مجلة الرسالة/العدد 333/الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش
→ الفروق السيكلوجية بين الأفراد | مجلة الرسالة - العدد 333 الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش [[مؤلف:|]] |
في الأدب الإنجليزي الحديث ← |
بتاريخ: 20 - 11 - 1939 |
للأستاذ عبد اللطيف النشار
نشيد الأحزاب
من وضع السيد الرسول ﷺ
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر
الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بكرة وأصيلا
الحمد لله وحده ... صدق وعده
ونصر عبده ... وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد
من من المسلمين لا يحفظ هذا النشيد؟
كلنا نحفظه، ولكن أكثرنا يرتلونه قعوداً بعد صلاة عيد الأضحى. ولا يزال في الريف من يرتلونه في موكب عند عودتهم من المسجد إلى القرية. أما النبي ﷺ فقد كان يرتله في وسط كوكبة من الجند، ووراء الكوكبة جيش جرار على صدر كل منهم درعه، وعلى رأسه اللأمة، وفي يده السيف المسلول.
كانوا رضوان الله عليهم أجمعين يمشون مشية المحارب ويرتلون هذا النشيد الرصين الهادئ القوي على نغمات المسير. فهو إن أردنا تسميته بالمصطلح العصري (مارش الإسلام) هو النشيد الذي أعد لمسير الجيوش التي فتحت فارس ومصر بعد عقدين من الهجرة النبوية الشريفة.
الحمد لله وحده ... صدق وعده
ونصر عبده ... وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
هذا الكلام البليغ ليس بالشعر، ولكنه قابل للتلحين. وقد حفظنا لحنه وأنشدناه ولا نز ننشده في كل عام. وكل الفارق بيننا وبين قائليه الأولين أنهم كانوا يرددونه وفي أيديهم السيوف ونحن نرتله وفي أيدينا المسابح، وأنهم كانوا يرددونه وهم يمشون إلى القتال ونحن نقوله ونحن سائرون إلى الديار لشرب مرق الأضاحي التي أمرنا بذبحها للفقراء فذبحناها لنأكلها نحن هنيئاً مريئاً، وأنهم كانوا يرتلونه وتنبض قلوبهم بشعور حي لأنهم يفهمون لكلمة (وهزم الأحزاب وحده) معنى غير الذي نفهمه نحن. . . هم يفهمون أن الأحزاب هم فلان وفلان الذين رأوهم في يوم كذا من شهر كذا يذبحون فلاناً وفلاناً من أقاربهم وقد هزمهم الله بأن مات منهم فلان وفلان وأسر منهم فلان وفلان وأسلم منهم فلان وفلان.
(وهزم الأحزاب وحده) كلمة بليغة نقولها نحن، ونغمة شجية نطرب لها نحن، ولكنها غير مشفوعة في خيالنا بالصورة الواضحة التي يترسمها القائل المجاهد، وغير مشفوعة في مشاعرنا بذكريات الأرحام الممزقة، والمودات التي استحالت إلى عداوة، والعداوات التي استحالت إلى أخوة.
ألفاظ نقولها ونغمة نعيها ونفهم معاني كل كلمة فيها ونعي النغمة أيضاً، ولكننا بعد ذلك لا نفهمها الفهم الكامل لأنها لا تستثير في نفوسنا ذكريات حية واشجة بحياتنا الشخصية ولا تعرض على خيالنا صوراً رأينا مثلها بالحس:
صدق وعده ... ونصر جنده
وهزم الأحزاب ... وحده
نفهم كل حرف من هذا ولكننا لم نر النبي كما رأوه وهو يرتعد ويقول: اللهم وعدك الذي وعدتني. ولم نسمع أبا بكر يجيبه كما سمعوه حين أجابه وهو يقول: إن الله منجزك ما وعدك. فالألفاظ واحدة ولكنها أدت لدى الكثرة منا معاني فحسب، وأدت لدى من قالوها لأول مرة معاني وصوراً وانفعالات. بل لو شئنا لقلنا إنها أطلقت من غددهم إفرازات اختلطت بدمائهم فكونت في عروقهم لوناً آخر من ذلك السائل الكيميائي غير الذي يجري في عروقنا نحن.
