مجلة الرسالة/العدد 332/من كتاب (الدين الإسلامي)
→ جناية أحمد أمين على الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 332 من كتاب (الدين الإسلامي) [[مؤلف:|]] |
الفروق السيكلوجية بين الأفراد ← |
بتاريخ: 13 - 11 - 1939 |
من هو المسلم؟
للأستاذ علي الطنطاوي
ديننا علم واعتقاد وعمل
فالمسلم من (علم) أن الله عز وجل بعث محمداً ﷺ على حين فترة من الرسل بالشريعة الخالدة التي تصلح لكل زمان ومكان، والتي تكفل لمتبعيها سعادة الدنيا والآخرة، وجعلها رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، وأنزل عليه الكتابَ الذي ما فرط فيه من شيء، القرآن كلامَ الله القديم، وختم بالإسلام الرسالات فلا نبي بعد محمد خاتم النبيين
و (علم) أن دعامة الإسلام وأساسه، ومصباحه ونبراسه، كتاب الله وسنَّة نبيِّه، فما جاء في القرآن أو صحَّ أن النبي ﷺ قاله فهو من الدين، وما عدا ذلك من بدع ابتدعها في الدين قوم، أو زيادات زادها أقوام ليست في القرآن ولم ترد في الحديث الصحيح ولا تقاس عليهما ولا يجمع عليها أئمة المسلمين فليست من الدين ولو قال بها أهل الأرض.
و (علم) أن الإسلام لا يشبه الأديان ولا يقاس عليها، لأنه دين وشريعة وسياسة وأخلاق، فهو يبيِّن صلة العبد بربه، ويضع القوانين لصلات الناس بعضهم ببعض، ويبني قواعد العلاقات السياسية بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول، والإسلام يرافق المسلم إذا غدا أو راح أو طلع أو نزل لا يفارقه لحظة ولا خطوة. وليس في الدنيا عمل لا يدخل فيه الإسلام ويبيِّن فيه حكم الله، فإما أن يكون مباحاً لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وإما أن يكون مندوباً يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وإما أن يكون واجباً يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإما أن يكون مكروهاً يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وإما أن يكون حراماً يثاب تاركه ويعاقب فاعله. وهذه الأحكام الخمسة (الفرض والمندوب والمباح والمكروه والحرام) هي التي تحدد مكان كل عمل من الدين ولا يخلو عمل من واحد منها. فالمسلم لا يقول أبداً (هذا الأمر خارج عن نطاق الدين لا دخل له فيه) كما أنه لا يقول (إن الإسلام يجب أن ينفصل عن السياسة) لأن السياسة جزء من أجزاء الدين، و (براءة) وكلها سياسة، سورة القرآن لا يمكن أن تنفصل عنه
والمسلم من (علم) أن الشريعة الإسلامية أغنى الشرائع؛ وأنها أثمن وأجمع وأحكم من القانون الروماني الذي اقتبست منه كل قوانين أوربة، وأنه يجب أن تكون قوانيننا المدنية والجزائية والمالية والإدارية والدستورية مستنبطة من شريعتنا، مقتبسة من ديننا
و (علم) أن من أنكر آية من القرآن، أو حديثاً متواتراً فقد خرج من الإسلام
و (علم) أن الاجتهاد في استنباط الفروع أمر مستحسن شرعاً، يؤجر عليه صاحبه ولو أخطأ فيه مكافأة له على بذله الجهد واستفراغه الطاقة، فإذا أصاب كان له فوق ذلك أجر آخر هو أجر الإصابة؛ وأن الاجتهاد في أصول الدين ممنوع لأنها منصوص عليها ولا مساغ للاجتهاد مع ورود النص، وأنه لا يضر الناس اختلافهم في الفروع (فكلهم من رسول الله ملتمس) سواء في ذلك الحنفي منهم والشافعي والمالكي والحنبلي. بل إن اختلافهم رحمة من الله وتوسيع على الامة، ولكن يضر الناس اختلافهم في أصول الدين من العقائد ونحوها، ويكون الواحد منهم مصيباً والباقون على ضلال. لأن الحق لا يتعدد، والمصيب هو من اتبع ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه والقرن الأول خير القرون
و (علم) أن كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يعتقد ما يخالف الكتاب والسنة، ولم يستحل محرَّماً ولم يحرم حلالاً، فهو مسلم تنطبق عليه أحكام المسلمين وتجمعنا به أُخوة الدين، ولا يجوز تكفير مسلم إلا إذا أنكر أصلاً من الأصول، أو أتى ما أجمع الأئمة على أنه مكفر
و (علم) أن الإسلام لا يعارض العلم الصحيح، ولا الفن النافع، ولا الحضارة الخيِّرة، وأنه دين سهل رحب مرن، ليس بالدين الضيق الجامد المحرج
والمسلم من (اعتقد) بأن لهذا الكون إلهاً واحداً قديماً باقياً، سميعاً بصيراً، متصفاً بصفات الكمال، منزهاً عن صفات النقصان، وأنه هو خالق كل شيء وإليه المصير، ويخلص له العبادة ويراقبه دائماً ويعلم أنه مطلع عليه، وأنه هو وحده النافع الضار، وبيده الخير وهو على كل شيء قدير. فلا يدعو معه غيره، ولا يسأل سواه حاجة من الحاجات التي لا يقدر البشر على مثلها ولا يستعين إلا به، ولا يخاف حق الخوف إلا منه، ولا يسخطه ليرضي الناس، ولا يبالي إذا رضي عنه بسخط أحد و (اعتقد) أن الله خلق أنواعاً من المخلوقات، منها ما خلقه من مادة كثيفة كالناس والحيوان والكواكب، ومنها ما خلقه من مادة نورانية كالملائكة وهم خلق كثير من خلق الله لا يأكلون ولا يشربون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون
