الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 327/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 327/رسالة العلم

بتاريخ: 09 - 10 - 1939


لحظات الإلهام في تاريخ العلم

تأليف مريون فلورنس لانسنغ

4 - الاستكشافات الخمسة

من الطين إلى الصيني

الطعام من حاجات الإنسان اليومية. وقد كان على إنسان الكهف كما علينا الآن، أن نستبقي الحياة بالاستمرار على تناول الطعام

وكثير من القصص الممتع في حياة الإنسان يدور حول هذه المسألة الكبرى: مسألة الطعام وهي التي تشغل الجنس الإنساني كله إلى اليوم. فبعض القصص يتعلق بالتجارة وبعضها بالاستكشافات والبعض بتاريخ الشعوب المنعزلة

وكان الإنسان في البداية هائم الحركة بحثاً عن الطعام فهو يأكل القوت والفواكه والحشائش والحبوب وجذور النبات؛ فإذا ما غال ذلك من حقل ذهب إلى حقل آخر يلتمس فيه طعاماً جديداً، ويمكث كذلك حيناً في مكان من أماكن الصيد ثم يتركه إلى مكان آخر

ثم جاء اليوم العجيب الذي تعلم فيه الإنسان أنه متى غرس بذرة فإنه سيجني حصاداً. وقد كان ولا ريب بالعالم في هذا العهد القديم بعض رجال لكل شعب من الشعوب مهمتهم أن يرقبوا مرور الشهور بظهور القمر واختفائه لغرس الحبوب وملاحظة ما سيكون من أمرها: هل ينشأ أم لا ينشأ منها نبات؟

وحدّث أحد زعماء الملايو عن كيفية اعتماد قبيلة في الحياة على فواكه الغابة فقال إنهم في البداية كانوا يأكلون الفواكه في أماكن صغيرة بالقرب من المكان الذي تجمع فيه. ولكن لوحظ أن عدداً كبيراً من أشجار الفاكهة كان ينبت حول هذه الأماكن التي يأكلونها فيها فقرروا أن يحملوا الفواكه إلى أماكن أبعد من الأولى ليأكلوها بها. وكانوا في كل عام بعد ذلك يرون أن أشجار الفاكهة تنبت حيث يسقط النوى أو البذور فحملوا البذور والنوى إلى مسافة أبعد ورموها في أماكن مختلفة إلى أن صار لهم في النهاية بساتين في أنحاء الإقليم الذي يقيمون به ولما استكشف سر زمن الغراس وزمن الحصاد استطاع الإنسان أن يكف عن التجوال صعوداً وهبوطاً على سطح الأرض وأن يقر في مكان يستثمر به الأرض طلباً للقوت. وقد عرفت كل القبائل ذلك في أوقات طالت أو قصرت فاستقرت بأماكن اختارتها

وحاجات الطعام الإنساني هي السبب في صناعة الأواني فمنها أوعية للماء وأخرى للطبخ وأوعية لحفظ الطعام بين وجبة ووجبة. وأخيراً أوعية ليتناول فيها الطعام

وباهتمامه بالحالة التي يقدم بها له الطعام نشأ التبديل من الأوعية الغليظة المصنوعة من طين الأرض إلى الأواني الصينية التي تكاد تكون شفافة لرقتها

وكانت كل أسرة تأكل على مائدة واحدة وكان طبقها واحداً في البداية، ثم صار لكل فرد طبقه الخاص. وفي نفس الوقت كان التقدم مستمراً في ناحية أخرى متصلة بحاجة العالم إلى الطعام فإن الإنسان كان يجوب الأرض براً وبحراً فاستطاع نقل الطعام من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب حول الكرة الأرضية. ولكن الطعام الذي ينقل كل هذه المسافات البعيدة أو الذي يحفظ مدداً طويلة يجب أن لا يكون في درجة من النضوج لا تسمح بالنقل إلا من اليد إلى الفم. ويجب أن تستبقي فيه حلاوته وسلامته وجدّته. فجاءت علبة الصفيح المختومة مُلائِمةً لهذه الحاجة. وبواسطتها أصبح عهد استكشاف الطعام تاماً

