مجلة الرسالة/العدد 326/قالوا استقال طلعت حرب!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 326 قالوا استقال طلعت حرب! [[مؤلف:|]] |
جناية أحمد أمين على الأدب العربي ← |
بتاريخ: 02 - 10 - 1939 |
قلنا وكيف يستقيل طلعت حرب من عمل هو فكرته وكلمته وطريقته وغايته ورمزه؟ إن في الاستقالة معنى التفريق بين العامل والعمل، ينتسب إليه ما دامت يده فيه، فإذا خلاه لسبب من الأسباب أصبح غريباً عنه؛ ولكن طلعت حرب معناه بنك مصر وشركات مصر واقتصاديات مصر، فلا تجد بين اسمه وبين هذه الأسماء تفاوتاً في الدلالة لا في الذهن ولا في الخارج. فالتعبير بالاستقالة عن راحته الضرورية بعد الجهاد الطويل والجهد الثقيل والحركة الدائبة تعبير مباين لوجه الصواب في اللغة وفي الواقع
إن طلعت حرب موجود في مؤسساته وجود الروح في الجسم العامل، لا ينفك عنها ما دامت قائمة؛ وقيامها الثابت بعمائرها ومظاهرها وإنتاجها تماثيل خالدة لهذا الزعيم الوطني العبقري الموفق. وإذا حق للتاريخ أن يجادل في أقدار العظماء وآثار الزعماء الذين برزوا في ميادين النهضة المصرية الحديثة، فإن قدر طلعت حرب، وأثر طلعت حرب، لا يمكن أن يكونا في يوم من الأيام مثار جدل ولا موضع شك. وإذا جاز للتاريخ أن يعزو نجاحنا السياسي إلى أسباب خارجية أهمها اضطراب العالم واصطراع الدول، فإنه لا يستطيع أن يعزو نجاحنا الاقتصادي إلا إلى عوامل داخلية أولها وأهمها كفاية طلعت حرب، وجهاد طلعت حرب!
ولقد كان هذا النجاح الاقتصادي الماثل في بنك مصر وشركات مصر هو وحده الحجة الناهضة على رشد هذه الأمة الكريمة: رحض عن سمعتها الأذى، ودحض عن كفايتها التهم، وجلا عن نهضتها الشكوك، وبدد عن مستقبلها السحب؛ لأنه نسقٌ من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يدوم على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئاً وراء الزعامة المترددة. ثم انتشر هذا الفوز الاقتصادي وانبسط أفقه واتسع مداه حتى أصبح نهضة اجتماعية شملت مرافق البلد من كل نوع، وتناولت أمور الناس من كل جهة: أجْدت على العلم ففتحت له أبواب العمل، وعلى التعليم فمهدت له سبل التطبيق؛ وعلى الأدب فاستعملت اللغة في أعمال المال، ونشرت الثقافة بالطباعة والإذاعة والتمثيل؛ وعلى الأخلاق فأحيت في الرجال الثقة وقوّت في الشباب الرجولة؛ وعلى الاجتماع فوقت الأمة شر العطلة المجرمة والأزمة المستحكمة باستخدامها الألوف من الموظفين والصناع والعمال في شركات البنك وفروعه؛ وعلى القومية فخ الروح الجماعية بإنشائها الأعمال التي تقوم على رءوس المال وتَوَزُّع العمل وتساند القوى وتضامن الجماعة؛ وعلى السياسة فكفكفت عنها شِرَّة النفوذ المالي الأجنبي بمنازلتها الجريئة له في ميادينه القوية الحصينة؛ وعلى الإسلام فساعدت على إقامة ركن من أركانه، وكشف الضر عن منزل وحيه وقرآنه؛ وعلى وحدة العرب فوصلتها بأسباب التعاون ووثَّقتها بسلاسل الذهب. والاقتصاد اليوم وقبل اليوم كان دستور الحياة وعلة السعي لها وغاية الجهاد فيها، فلا بدع إذا أثر في كل شيء، وعمل في كل حركة، وهاج في كل ثورة، وصاح في كل نهضة
ذلك هو مدى الاستقلال الاقتصادي الذي يتبوأ عرشه اليوم طلعت باشا حرب، والشعب كله على عُدوتي واديه يعتقد له الحب، ويعرف له الجميل، ويخلص له الشكر، ويختلف في كل شيء إلا في فضله. وتلك منزلة من تكريم الله وتقدير الوطن لا يبلغها إلا الأفذاذ المخلصون الذين شغلهم حب الخير ففكروا وأمِلوا، ثم آمنوا وعملوا، ثم استمسكوا بروح الله وقوة الأمة على عصف الخطوب وإلحاح المكايد، حتى استقر بهم الإيمان على الفوز، واستقام بهم الإخلاص على الطريقة؛ فكانوا مثلاً للجهاد الصابر المثابر الذي يتلمس القوة من جوانب الضعف، ويتطلب الكثرة من أشتات القلة، ويخلق النجاح اليقين من أحاديث المنى، ويرفع في معترك الشبه والظنون هذا الصرح الباذخ فيكون قاعدة للمصلح ومنارة للمتخلف ومثابة للشريد
فليت شعري هل تملك الأحوال الحاضرة عن أن تعوقنا عن أداء الواجب الوطني لهذا الرجل العظيم؟ إنا لا نريد أن نقدم إليه ثروة ولا عمارة ولا شارة؛ إنما نقترح أن تجعل له الأمة يوماً من أيامها الغر الحوافل، تفد عليه فيه طوائفها المختلفة من زراع وصناع وتجار وموظفين وطلبة، فيقدمون إليه شكران الوطن منظوماً في عقود الزهر، وقصائد الشعر، وهزج الأناشيد، وحماسة الهتاف، ليشعر هذا المجاهد البطل، وهو ينفض غبار المعارك الغالبة عن جبينه المتوج، ويمسح أذى السنين الناصبة عن جسده المهدود؛ أن الأمة التي شغل بنهضتها فكره، وقضى في خدمتها عمره، وأنفق فى سبيلها قواه، لم تفرط في جانبه، ولم تقصر في واجبه، ولم تعدُها عن شكر أياديه عوادي الخطوب الراصدة
ذلك الشكر الوطني العلني الحاشد هو في رأينا خير ما يقدم اليوم إلى رجل مثل طلعت حرب غمره خير الله حتى شرق به، ولزمه مجد الحياة حتى غرِض منه، وخدمه سلطان الجاه حتى زهد فيه؛ فلم يعد يطمع إلا في خفقة الحب من فؤاد شاعر الإخلاص من لسان شاكر
أما قيام حافظ عفيفي على ما أسس وشاد طلعت حرب، فذلك هو ضمان الله وأمان القدر. لأنه بإجماع الرأي أجدر من في مصر لخلافة الزعيم العظيم، وما رأينا الناس يخلدون بثقتهم بعد طلعت حرب إلا إليه، لاعتقادهم أنه كذلك رجل إنشاء وعمل، وصاحب رأي وعزيمة، ورسول إصلاح وخطة، ولم يتول عملاً من الأعمال إلا وضع فيه النظام والدقة والثقة والنزاهة. وكذلك عوّد الله الكنانة أن يلطف بها في القضاء ويُخلف عليها في القدر!
احمد حسين الزيات