الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 33/يوم سقراط الأخير في منزله

مجلة الرسالة/العدد 33/يوم سقراط الأخير في منزله

مجلة الرسالة - العدد 33
يوم سقراط الأخير في منزله
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 19 - 02 - 1934


للآنسة اسماء فهمي

تهمنا ناحية خاصة من تعاليم الفيلسوف سقراط، التي سجلها أفلاطون في (الجمهورية) وهي رأيه في تعليم النساء؛ فقد كان يقول بوجوب تعليم الممتازات منهن تعليما لا يختلف عن تعليم الرجال الممتازين، لاعدادهن لتولي منصب الحكام الفلاسفة في المدينة النموذجية، إذ لا يرى اختلافاً جوهرياً بين استعداد المرأة واستعداد الرجل. يرى سقراط هذا الرأي في وقت انحطت فيه مكانة المرأة في أثينا وأصبحت لا تمتاز من الأرقاء إلا قليلاً؛ وبالرغم من أنه كان يعيش مع زوجة يضرب بها المثل في شراسة الطباع ورعونة الخلق. وهذا لا شك برهان قوي على استقلال رأي الفيلسوف وسموه على الآراء السائدة، والمؤثرات الخارجية،

واعترفاً بفضل سقراط على المرأة سأبين فيما يلي ما عاناه من عنت زوجه (زانتيب) في يومه الأخير بداره قبل القبض عليه، مستعينة بالرواية التي وضعها عن حياة الفيلسوف.

في صباح يوم راق جوه، وسطعت شمسه، آثر سقراط البقاء في منزله على غير العادة، فلم يخرج للحوار والمجادلة في أسواق أثينا، وإنما جلس على مقعد خشبي عتيق في فناء داره التي كانت يستعملها غرفة استقبال - وأخذ يخصف حذاءه؛ ولعل ذلك ما منعه عن الخروج ذلك اليوم؛ وتلك عملية كانت تجدد ولا شك كل بضعة أسابيع، لأن الفيلسوف كان لا يستعمل شيئاً أكثر من نعليه سوى لسانه!

وبينما هو على تلك الحال، ولحيته الطويلة البيضاء المرسلة تكاد تخفي الحذاء وتعوق سير العمل، اذ بزوجته زانتيب تنقض عليه انقضاض الصاعقة وتفاجئه قائلة:

- أنت هنا يا سقراط؟

- نعم: ييا زانتيب، ولكن لا أفهم المقصود من تلك العبارة. .؟

- وما الذي تفهم من شئون الحياة؟ سأفرغ من اعداد طعامك بعد دقائق. .

- حسن جدا.

- الطعام المعتاد طبعا.

- جميل للغاية.

- أحقاً ما تقول؟! لو كنت تعمل عملاً شريفاً وتحصل منه على بعض النقود مثل سائر الرجال المجدين لما أصبحنا في حاجة لأكل العيش والعدس يوماً بعد يوم.

- إن من لا يسأل غير الكفاف يا زانتيب يكون بلا شك أعظم الناس شبها بالآلهة!

- أبق هذا الهذيان حتى تكون مع صحبك الأعزاء. أما انا فلا تهذ معي. . .

- لقد خلق كلانا محبا للكلام!

- لقد خلقت محباً لذاتك، وتلك هي مصيبتك.

- ربما.

- أيهمك أمري أو أمر اللأطفال؟ لو كنت تفكر فينا حقاً لما جننت لدرجة أنك أصبحت تناصب الحكومة العداء،

- ما الذي سيحل بي؟

- أريد أن أعلم - عندما يلقونك في أعماق السجون؟

- عندئذ تصبحين أسعد حالاً.

- وكيف ذلك؟ هل لي أن أسأل؟

- إن أصدقائي لا يفتأون يقدمون الى نقودا. . .

- (زانتيب مقاطعة) وأنت دائماً ترفضها.

- بالتأكيد! أما أنت فسوف لا ترفضينها!

- هل تريد ان أموت جوعاً؟ أما عن اصدقائك فاني أبغضهم جميعاً ما عدا (السبياديس) الانيق. اني لا أستغرب ان يقتل الشبان الموسرون أوقاتهم في المجادلة في أمور تافهة، ولكن الذي استغربه هو عدم ترك الرجل الفقير لتلك الأمور لمن هم فوقه مرتبة.