كان على الإنسان في البداية أن يكثر من التنقل طلباً للقوت ومن ثم نشأت المهاجرات العظيمة ثم تعلم صنع الطعام في موطنه، وبذلك نشأت المدنيات المنفصلة، والآن يستطيع أن ينقل الطعام إلى حيث شاء؛ فأصبحت له الحرية العصرية في الانتقال، وقد نقلتنا هذه الأساطير في كل الدورة. ففي البدء كان عليه أن يتحرك ثم كان له أن يستقر. والآن له أن يتحرك وأن يأخذ معه مختلف الأطعمة أو يستقر ويستدني إلى مائدته الطعام من أنحاء العالم

وفي قصة الزعيم الملايي وبذوره، وفي فن صنع الأواني وتأثيره على الطبخ، وفي تقدم فن الكيمياء وتأثيرها على اختيار أنواع الطعام وطرائق تناوله، وفي قصة العالم الفرنسي الذي سنتحدث عنه وحصوله على الجائزة، في هذه القصص سنرى تطور هذه الأشياء

الأقاصيص كثيرة في كل قبيلة على سطح الأرض عن الأيام الأولى من عهد تعلم الإنسان ما على هذه الدنيا العجيبة من الغرائب وما في بطنها من الكنوز التي تنتظر المستكشف.

ومجموعة من مثل هذه الأقاصيص توضح لنا كنه ما تحت أقدامنا من الأرض

لا بد أن يكون أقدم الناس في عهد سكنى الكهوف قد لاحظوا أن بعض أماكن من الأرض سوداء مخصبة وأن بعضها صخري والبعض رملي. وفي جهة ما من كل إقليم لا بد أن تكون قبيلة وربما كانت إقامتها عند شاطئ نهر أو مهدٍ جاف لغدير أو في وهد على مقربة من المساكن. وقد لاحظ الناس ذلك النوع الخاص من الأرض الذي تنطبع عليه آثار الأقدام ولكنها تجف عندما تظهر الشمس

لسنا ندري من البادئ بهذا الاستكشاف فقد يكون رجلاً أو امرأة أو طفلاً ممن يلعبون بعجينه من الطين كما هي عادة الأطفال من عهد لا تعيه الذاكرة ولكنه صادف أن وضع هذا المستكشف طينه المبتل على قطعة مسطحة من الخشب أو كتلة ذات تجويف ثم أدرك لما جفت عجينة الطين أنها ليست لينة كما كانت بل أصبحت صلبة متماسكة وأنها تجمدت على الشكل الذي وضعت عليه وهي عجينه

ومهما يكن السبيل الذي أمكن الوصول منه إلى هذا الاستكشاف فإن كل قبيلة مما يعيه علمنا قد صنعت في بداية عهدها أواني بسيطة الشكل من فخار مصنوع من الطين، ففن صنع الأواني وهو تكييف الطين بأشكال يمكن بها استعماله، أو صنع أشياء جميلة منه، هو أقدم الفنون وأوسعها انتشارا

إن قصة ازدياد المرء معرفة بهذه الأرض العجيبة التي يطأها بقدميه، وقصة ازدياد حذقه أساليب استعمالها - إن هذه القصة تتكون من قصص خمس لاستكشافات موفقة وصل إليها العالم في عهود مختلفة من التاريخ على أيدي أعضاء في كل قبيلة

ولقد كان إنجاز هذه الكشوف الخمسة أسرع في بعض القبائل من بعضها، ففترات الاستكشاف استغرقت في بعض القبائل مائة عام أو خمسمائة بل قد تبلغ الفترة ألفاً من الأعوام

لكن كلاً من هذه الاستكشافات قد وصلت إليه قبيلة بنفسها على يد حاذق منتج من رجالها قبل أن تصبح صناعة الخزف من الأعمال العامة

أما الاستكشاف الأول فهو أن بعض تراب الأرض صلصال حقيقي تحدث به عند البلل نعومة عظيمة وعند الجفاف صلابة شديدة وأنه إذا وضعت عليه علامة عند نعومته فإنها تبقى بعد جفافه

وأما الاستكشاف الثاني، فهو أنه من الممكن صنع طبق بوضع طبقات من هذا الصلصال بعضها فوق بعض، وتركها في الشمس حتى تتجمد.

