مجلة الرسالة/العدد 327/أين الكلتور؟
→ جريرة النازية على الإنسانية | مجلة الرسالة - العدد 327 أين الكلتور؟ [[مؤلف:|]] |
أسمار وأحاديث ← |
بتاريخ: 09 - 10 - 1939 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
دخل الألمان الحرب الماضية وهم يحملون أمامهم كلمة (الكلتور) التي شاعت على ألسنة الناس من ذلك الحين كما شاعت ترجماتها في اللغات الأخرى، ومنها كلمة الثقافة في اللغة العربية.
وكانت دعواهم أنهم يحاربون بالكلتور الجرماني أو الثقافة الجرمانية كما يحاربون بقوة السلاح وقوة السياسة، لأنهم اعتقدوا أنهم أصحاب أشرف الثقافات وأحقها بالنصر والغلبة على عقول الأمم وأذواقها.
فأين (الكلتور) في الحرب الحاضرة؟
إن النازيين لا يذكرونه على ألسنتهم ولو على سبيل الإدعاء الذي يعوزه البرهان، لأنهم بعيدون عنه وهو بعيد عنهم. فليس في حركتهم ثقافة، وليس لها فن ولا ثمرات فنية؛ وكل ما عليها صبغة حرب كالطلاء الأحمر على الوجه الشاحب الهزيل، لا هو من الصحة ولا من الجمال.
وتعترف الصحف النازية - كما جاء في صحيفة أوربا الحديثة الفرنسية - بأن الروايات التي يؤلفها الكتاب النازيون لا تترجم إلى لغة من اللغات الأجنبية، وأن الأدب الألماني يمثله اليوم في العالم جماعة من الكتاب المهاجرين المطرودين من حظيرة هتلر؛ فكل ما يعرفه العالم من الأدب الألماني الحديث هو من ثمرات فراغ هؤلاء الكتاب المطرودين!
ورأيُ الإيطاليين - وهم أخوان المحور - لا يختلف عن رأي الأمم الأخرى في الأدب الشائع بين النازيين، فقد ترجم إلى اللغة الإيطالية في سنة 1937 خمسة وسبعون كتاباً معظمها من تأليف كتاب المنفى، ولم تبرز قط رواية نازية على مسارح العالم بعد سنة 1933 وهي السنة التي قبض فيها هتلر على زمام السلطان؛ وهي خسارة مالية فوق الخسارة الأدبية يقدرون ما ضاع من جرائها على خزانة الريخ بخمسة ملايين من الماركات.
وقد بلغت ثروة الصور المتحركة النازية خلال السنة الماضية خمسة ملايين مارك هبطت إلى ثلاثة ملايين في السنة الحاضرة، وبلغت الشُّرُط الكبرى في سنة 1932 وهي م سنوات الأزمة والكساد مائة وأثنين وأربعين أخرجت كلها في العواصم الألمانية، فما زالت تهبط حتى انحدرت إلى ثمانية وتسعين في سنة 1938 على الرغم من ضم النمسا وبلاد السوديت.
أما ما باعته ألمانيا النازية من الشرط في الخارج فقد كان تسعة وسبعين في سنة 1937 فهبط في السنة التالية إلى أربعة وعشرين!
هذا كساد في الملكات والقرائح شعر به هتلر ونبه إليه في المؤتمر الأكبر فقال إن الحركة النازية لا تزال في انتظار العبقريات التي تتغنى لها بمعانيها وأناشيدها.
وشعر به القائمون على التربية الوطنية فعالجوه على دأبهم المشهور بالعلاجات العسكرية والأساليب البتراء فما ازدادوا في كساد ملكاتهم وقرائحهم إلا خموداً على خمود.