- لقد اشتغلت بجد في شبابي

- وانفقت كل ما جمعت على الناس! آه لقد نفد معين الصبر معك!

- لقد لاحظت ذلك

- آه. كم أود أن تغتاط وتفقد حلمك معي! انني كمن يحاول إيقاد خشب مبتل.

- لا تحاولي ذلك

- سحقاً لك! أعازم على الدخول أنت؟ - سريعاً

- سوف لا تجد من الطعام غير الماء البارد

- هو كل ما أريد

(يسمع طرق على الباب)

زانتيب: - من الطارق؟ إذا بقيت هنا للكلام فقد لا تجد طعاماً مطلقاً. (تخرج)

سقراط: يفتح الباب ويدخل (مليتاس) الشاعر

سقراط: أنك لتفاجئني!

مليتاس: أتسمح لي بالبقاء دقائق معدودة؟

سقراط: بالطبع. ولكنك منذ ثلاثة أيام قلت إنك سوف لا تكلمني أبداً

مليتاس: لقد كان ذلك هياجاً سخيفاً. لقد كنت على صواب وكنت أنا على خطأ وقد جئت لأقر بذلك الآن بجانب غرض آخر

سقراط: وما هو الغرض الآخر؟

مليتاس - أن أسأل عما اذا كان في إحضاري صديقين من أصدقائي للحديث معك عمل خارج عن حدود الحرية المألوفة.

انهما يتلهفان لمعرفتك

سقراط - بابي لكل وارد مفتوح. من هما؟

مليتاس - أنيتاس الدباغ، وليكون الخطيب من ذوي المستقبل الباهر في السياسة. ولقد سنحت لهما الفرصة الآن طبعا.

سقراط - الآن؟ ولم الآن؟

مليتاس - أحقا إنك لم تسمع بعد؟

سقراط - لم أخرج اليوم من منزلي قط.

مليتااس - إذن أنا الذي سأزف اليك النبأ السار: لقد سقطت الحكومة الاستبدادية وقامت مكانها حكومة ديمقراطية.

سقراط - معنى ذلك نفي عدد جديد من الناس على ما أعتقد.

مليتاس - معناه أنك أصبحت بعيداً عن الخطر الآن.

سقراط - نعم! ولكني واثق من إغضاب الحكومة الحاضرة كما أغضبت السالفة.

مليتاس - وهل نسيت أن لك عدداً كبيراً من الأصدقاء في أثينا؟

سقراط - لي أضعاف أضعافهم من الاعداء.

(يسمع طرق على الباب)

مليتاس - ها هما ذان قد حضرا

سقراط - من أعدائي؟

مليتاس - كلا. كلا. بل قل أصدقاءك الجدد (يدخل أنيتاس الدباغ وليكون الخطيب)

مليتاس - ها قد أتيتما. هذا أنيتااس الدباغ وليكون الخطيب

سقراط - اجلسا على الرحب والسعة.

ليكون - ان من دواعي فخاري أن أتعرف اليك الآن

أنيتاس - وإنه ليسرنا نجاتك المدهشة.

ليكون - قد تتساءل عن سبب زيارتنا لك الآن؟

سقراط - صدقت.

ليكون - إننا ديقراطيان متحمسان

أنيتاس - ونعد الديمقراطية النوع الوحيد من الحكومات الذي يرضى أفراد الشعب الذين يحترمون أنفسهم ويعتزون بالكرامة.

ليكون - وإنه ليسرنا أن سقراط العظيم يوافقنا في الرأي

سقراط - ان نوع الحكومة لا يفضل أي نوع آخر، بل كل شيء يتوقف على الأشخاص الذين يحكمون بالفعل.

مليتاس - ولكنك بالطبع تؤيد المبادئ الديمقراطية؟

سقراط - هل لليكون أن يعرفني ما هي لأنه كما يبدو أكثر احتمالا لغباوتي من غيره؟

ليكون - الديمقراطية هي الحكومة القائمة على رغبة الشعب، هي المبنية على المساواة المطلقة بين الافراد.

سقراط - عظيم جداً. . . ولكن هل لي أن أسأل بعض الاسئلة بحسب طريقتي المعروفة.

زانتيب (من الداخل) سقراط! سقراط! سقراط - هي زوجتي تعلن اعداد الطعام

ليكون - اذن يجب أن نستأذن للخروج

سقراط - انني أفضل الحديث على الطعام.

مليتاس - اذن سل ما تشاء.