وقد كان صنع الأطباق في لحظة عظيمة حقاً من حياة الناس ولو أنهم لم يدركوا ذلك في البداية، فإن الإناء الذي توضع فيه المياه فيحتفظ بشكله عند وضعه فوق النار، أو عند دفنه في حفرة ساخنة هو الوسيلة الوحيدة لجعل الطبخ الحقيقي في حيز الإمكان. ولم يبق بعد اختراعه من ضرورة لإنضاج اللحم بتعليقه على عصا فوق النار، ولا تجفيفه بإحراقه في فرن، ولم تبق من ضرورة كذلك لطحن الحبوب، وصنع حبات (بلابيع) منها ليسهل ابتلاعها. إن سحر النار قد أمكن الانتفاع به في تهيئة الطعام، لما أصبح من الممكن صنع طبق أو وعاء يوضع الطعام فيه على النار فلا يحترق.

وأما الاستكشاف الثالث، فالأرجح أنه معرفة المرء إمكان استخراج مادة أصلب وأمتن من الصلصال بإضافة الرمل أو مادة أخرى إليه، فبينا يصلح الصلصال وحده لصنع الأطباق، فهو يصلح مخلوطاً لما هو أهم من ذلك، يصلح لصنع الطوب الذي تبنى به المنازل. . . وهل تذكر أنك قرأت في قصة موسى شكوى الشعب اليهودي من أنه لا يستطيع صنع الطوب خالياً من القش؟

إن القش يؤدي في توثيق الطوب ما تؤديه الرمال، ففي مصر وفي المكسيك وفي الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة وفي كل المناطق الحارة التي يكثر فيها الصلصال تبنى الأكواخ من الطوب النيئ أي الذي تجففه الشمس

وقد كان أول ما صنع الطوب جديراً بالملاحظة والاهتمام في حياة الإنسان. وذلك لأنه جعل في حيز الإمكان بناء بيوت يسكنها

وبعد أن شاع استعمال النار حدث بطريق المصادفة أن طبقاً سيئ الصنع أو قطعة من الطوب قد ترك أو تركت بالقرب من النار، فوجد في اليوم التالي أصلب وأمتن من الصلصال الذي يجفف في الشمس

وجد قوياً صلباً كأنه قطعة من الصخر فلا يمتص الماء ولا الضغط يستلينه، فكان صنع الصلصال على النار هو الاستكشاف الرابع في تاريخ الفخار. وقد مضى زمن طويل قبل أن يتعلم الناس تعلماً تاماً صنع أطباقهم بواسطة النار

صنعوا (القمائن) وهي أفران تصنع في العادة على شكل خليات النحل وهم يضعون فيها ناراً تحترق في بطئ، وفي استمرار عدة ساعات أو عدة أيام. ثم عرفوا بالتجربة مقدار الحرارة الكافية لصنع كل نوع من أنواع المزيج والمدد المختلفة التي يجب أن يقضيها بتلك القمائن كل جنس من الصلصال

ولكن سر إحراق الصلصال هو الأساس لصنع كل ما يتعلق بالفخار والطوب بما في ذلك ما يصنع اليوم من أواني الصيني ومن الأوعية الجميلة السكسونية ومن الأحجار التي تشاد بها مباني العصر، وألف شيء آخر مما أنشئت عليه مدينتنا الحاضرة

أما الاستكشاف الخامس فقد جاء في عهد تأخر موعده: جاء في العهد الذي تاق فيه الإنسان إلى الجمال وإلى النفع معاً فيما يصنعه

وقد كان صانعوا الصلصال في أقدم العصور يحاولون على أساليبهم الخشنة أن يزينوا الأواني حتى ولو لم يكن ذلك إلا بآثار الإبهام على حافة الأواني

وكان المصريون والبابليون والليديون يحلون أوانيهم والطوب الذي يصنعونه والتماثيل بألوان لامعة مستخرجة من أكسيد الأثمد والنحاس الأحمر والصفيح