هذا النشيد إذن بتأثيره في سامعيه نشيد غير الذي ننشده نحن وإن لم تختلف ألفاظه، وما قيمة الألفاظ التي لا تنقل نفس الأثر؟ ولكن أحقاً أنها لا تنقل نفس الأثر؟
أحسب القول ذا إجابات تتراوح بين الإقرار وبين الإنكار، فإن الخيال والدرس والإيمان كل ذلك خلال تستبقي الأثر لكل لفظ قيل إذا تشابهت ظروف القول. وهذا النشيد ككل قول آخر ينطبق عليه قول أبي الطيب:
ولكن تدرك الأفهام منه ... على قدر القرائح والعقول
ولقد كان الذين دفعهم إيمانهم إلى دراسة السيرة النبوية دراسة تربط الفهم بالوجدان - كان هؤلاء يتأثرون بهذا النشيد حين يسمعونه كما تأثر به أوائل من سمعوه إذا اتفقت لهم مثل الظروف التي قيل فيها. فطارق بن زياد في فتح الأندلس قال في وسط الجند:
الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
قال لهم ذلك والسيوف في أيديهم ينقل إليهم مثل الإحساس الذي عالجه المهاجرون والأنصار وهم على أبواب المدينة في العام الثاني للهجرة والنبي واقف يقول إن المشركين قد اقتربوا من المدينة يريدون غزو المسلمين، وإنه يريد أن يخاطر بعض المسلمين بحياتهم فيذهبوا إلى حيث معسكر الكفار ليعرفوا مواقعهم ويبرزوا قوتهم ثم يأتوه بالأخبار.
سأل النبي أيهم يقدم على هذه المخاطرة، فتقدم منه الزبير يعلن استعداده لها.
ولكن النبي أعاد السؤال فكان الزبير هو الذي أجاب، وأعاد النبي السؤال للمرة الثالثة فكان الزبير هو الذي أجاب. فقال عليه الصلاة والسلام إن لكل نبي حواريين وإن حواريَّه هو الزبير.
أجميلة هذه الصورة؟
جميلة بلا ريب. لكن أجمل منها ذلك الشعور النبيل الذي جاش بنفس النبي وجاش بنفس كل جندي من جنوده، هو الشعور بأن الأحزاب إن هزمت فإن الذي سيهزمها هو الله وحده، ومن الذي يستطيع أن يهزم الأحزاب غير الله؟
إن أحداً لم يعد النبي بالنصر غير الله. فالله سيهزم الأحزاب لأنه سبحانه وعد بذلك. والأحزاب عدد كبير، ولكن الله أكبر.
كذلك تدفقت من فم النبي هذه الأنشودة التي ظل يرتلها في كل غزوة والمسلمون يرتلونها معه: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر
الله أكبر كبيرا ... والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بكرة وأصيلا
الحمد لله وحده ... صدق وعده
ونصر عبده ... وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد
وبعد فهذا أول (مارش) في الاسلام، ولم يكن بالشعر ولكن صاحب الرسالة التي تحدت الشعر بالفواصل الكريمة: فواصل القرآن قد تحدت الأناشيد العسكرية بهذا النثر الموسيقي الذي فتحت به فارس وفتحت به مصر وفتحت به الشام وفتحت به أفريقيا وفتحت به الهند وفتحت به الأندلس وفتحت به بلاد البلقان وفتحت به بلاد النمسا الجنوبية وبولونيا. ثم ماذا؟ كان يفتح به سائر العالم لو فهم المسلمون فهماً مشفوعاً بالشعور العميق معنى!
الحمد لله (وحده)، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!
ولكن هل في هذا النشيد الهادئ القوي الرصين ما في أناشيدنا من الألفاظ الجوفاء كالنار والفداء والدماء؟
لا. لأن الجيش المحارب لا يستطيع الانتصار إلا إذا شعر بأنه من أجل الحياة يدافع، ومن أجل الرفاهية يهاجم، وأنه في سبيل الخير يتحرك، وأن الغرائز التي تستحثه هي الغرائز السامية لا شهوة الدم والنار.
عبد اللطيف النشار