سقراط - سأبدأ بسؤال ليكون. اتسلم مبدئياً بمقتضى ما لديك من التجارب أن التجارب مثلا ليست من الأمور الهينة وكذلك إدارة الجيش.

ليكون - بالتأكيد.

سقراط - وأن ادارة الحكومة يدخل ضمنها التجارة والجيش والزراعة وأشياء أخرى صعبة الحصر؟

ليكون - بالطبع

سقراط - وأن من الضروري أن يديرحكومة كهذه كثيرة الفروع مختلفة الاغراض أعقل الأفراد؟

ليكون - بالضرورة.

سقراط: وهؤلاء يختارون بالتصويت العام. أليس كذلك؟

ليكون: هو ما تقول

سقراط: وانت تقول إنه لابد من اشتراك الافراد في الحكومة اشتراكاً مبنيا على المساواة في التصويت ماداموا يتساوون في الدفاع عن الأوطان؟

ليكون: مازلت محتفظاً بنظريتي.

سقراط: ومعنى ذلك أن الفرد الغبي له سلطة تعادل سلطة الرجل الذكي، والنتيجة تكون اختيار افضل الرجال؟

ليكون: (بغضب) إننا نعتمد على الاجماع الذي لا يضل:

انيتاس: وما الذي ترمي اليه من محاورتك هذه؟

(تدخل زانتيب)

زانتيب: بمثل هذا الاهمال تعامل الزوجة الصالحة التي تجهد نفسها في طهي العدس؟ ألا فاشهدوا أيها الرفاق على عقوق الأزواج! هيا انهض معي وإلا كيف يكون الانتقام

سقراط: معذرة أيها الرفاق فانا ذاهب معها! (يخرجان)

مليتاس: ألم اقل لكما إنه عدو للحكومة والشعب؟ اذهب يا انيتاس وأحضر من يتولى القبض عليه فهو كما تبين لكما خائن للحكومة وكثيراً ما عاث في الارض وأفسد عقائد الشيوخ والشبان.

(يخرج انيتاس)

(يدخل سقراط)

سقراط - أين انيتاس وكيف يخرج غير مسلم؟

ليكون - لقد كلب إلى أن أعتذر اليك إذ تذكر موعداً أنساه إياه حديثك العذب الطريف. . الآن وقد استنرت بآرائك في السياسة فهل لي أن أطلب هدايتك في الدين؟

مليتاس - حذار يا ليكون فسقراط معروف بكفرانه بالآلهة

سقراط - تلك أكذوبة لفقها كتاب الكوميديا.

ليكون - أنت غير ملحد إذن؟

سقراط - يلزمنا أن ننظف أدمغتنا كل عاام كما ننظف دورنا من سقط المتاع

مليتاس - وما هو سقط المتاع يا ترى؟

سقراط - آراء ماتت أو آخذة فيي التعفن والاضمحلال.

(تدخل زانتيب)

زانتيب - لقد برد طعامك، فما الفائدة من كل ذلك الهذيان؟

إن العدس لا يؤكل الآن

سقراط - لا بأس فلا حاجة لي به

زانتيب - أتقول لا حاجة لك به بعد أن تعبت في إعداده لك؟

حسنا هاك جرة من الماء البارد هي كل ما ينبغي أن تأكل جزاء وفاقا (تلقي الجرة في وجهه)

(يسمع طرق على الباب)

زانتيب - تسير نحو الباب وتفتحه قليلا ثم ترده بسرعة صارخة وتكر راجعة زانتيب - الجنود! الجنود بالباب يا سقراط. . . اني أرى الشر في وجوههم أي زوجي العزيز. . لقد جاءوا في طلبك ولا شك. ألم أقل لك أن كف عن النقد والجدل. . آه (تبكي) (يشتد الطرق) ولكنك لم تنهرني ابداً ولم تضربني كما يفعل الرجال غلاظ القلوب مغفلة يا زوجي العزيز. واحزناه. . انك لم تذق طعاماً منذ ظهر أمس (تدخل الجنود)

سقراط - مهلا ايها الجنود. . انا قادم اليكم. . . وداعا يا زانتيب. . لا تجزعي فسيرعاك الله في غيبتي. . . واذا ماا ذكرتني فاذكري انني لم أعبأ قط بالحياة ولا بالموت بل بالحقيقة التي سأعذب ولا شك من أجلها. . . .

زانتيب -: ترتمي على مقعد وتنتحب. . .