ومن مخلوقاته الجن، وهم خلق يروننا ولا نراهم، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنها الشياطين وهم أهل الشر ليس فيهم صالح
و (اعتقد) أن الله رحمة منه بالناس، اختار منهم رجالاً عصمهم من الكبائر، ونزههم عن النقائص، ثم بعث إليهم (جبريل) وهو واحد من الملائكة، فأبلغهم رسالة الله، وعلمهم ما يسعدهم في دنياهم وينجيهم في آخرتهم، وكلفهم إبلاغ هذه الرسالة أقوامهم، وهؤلاء هم الرسل وأولهم آدم وآخرهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
ولو شاء الله لأنزل كتاباً واحداً، وجعل الناس أمة واحدة، ولكن اقتضت حكمته أن يكون التكامل في الرسالة تدريجياً، كالتكامل في الحضارة والرقي، فكل رسالة تعدل التي قبلها وتكملها، حتى جاءت رسالة محمد، في نهاية الكمال، لا يحتاج بعدها إلى شيء لسببين، أولهما أن طبيعة الرسالة المحمدية طبيعة مرنة قابلة للتطور في أحكامها الفرعية تبعاً لتطور العصور، فهي لذلك تبدو في كل عصر جديدة، ويتكشف منها جوانب ومعان لم تكن معروفة، حتى كأنما أنزلت لذلك العصر؛ والسبب الثاني طبيعة الحياة البشرية وميلها نحو الوحدة، منذ فجر الإسلام حتى اليوم، إذ أصبح الناس من حيث الاتصال كأنهم أبناء أسرة واحدة، تقال الكلمة في آخر الشرق فتسمع في آخر الغرب، وسهل تبليغ الرسالة، ولم تعد حاجة لتعدد الرسل بتعدد الأقوام
و (اعتقد) أن الوحي معناه نزول الملَك على الرسول، وهو غير الإلهام الروحاني الذي يحس به الشعراء والكتاب، وأن الوحي ليس كسبياً وإنما هو عطاء من الله لا ينال بالتحصيل، ولا يوصل إليه بالبحث والعلم والتفكير، لذلك لا يقال إن النبي مصلح عظيم، ولا شاعر ولا فيلسوف، لأن ذلك كله يختلف عن النبوة، وينحط عن مرتبتها انحطاطاً كبيراً، ويخالف العقيدة الإسلامية
و (اعتقد) أن الله أنزل على أربعة من رسله كتباً، فأنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلى الله على الجميع، فبدل كل قوم كتابهم وحرَّفوه وبقي القرآن كما أنزل، لأن الله ضمن حفظه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
و (اعتقد) أن الله سيجمع الناس كلهم في يوم القيامة، فيعيد الحياة لمن مات، ويرد عليه الروح ولو فني وصار تراباً، ولو أحرق جسده وصار رماداً، ولو أكلته الوحوش أو تخطفته الطير، ثم يحاسبهم جميعاً على ما عملوا في الدنيا، فيكافئ المحسنين فيخلدهم في الجنة، ويعاقب المسيئين فيدخلهم النار
وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وأن من تاب قبل أن يموت محي ذنبه حتى كأنه لم يذنب، بشرط أن تكون التوبة مقرونة بترك الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم على الماضي، وهذه هي التوبة الصادقة التي تمحو الذنب، فإن عاد بعدها إلى الذنب، ثم تاب منه توبة صادقة غفر له، ولو كثرت ذنوبه حتى صارت مثل زبد البحر (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)
أما من تاب من ذنب وهو لا يزال مقيماً عليه، أو يفكر في أن يعود اليه، فهذا كالمستهزئ به والعياذ بالله
و (اعتقد) أن كل شيء بقدر الله، وأن الله قسم للعبد سعادته وشقاءه، ورزقه وعمره فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، ولو بقي في عمرك يوم واحد لا يقتلك أهل الأرض ولو اجتمعوا عليك، وإذا جاء أجلك أدركك الموت ولو كنت في برج مشيَّد، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، ولا رادَّ لما قضى الله، ولا دافع لمشيئته
والمسلم بعد ذلك، من يقر ويشهد بلسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤديها على وجهها في أوقاتها محافظاً على فروضها وسننها، خاشعاً لله فيها، ويصوم رمضان إيماناً واحتساباً، ويؤدي زكاة ماله طيباً بها قلبه، ويحج البيت إن استطاع
ثم إنه لا يكذب ولا يغتاب ولا يشي ولا يؤذي أحداً ولا يظلمه، ويكون عفيف العين واليد والفرج، ساعياً إلى مكارم الأخلاق، آخذاً الحكمة من حيث وجدها، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، يعاون على البر والتقوى، ولا يعاون على الإثم والعدوان، ينكر المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان، ويؤدي حقوق المسلمين فيساعد ضعيفهم، ويمد فقيرهم، ويعود مريضهم، ويغض بصره عن نسائهم، ويحفظ لهم أعراضهم، ويعد كل شيخ في المسلمين أباً له، وكل شاب أخاً، وكل صبي ولداً، وكل فتاة بنتاً، وكل امرأة أختاً، ثم إنه يجتنب الخمر، ويدع الربا، ويخاف الشُّبَه كيلا تقوده إلى المحرمات، ولا يحوم حول الحمى حتى لا يقع فيه
ويريد بذلك وجه الله، مبتعداً عن حظ النفس ما استطاع الابتعاد، عالماً أنه بشر فيه غرائز لا يملك الانفكاك عنها، ولا يؤاخذه الله إلا بما ملك.
هذا هو المسلم الحق. . . فاللهم اجعلنا مسلمين حقا!
علي الطنطاوي