، ولأنه لا يمكن أن يعدو حدود قدرته الطبيعية، وهو يعرف تماماً ما هي).
ومعنى هذا أن روسو يترك للطفل كامل حريته حتى تنمو فيه الصفات المكونة لفرديته، والتي تميزه عن غيره. فالفروق السيكلوجية إذاً نتيجة للنمو الحر للخواص الطبيعية الموروثة عند الأفراد.
ولكن رجال التربية الحديثة لا يشاركون روسو في هذا النوع من التربية المطلقة، لأنهم لا يثقون بتعليم الطبيعة وقيادتها وحدها، ولأنهم يخشون إن تركت الغرائز الفردية والميول الطبيعية حرة، أن تسلك الطريق المعوج كما تسلك الصراط المستقيم. وهم يعللون ذلك المذهب البيداجوجي الذي اعتنقه روسو ونادى به بأنه رد فعل للروح الاجتماعية والتربوية التي كانت سائدة في عصره والتي قيدت النمو السيكلوجي الطبيعي للطفل.
وكل ما يهمنا من مذهب روسو في هذا البحث هو أن نُسجِّل أنه فطن كغيره من الفلاسفة والمربين الذين ذكرناهم في هذا المقال وسابقه، فطن إلى الفروق السيكلوجية عند الأطفال والى ضرورة تنمية الفردية وتربيتها عند الأطفال.
هذا وقد أصبحت الفروق السيكلوجية بين الأفراد من الحقائق المسلم بها بين المربين وعلماء النفس المعاصرين، وهم يوصون بأن تكون مناهج الدراسة وطرقها مختلفة باختلاف الأفراد، ولكن إقرار الحقائق شيء والقيام بتنفيذ مستدعياتها شيء آخر. ولا زالت هناك صعوبات مادية وعملية في سبيل تحقيق مستدعيات الفروق السيكلوجية بين الأطفال. ففصول الشواذ والمتخلفين وطرق التربية الفردية من الأشياء التي يشعر المربون بضرورتها وإن لم يستطيعوا تحقيقها بعد في كل معهد دراسي.
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد