مجلة الرسالة/العدد 332/الفروق السيكلوجية بين الأفراد
→ من كتاب (الدين الإسلامي) | مجلة الرسالة - العدد 332 الفروق السيكلوجية بين الأفراد [[مؤلف:|]] |
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش ← |
بتاريخ: 13 - 11 - 1939 |
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
إن ما أعنيه بالفروق السيكلوجية هي تلك الفروق العقلية والخلقية والمزاجية والجسمية الموجودة بين الأفراد. ومن السهل على المفكر العادي أن يدرك مظاهر تلك الفروق في تصرفات الأفراد وفي إنتاجهم الاجتماعي والعلمي. وليس موضوع اختلاف الأفراد السيكلوجي حديثاً في ذاته، فقد تناوله العلماء والفلاسفة بالبحث منذ قرون. ولكنه حديث بالنسبة لبحثه بالطرق العلمية والإحصائية، وتحديد تلك الفروق وتبويبها، ومعرفة أسبابها، وعزو ما هو وراثي منها للوراثة، وما هو بيئي للبيئة. وهذا النوع من البحث العلمي في الفروق السيكلوجية ظهر واحتل مكاناً بين فروع علم النفس في الربع الأخير من القرن الماضي وذلك بنمو علم النفس التجريبي. وهو يعرف الآن بعلم النفس الفردي في
وأقدم من عالج هذا الموضوع أفلاطون في جمهوريته، فإنه حين وضع نظام المدينة الفاضلة بناه على أساس الاختلاف السيكلوجي بين أفراد الجماعة الواحدة. وكان يرى أن (العدل الاجتماعي) يقضي بأن يقوم الفرد بالعمل الذي أُعد له بطبيعته، والذي تقوى على تحمله وتسويته طاقته العقلية، واستعداده الجسمي. وكانت نتيجة هذا المبدأ أن قسم أفلاطون سكان مدينته إلى طبقات ثلاث، فجعل فيها طبقة الزراع والصناع والتجار، وهؤلاء بطبيعتهم غير صالحين لأن يكونوا ضمن الطبقة الثانية طبقة الجنود المدافعين عن المدينة من الخارج والمحافظين على نظامها في الداخل. وفوق هاتين الطبقتين طبقة ثالثة قد وهبت من المزايا العقلية والخلقية ما لم توهب الطبقتان الأخريان وهذه هي طبقة الفلاسفة والحكام الذين لهم حق الإشراف على الإدارة والقضاء والتشريع. وقد أشار أفلاطون في الجمهورية إلى أن هذه الطبقة الأخيرة طبقة ممتازة بالفطرة. وأهم مميزاتها التفكير المنطقي المعنوي، والإدراك الفلسفي لحقائق الأشياء. ومن الغريب أن هذه الميزة التي يراها أفلاطون ضرورية لطبقة الفلاسفة هي التي يسميها بعض علماء النفس الحديثين الذكاء
وضع أفلاطون منهجاً لتربية هذه الطبقات الثلاث، ورأى أنه من العبث أن يضيع المجهود في تربية طبقة الزراع والصناع، لأن هذه الطبقة ليست بفطرتها مستعدة للنمو الث والترقي الفكري.
وإذاً فمن صالح هذه الطبقة - وصالح الجماعة أيضاً - أن تنصرف إلى نوع العمل المستعدة له، يعني الزراعة والصناعة؛ أما الطبقتان الأخريان فقد رأى العناية بتربيتهما من سن السابعة إلى سن العشرين.
وحينما يصل الشبان إلى هذه السن تكون قد ظهرت مواهبهم وقدراتهم للمشرفين على تربيتهم، فيختارون من بينهم النابغين منهم عقلياً وتفكيرياً ليواصلوا دراساتهم الثقافية وتستمر دراسات هؤلاء المختارين مدة عشر سنوات يعالجون فيها من الموضوعات كل ما ينمي فيهم القدرة على التعليل وفي نهاية عشر السنوات يُختار الصالح من هذه الطبقة ليكون مشرفاً إدارياً، بينما يستمر الأصلحون منهم خمس سنوات أخرى في دراسة الجدل والحوار المنطقي، وبذلك يكونون قد أُعِدُّوا لتحمل التبعة الكبرى، تبعة الحكم الرئيسي
ويمثل رأي أفلاطون الذي شرحناه هذا مذهب الوراثيين الذين يبالغون في أهمية الوراثة كعامل مرجح في تكوين الصفات العقلية والخلقية والجسمية للفرد، ويعزون للوراثة وحدها الفروق السيكلوجية بين الأفراد
ولسنا هنا في مقام انتقاد هذا الرأي الأفلاطوني من الناحية العلمية والسيكولوجية الحديثة، ولا في مقام شرح نقط الضعف في نظام الطبقات وتربيتها، تلك التربية التي أهملت عدداً كبيراً من المواهب الفردية والعناصر النافعة ضائعةً في طبقة الصناع والتجار والزراع وفي طبقة الجنود. ولكنه ضروري من الناحية التاريخية أن نشير إلى أن أفلاطون حاول أن تكون مراحل التربية وغاياتها في المدينة الفاضلة مبنية على أساس أن هناك فروقاً عقلية وجسدية بين أفرادها. ويقابل هذا في التربية الحديثة أن تكون المناهج الدراسية مختلفة باختلاف قوى التلاميذ العقلية واستعدادهم الطبيعي وميولهم الفطرية، وأن يكون التعليم المدرسي فردياً أكثر منه جميعاً
اتبع أرسطو مذهب أستاذه أفلاطون في قبول مبدأ الفروق السيكلوجية الفردية، ولكنه اختلف عنه في أن أهم هذه الفروق هي الفروق الجنسية.
