الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 327/جريرة النازية على الإنسانية

مجلة الرسالة/العدد 327/جريرة النازية على الإنسانية

مجلة الرسالة - العدد 327
جريرة النازية على الإنسانية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 10 - 1939


يا ضَلَّةَ العقل ويا حيرة المنطق!

إن أمام التاريخ اليوم رجفة من رجفات الهول والهلاك لم يبتلَ بمثلها الإنسان منذ دحا الله هذه الأرض. فهل يستطيع مهما سبر أغوار النفس، وكشف أسرار المجتمع، ورصد أطوار الحوادث، أن يقول فيها أكثر مما يقول في العواصف والزلازل والبراكين والأوبئة؟

هل يستطيع التاريخ بفلسفته وحذلقته أن يفسر لنا وللأجيال كيف تسنى لخمسة نفر من عباد الله الضعاف، لا هم آلهة ولا هم أبالسة، أن يسيطروا على الشعب الألماني الضخم وهو آية في النبوغ البشري في العلم والأدب والفلسفة والفن فيشلوا تفكيره، ويلغوا إرادته، ويمسخوه قطيعاً جراراً من أفيال جهنم ترمي العالم كله محاربيه ومسالميه بالبوار والدمار، أو بالفزع والمجاعة!

لو كانت هذه النازية الهتلرية قائمة في سلطانها وطغيانها على مبدأ من مبادئ الخير، أو مذهب من مذاهب الإصلاح، لالتمسنا لخضوع الشعب الألماني لها واضطراب العالم الإنساني بها مساغاً في العقل أو مثلاً من التاريخ؛ ولكنها ضلالة من ضلالات العصبية والعنصرية والأثرة والغرور استبدت بفكر ثائر وعقل حائر وهوى طموح، فظنها الفوهرر رسالة من رسالات الله أوحاها إليه في كتاب (كفاحه)، وأوجب أداءها عليه بقوة سلاحه؛ فهي شريعة تنسخ كل كتاب غير كتاب هتلر، وتمحو كل سيادة غير سيادة النازي، وتمحق كل عنصر غير عنصر الجرمان. وإذا كان في الساميين وهم في رأيه حثالة الناس رسالات ورسل، فكيف لا يكون على الأقل في الآريين وهم خلاصة الأجناس رسالة ورسول؟

ولكننا عرفنا إله الناس الذي أصطفى من الساميين موسى وعيسى ومحمداً ليبلغوا رسالات الهدى والحق والخير، فألفوا نوافر القلوب بالحب، وأقاموا قواعد المجتمع على العدل، وخففوا متاعب العيش بالإحسان، وضمنوا وفاء العهود بالذمة، وجعلوا الناس كلهم سواسية في حق الحياة لا يطغي جنس على جنس، ولا يبغي قوم على قوم. فمن هو يا تُرى إله الألمان الذي أصطفى من الآريين هتلر وجورنج وهيس وريبنتروب ليبيدوا أمم العالم، ويدمروا حضارة الدهر، ويحطموا روائع الإنسان، ويستبدلوا بشرائع الله وقوانين الضمير سياسة لا تعرف براً بوعد ولا وفاء بعهد ولا ثباتاً على مبدأ؟ يا ضلة العقل ويا حيرة المنطق!

أبعد أن تغلغل على طول القرون هدى الله في الغرائز والأخلاق والقوانين والنظم ففازت الحرية، وسادت الديمقراطية، وعلت الإنسانية، يمكن أن تقوم في العالم اليوم نِحلة مجرمة الوسيلة والغاية كنِحلة النازية تحتقر أجناس الناس، وتنكر حقوق الشعوب، وتزدري قواعد السلوك، وتستحل في سبيل السيطرة والغلب الغدر والمكر والكذب وغش السياسة ونقض العهود وإنكار المذهب!

ليت شعري ماذا يقول أحفاد لوِثَر وكَنْت وجوته وبيتهوفن وقد رأوا زعيمهم الأديب الفنان يقول بلسان دولته ولا يصدُق، ويعاهد بشرف أمته ولا يفي، ويجعل من شعبه الصبور العامل غولاً للسلام يقذف الرعب في كل قلب، والشقاء في كل منزل، ثم يدع صليبه النازِيَّ المعقوف يتحطم رويداً رويداً بين مطرقة الشيوعية ومنجلها بعد أن ناصبها العداء المر والهجاء الفاحش!

لقد قلنا في كلمة سابقة: (إن هذا الرجل العجيب استطاع في ست سنين ونصف أن يبني من الحديد والنار والسم والثأر والعزيمة والعصبية دولة كانت بعد صلح فرساي تتوارى من الخجل، وتتفانى من الجوع، وتتهالك من الدين، وتضع أيديها على هيكلها فلا تجد إلا شلواً لا صورة له ولا حس فيه، فأصبحت بما نفخ فيها من روح الكفاح، ووضع في أيديها من قوة السلاح، تملك على الدولة الحياة والموت، وتقضي على الأمم بالسلام أو بالحرب؛ كل ذلك فعله من غير ثورة ولا حرب فكان حريّاً أن يتبجح في آخر خطابه التاريخي المشهور بقوله: ألست حقيقاً بأن أطلب إلى التاريخ أن يعدّني في الذين حققوا أعظم ما يسمح الإنصاف بطلبه من رجل؟). نعم قلنا ذلك أيام كان هذا الرجل الشاذ قابضاً على عجلة القيادة بحزم الربان الماهر وحكمة القائد البصير. وما كنا نتوقع أن يبتليه الله بضعف الإنسان الفرد على هذا النحو المهلك والقضاء العاجل، فيدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، حتى لم يعد لشهواته حد تقف عنده، ولا لنزواته فرملة تحبس عليه.

هذا هو هتلر الذي أعجب به شباب الأمم بالأمس يأخذه اليوم جماح السلطان وعرام القوة، فيُلقى عامداً بقوته وبالعالم في سعير الحرب، ثم يقف في ضوء لظاها المشبوب في الأرزاق والأعلاق والأنفس وفي يديه قيثارة نيرون يعبث بأوتارها ويضحك! ماذا عسى أن يكون مصير الشعوب الصغيرة التي ضمنت على ضعفها أن تعيش في حمى الشرف والعدل والسلام، إذا تغلب هذا الطغيان النازي الذي يريد أن يحكم العالم على أساس استعباد الضعيف، وتسخير قوى الناس والطبيعة لسيادة عنصر واحد وإرادة رجل واحد؟

إن ميراث الإنسانية المتدينة المتمدنة أخلاق وثقافة ونظم هو اليوم في حمى الدول الديمقراطية الحرة تدافع عنه وترعاه وتمسك به الأرض أن تميد وتبيد. وليس للأمم الصغيرة سبيل للحياة الحرة إلا أن تساهم في هذا الدفاع بإخلاص وقوة، فإن ضمان العيش للقلة بجانب الكثرة، وللعجز في كنف القدرة، هو هذه الفضائل الاجتماعية التي نبتت في أصول الدين ونمت في ظلال الديمقراطية. أما إذا شاء القدر - ومعاذ الله أن يشاء - أن يتحكم هوى الطغيان في حقوق الإنسان فيذهب بالإخاء أثرة جنس، وبالمساواة سيادة شعب، وبالحرية استبداد فرد، فقل إنها دنيا للشر جديدة نرجو أن لا يكون لنا فيها وجود!

أحمد حسن الزيات