اسماء فهمي

(2 - ابن قلاقس

532 - 567هـ (1138 - 1172م)

لشاعرنا مذهب في الحياة، اختاره لنفسه، وارتضاه كطريقة يسير عليها، ذلك المذهب هو اختلاس الفرصة، وانتهاز غفلة الزمان، فهو قد آمن بأن الدهر لا يحسن مرة الا أساء أخرى، ولا يمد يداً الا انتزاع بشماله ما قدمه بيمينه، فهو متقلب متلون كالحرباء، وإذا كانت تلك حالة الدهر، فمن الخير للمرء أن ينتهز الفرصة التي تسنح له، فلا يدعها تفلت من يده، ولينل فيها اللذة التي تهيأت له، إذ انه من الخير للمرء ألا يدع نفسه فريسة الدهر فيزيد السهام سهماً، والجراح جرحاً، وأولى له أن ينتهز غفلة الدهر فاذا نامت عينه، تمتع ما دامت تلك العين غافلة، واستمع إليه حين يقول:

واعطف على خلس اللذات مغتنماً ... فالدهر في حربه تلوين حرباء

أما اختلاس اللذات من الناحية الدينية فهو يطمئنك عليها ويخبرك أن هناك الها رؤوفاً رحيماً لا يضن عليك بالعفو إن أنت اقترفت جرماً ثم عدت إليه لابساً التوبة مرتدياً ثياب الاستعطاف، فلا بأس عليك من ذنب، ولا ضير عليك من اقتراف معصية، فاقترف، واعترف، فثم كريم يهب الأقتراف للاعتراف ولقد كان من وسائل سروره التمتع بالغناء، والانصات إلى مغنية جميلة رخيمة الصوت تطربه وتسره، حتى أصبح له بسبب هذا الولوع اذن غنائية هيأت له أن ينتقد المغنيات اللاتي لا يجدن من الغناء ولا يحسن الا مد الصوت ولو كان متنافراً، ولا يجدن اتفاق النغمات، ولا ندري إن كان شاعرنا قد اتخذ الخمر وسيلة من وسائل تمتعه بالحياة ولهو فيها، أو أن لهجة بها وتغنيه بذكرها، وتفننه في وصفها، كان ناشئا عن تقليد لا عن عاطفة نحوها، وبعد فماذا كان موقف ابن قلاقس إزاء الحياة العلمية؟ وما مذهبه الذي اختطه لنفسه؟ وهل كان موفقاً في اختياره هذا المذهب؟

- 5 -

إن كنت تبغي وطنا ... من العلا فاغترب

فالسمر في غابلتها ... معدودة في القضب

على أن أسعى وما ... على نجح الطلب

تلك هي عقيدته في الحياة العملية، وذلك هو مذهبه الذي اختاره وارتضاه، فهو لا يرى العلا تنال إلا بالبعد عن الوطن والتغرب عن الآل، ففي ذلك نيل الأمل وبلوغ المأرب. ولعل ولادته في ثغر الاسكندرية لها اثر في ذلك، على أنه بالرغم من هذا لا يرى التغرب إلا وسيلة من الوسائل للوصول إلى أطماعه، فأن أخفقت فأن ذلك الاخفاق لا يفت في عضده ولا يضعضع من قوته، فعليه أن يسعى، وما عليه نجح مطالبه، وشاعرنا لم يكن في مذهبه ذلك مشرعاً فحسب أو قانونياً يلقى القانون إلى الناس، ولا يتبعه بعمل بل كان قوله ذلك معبراً أصدق تعبير عن حياته العملية كلها، فتاريخه ينبئنا أنه كان كثير الحركات والأسفار، لم يقتصر على التنقل في وطنه، بل غادره إلى بلاد غير بلاده وآل غير آله

رحل إلى صقلية في شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وصقلية جزيرة قرب ايطاليا كانت تابعة للفاطميين حينا من الزمن طويلا، إلى أن تغلب عليها روجر النورماندي، وانتزعها من أيديهم، وجعلها إمارة مستقلة، وكان بتك الجزيرة أيام وصل اليها شاعرنا قائد يسمى أبا القاسم بن حجر، فاتصل به اتصالا وثيقاً، ومدحه مدحا كثيراً، وتوثقت بينهما الصلة، حتى ان شاعرنا ألف له كتابا أسماه الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم، ويقال إنه قد أجاد فيه، ولكن الكتاب لم يصل الينا، وعبثت به يد الزمان، وظل شاعرنا لدى أبي القاسم حول عامين، أراد الرجوع بعدهما إلى بلاده، وكان في زمن الشتاء، فردته الرياح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور: منع الشتاء من الوصو ... ل مع الرسول الى دياري