فالمرأة عنده تختلف بطبيعتها عن الرجل من حيث استعدادها العقلي والجسمي والمزاجي والخلقي. ولذلك رأى أن يختلف نوع التربية التي تتلقاها عن تربية الرجل، وأن تكون الغاية من تربيتها مختلفة عن الغاية من تربية الرجل. فلم يقرَّ ما ذهب إليه أفلاطون من أن الطبيعة جعلت المرأة مساوية للرجل وهيأتها للمشاركة في الجندية والسياسة. وزاد على ذلك أرسطو فحاول أن يحدد النمو البشري العقلي والجسمي وطبيعته، والعوامل التي تحدث الفروق السيكلوجية في مراحل هذا النمو. وهو يرى أن التربية ليست آلة يستطيع بها المربي أن يصوغ المربى كما يشاء، وأن يضعه في القالب الذي يريد، ولكن التربية وسيلة للتوجيه فقط، توجيه القوى الكامنة والاستعدادات السيكلوجية الفطرية في الأفراد توجيهاً إلى الناحية الصالحة، وتوجيهاً عن الناحية الفاسدة.
وهو يرجع الفروق السيكلوجية بين الأفراد عامة إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
(1) الطبيعة البشرية (2) العادة والتمرين (3) التعقل.
أما الطبيعية فهي وراثية توجد في الطفل منذ الولادة وهي كامنة في الفرد في جميع أطوار نموه. وأما العادة فهي أثر من آثار البيئة وهي التي تحدد اتجاه النمو الطبيعي والتطور الفردي.
وأما التعقل فهو الذي يتدخل في قوانين العادة فيهذب منها، ويبطل هذا ويحبذ ذلك.
ويدلنا مذهب أرسطو هذا على اعتداله، وأنه يأخذ بمبدأ تأثير كل من الوراثة والبيئة في إيجاد الفروق الفردية السيكلوجية. غير أنه يقول بأن فرداً لا يمكن تغييره وتحويره بحيث يعدو حدود طبيعته، لأن أي مؤثر تربيوي إنما يحدث أثره في الفرد ضمن قوى الفرد الطبيعية.
ويقرر أن الأفراد الذين يعوزهم الذكاء العقلي يعيشون طول حياتهم متخلفين عن غيرهم ممن منحوا هذا الذكاء مهما سلطت على الأولين من عوامل تربيوية قوية. وثمة نوع غير هذين النوعين من الأفراد وهم النابغون، وهم قلائل ولا يحتاجون لاستغلال نبوغهم إلا إلى قدر يسير من الدربة والتربية بالنسبة لغيرهم.
ونستنبط من مذهب أرسطو هذا أن الفرد بطبيعته مزود بقوى حسية وإدراكية محدودة، وأن التربية (العادة في نظره) هي التي تنمي هذه القوى وتعمل على أن تصل بها إلى مرحلة الكمال الممكن.
ولما كانت هذه القوى مختلفة عند الأفراد، وكان أثر التربية في كل فرد مختلفاً أيضاً كانت النتيجة أن الأفراد مختلفون في تصرفاتهم وسلوكهم وإنتاجهم. وهذا ما يسميه علماء النفس الحديثون بالفروق الفردية السيكلوجية
كان اسكوراطس الخطيب اليوناني القدير معنياً بتعليم الخطباء وتمرينهم وتنشئتهم. وقد أدرك هو أيضاً كمعلم الفروق السيكلوجية بين من قام بإعدادهم من الطلبة لمهنة الخطابة واللسن.
وهو يقول في هذا الصدد (لقد أشرفت على إعداد معلمي الخطابة ومعلمي الألعاب البدنية كما لاحظتهم أثناء قيامهم بالتدريس ووصلت إلى نتيجة اقتنعت بها. وهي أنهم في مكنتهم أن يتقدموا بتلاميذهم، وأن يرتقوا بهم إلى درجة يصيرون فيها أقدر على استعمال أجسامهم وعقولهم من ذي قبل. ومهما يكن من الأمر فإنه ليس في استطاعة معلمي الخطابة، ولا معلمي الألعاب البدنية أن يخلقوا خطباء من أي أفراد يشاءون. نعم إن مجهود هؤلاء المعلمين ينتج إلى حد ما نتيجة نسبية، ولكنه لا يمكن أن ينتج هذا المجهود أقصى ما يمكن إلا إذا صادف من التلاميذ من جمع بين فضيلتين: الذكاء وقبول التدريب)
وإذا نظرنا إلى الذكاء وجدنا أنه عامل وراثي، أما التدريب فهو عامل بيئي، وإذاً فقد قال أسكوراطس بأثر عاملي البيئة والوراثة معاً
هكذا كان مذهب أسكوراطس الأثيني في الوقت الذي كان فيه التفكير اليوناني ينظر إلى الفرد من جميع نواحيه السيكلوجية: الناحية الجسمية، والناحية العقلية، والناحية الخلقية، والناحية الذوقية، وكان مجموع هذه النواحي يُكوِّن عند الرأي اليوناني ما يسمى بالشخصية، وكلما وجد تناسق وتناسب وانسجام بين هذه النواحي وبين أطوار نموها كانت الشخصية أقرب إلى الكمال
وينحو علم النفس الحديث هذا المنحى الآثيني، مع اختلاف في طريقة البحث والقياس. فللأفراد شخصيات مختلفة، واختلاف الشخصيات هذا معناه الفروق الفردية السيكلوجية، والشخصية وفقاً لعلم النفس الحديث يمكن تحليلها إلى عناصر أربعة: العنصر العقلي والعنصر الخلقي والعنصر الذوقي والعنصر الجسمي.
(للبحث بقية)
عبد العزيز عبد المجيد رئيس شعبة اللغة العربية بمعاهد بخت الرضا التجريبية
بالسودان