قال أستاذ رياضيات لزميل أمريكي: ما الحيلة في هذا الجيل العقيم الذي لا يحسن غير السير في المواكب وشق الحناجر بالهتاف والتفاخر بالبنود والشارات؟ لقد زيفوا لهم التاريخ فقبلوا وقائعه ومسخوا تفسيراته وجعلوه قصيدة من قصائد الإطراء للنازيين وأشباه النازيين، وقد علموهم الجغرافيا على النحو الذي طاب لهم ووافق دعواهم وأملى لهم في سياستهم، وقد جعلوا أبطال الدنيا بأسرها من سلالة شمالية أو آرية كما يقولون. فأما الرياضيات فمن لنا بتزييفها على هذا النمط المنكوس؟ ومن لنا بتعليم الشبان الجبر والفلك والرياضيات العليا والدقائق الفنية، وهم بين موكب يصخبون فيه أو نشيد أو مناورة في عرض الطريق؟ كل درس يحتمل التزييف والاصطباغ بالصبغة السياسية إلا العلوم والرياضيات!. . . فلم يبق أمامنا إلا إسقاط الدرجات كرة بعد كرة حتى هبط مقياس النجاح إلى ما دون مقياس الرسوب، ولولا هذا لاتهمنا الرؤساء بالتقصير وقالوا: إن الآفة من عجزنا عن التعليم لا من عجز هؤلاء الأولاد الفاشلين عن الإصغاء وإنعام النظر في دقائق العلوم.
وقد يستخف النازيون بهذه العاقبة الوخيمة لو كان خطبها كله مقصوراً على ندرة التأليف وقلة النبوغ في الأدب والفن وما إليهما من مجالي العبقرية ومعارض التعبير.
لكن المصيبة التي لا يستطيع النازيون تجاهلاً لها ولا استخفافاً بعقباها أن كساد العقول يتغلب عليهم في مجال (العسكريات) أو مجال التدريب للقتال، وهم لاشيء في سياسة الأمة ولا في سياسة العالم إن لم يفلحوا في تدريب الجنود وتحضير السلاح.
فلا غنى للدراسة العسكرية العصرية عن الفنون وعن الرياضيات وعن البراعة في تركيب الآلات وتسيير المحركات. وقد أشار إلى هذا النقص في الجيل النازي الأخير كاتب مجري من أصحاب المراجع الموثوق بها في مسائل الحرب الماضية والعدد الضرورية لكل حرب حديثة، نعني به الدكتور إيفان لاجوس مؤلف كتاب (فرص ألمانيا في الحرب) ومسجل الآراء التي أفضى بها رجال ألمانيا المسؤولون في هذه الأمور، فإذا بهم يجمعون على الشكوى من تقهقر التعليم واستحالة الاعتماد على من يتدربون بالأساليب النازية المستعجلة، ويؤتمنون بعد ذلك على الطيارات والدبابات وتنفيذ الخطط ومراس المختلف من دقائق الأدوات.
فالثقافة المزيفة بلاء لا تنحصر أضراره في الأدب والفن والتأليف، ولا يزال يسري في كل شعبة من شعب الحياة حتى يعطل القوة العسكرية والقوة البدنية والقوة الحيوانية في النهاية، وهي القوى التي يُظّن أنها أغنى ما تكون عن الثقافة والمثقفين.
وإذا كان في الحرب ما يحمد الله عليه فلنحمد الله نحن المصريين بل نحن الشرقيين أجمعين أن كشف ستر النازية قبل أن تخدع الأسماع والأبصار بظاهر ما لها من الضجة والبريق والطلاء، فقد بلغ من خداعها أن سمعنا أناساً من ساستنا يدعوننا إلى اقتباسها والأخذ عنها ولو في تقييد الحرية الفردية وتغليب (النظام العسكري) عليها، فأشرنا يومئذ في مجلس النواب إلى وخامة التربية النازية وجنايتها على العقول وإفسادها لينابيع التفكير والتثقيف، وقلنا إنها جنت على ألمانيا وهي سابقة لنا في ميادين العلم والفن والتربية فماذا تصنع بنا نحن وإننا لدارجين حتى الساعة في بداية الطريق؟!
وسنحمد الله حمداً مضاعفاً متى تكشفت الحقائق كلها عن فضائل الحرية ورجحانها في جميع الموازين على أساليب الطغيان و (النظام) المزعوم، ولا يخامرنا الشك في مصير أناس يعارضون مجرى الحياة الإنسانية ويمسخون ما ازدانت به من شرف وجمال. فسيفشلون لا محالة كما فشل أسلاف لهم حملوا على الدنيا بسلاح الحديد وسلاح الكلتور، وإن هؤلاء اللاحقين لأضعف من سابقيهم في السلاحين!
عباس محمود العقاد