وكان اليونان يستعملونه دهاناً صلباً يغطون به الأواني الجميلة ذات اللونين الأسود والأحمر، ولكن الفخار الرقيق اللامع الذي يكاد يكون شفافاً لم يكن من صنع شعب من هذه الشعوب؛ فإن صناع الأواني في الصين قد بدءوا تجاريبهم بإحراق الصلصال في (القمائن) حين كان معاصروهم المجهولون بين الشعوب الأخرى لا يزالون يصنعون الأواني من الطين المجفف في الشمس، وكان الصقل بالخزف أمراً معروفاً في الصين قبل مائتي عام من بدء التاريخ المسيحي، وفي القرن السابع للمسيح تعلم الصينيون أن يضيفوا إلى نوع خاص من الصلصال أسمه (كاولين) نوعا آخر من الحجر الرملي أسمه السليكي فيستخرج من مزجهما مادة أدق. واسم (كاولين) مأخوذ من أسم جبل في الصين (كاو - لين) أي القمة العالية. وقد استخرجوا لأول مرة من ذلك الجبل ذلك الصلصال العجيب، وهو غير قابل للذوبان مهما اشتدت حرارة النار، والغاية منه كما جاء في التعبير الصيني (لصنع عظام الأواني) وأما السليكي فإنه يشبه الجرانيت أي أنه قابل للذوبان على درجة عالية من الحرارة. ومتى ذاب تكون منه زجاج شفاف جداً.

وبالحذق في مزج هاتين المادتين أمكن صنع الأواني الصينية التي لا تزال تعرف بهذا الاسم إلى اليوم. وقد بقى سرها نحو ألف عام غير معروف في الغرب حتى تحراه المحققون في هذه الصناعة. وسنذكر الآن قصة الكيميائي الغضوب والشعر المستعار والمسحوق (البودرة)

وقبل أن نسرد هذه القصة الأخيرة عن الصيني نرى أن نعير نظرة إلى فن آخر يقرب من هذا الفن وهو صناعة الزجاج. وهي كما يرويها (بلايني) أحد الكتاب الرومانيين الذين عاشوا في القرن الأول بعد المسيح. وهذه القصة عن استكشاف استكشفه بحار

كانت سفينة تجارية رومانية تعبر البحر الأبيض المتوسط وعليها حمولة من النطرون وهو نوع من الصودا خاص بتلك المناطق. وكان الأقدمون يستعملونه في الاستحمام وغسل الأقمشة

وفي أثناء سير السفينة هبت ريح ضد اتجاهها فأقصتهم إلى شاطئ رماله بيضاء دقيقة عند مصب نهر في سوريا، فأوقد البحارة ناراً على الرمال لينضجوا طعامهم

ولما لم يجدوا صخوراً استعملوا قطعاً من النطرون لحمل الأواني فأدهشهم أن يروا سائلاً من الزجاج الذائب يجري في معسكرهم بين النار والماء. وكان هؤلاء البحارة قد عسكروا على مرتفع من الرمال كسته الرياح بمادة معدنية مما يستعمل في صنع الزجاج، فجعلت حرارة النار هذا المزيج من تلك المادة ومن النطرون يذوب. وكانت النتيجة مدهشة، ولنا أن نعتقد بحق أن الملاحين قد أخذوا إلى وطنهم بعض تلك الرمال مع ما كانت تحمله السفينة من البضائع

هذه قصة واحدة عن صنع الزجاج من بين قصص كثيرة يمكن أن تروى. وهي تريك أن طرق الانتفاع بالمواد في مكانين مختلفين من الأرض كان يستكشفها فريق من الناس وفريق منهم هناك، ولو أنهم كانوا على اتصال بعضهم ببعض كما هي حالة الشعوب اليوم، ولو أن أحدهم كان يأتمن الغير على سره لكانت المدنية أوسع انتشاراً ولبكزت عن موعدها بضع مئات السنين

ولكن لم تكن في تلك الأيام قد اخترعت آلة الطباعة فكان تناول المعرفة ليس بالأمر السهل، وكانت الشعوب المتفرقة يفصل بعضها عن بعض محيطات لا تعبرها إلا السفن ذات الشراع، وكانت الصحارى والجبال لما تخترقها السكة الحديد، وكانت تلك الأيام أياماً تخاف فيها بعض الشعوب بعضها وكان من المحتمل حدوث استكشاف علمي عظيم في أحد البلدان وبقاؤه سراً مكتوماً عن البلدان الأخرى جميعاً

وكذلك كان الأمر في صنع الصيني

(يتبع)

ع. ا