فأعادني وعلى اختيا_ري جاء من غير اختياري

ولم يقتصر شاعرنا في رحلاته على صقلية، بل ذهب الى بلاد المغرب ومدح صاحبها عبد المؤمن بقصيدة قوية الأسلوب، قوية المعاني، تدلنا على عظمة من قيلت فيه. وانصت اليه يقول:

عظمت قيمتها مذ علقت ... بأمير المؤمنين الأعظم

كعبة المن التي من زارها ... بات في أمن حمام الحرم

قبلة الدين التي حج لها ... خلقه: من كافر أو مسلم

قائد الجيش الذي من راعه ... باسمه قبل التلاقي يهزم

يا إماما خضع الدهر له ... فأطاعته رقاب الأمم. . . الخ.

ثم عاد الى وطنه، ولكنه لم يستقر به المقام طويلا حتى دفعته النوى إلى بلاد اليمن، ودخل مدينة عدن، واتصل بأبي الفرج ياسر بن بلال وزير البلاد اليمنية، فأحسن الوزير صلته، وأجزل عطيته، ثم فارقه عائداً إلى الديار المصرية فانكسر المركب به وغرق جميع ما كان معه بالقرب من دهلك، فعاد الى ياسر، ومدحه بقصيدة بدأها بقوله:

صدرنا وقد نادى السماح بناردوا ... فعدنا إلى مغناك، والعود أحمد

وجاذبنا للأهل شوق يقيمنا ... وشوق لمغنينا عن الأهل يقعد

ثم أنشده قصيدة أخرى يصف فيها غرقه، وما أصابه في البحر

غير أن هذا الحادث لم يجعله يسخط على السفر والاغتراب كما قد يظن، فقد رأيناه بعد أن نجا يكرر مذهبه ويؤكده، ويقول

سافر إذا ما رمت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا

والماء يكسب ما جرى ... طيباً، ويخبث ما استقرا

وبنقلة الدرر النفيس ... ة بدلت بالبحر نحرا

مما يدلنا على قوة عزمه، وتغلغل مبدأ السفر والارتحال في فؤاده، ولقد هداه حادث الغرق إلى أنه من الخطا تشبيه ممدوحه بالبحر إذ يقول:

وغلطت في تشبيه ... بالبحر فاللهم غفرا أو ليس نلت بذاغني ... جما، ونلت بذاك فقرا؟!

ولعل شاعرنا حينما ألقت به يد الأمواج إلى جزيرة دهلك لم يأنس بالمقام فيها، ولم يجد من حاكمها مالك بن شداد براولا رحمة، لذلك هجاها، وصورها بصورة جهنم بدليل أن خازنها مالك (ودهلك جزيرة بين بلاد اليمن وبلاد الحبشة) وظلت أيدي النوى تتقاذفه حتى ألقت به في عيذاب، وهي بليدة على شاطئ بحر جدة يعدى منها الركب المصري المتوجه إلى الحجاز عن طريق قوص، وهناك وافته منيته بعد أن بلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة.

بالرغم من كثرة أسفار شاعرنا، وكثرة تنقله بين الأوطان المختلفة كان حنينه وشوقه الى مصر لا يفتران: ففي صقلية يذكر مصر، وفي غيرها يذكر مصر، ويذكر آله وقومه، ويذكر ما كان له في تلك الديار: من صحب وأصدقاء فيحن إليهم ويقول:

يا إخوتي، ولنا من ودنا نسب ... على تباين آباء وأجداد

متى تنور آفاق المنارة لي ... بكوكب في ظلام الليل وقاد

متى تقر ديار الظاعنين بهم ... والدهر يسعفهم بالماء والزاد

ويقول مخاطباً أبا القاسم بصقلية:

وعليك السلام مني، فاني ... عنك غاد أو رائح أو ساري

شاقني الأهل والديار وذو البعـ ... د معنى بأهله والديار

وتلك حالة طبيعية يمسها الرجل المفارق لوطنه، فهو يحن إليه دائماً، ويشتاقه دائماً

(البقية في العدد القادم)

أحمد أحمد بدوي