الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 326/بحث قانوني مقارن

مجلة الرسالة/العدد 326/بحث قانوني مقارن

بتاريخ: 02 - 10 - 1939


القتل الخطأ

في الشريعة الإسلامية وفي القانون المصري الحديث

للأستاذ أحمد مختار قطب

من أمد غير طويل ارتفعت صيحات متفرقة تنادي بوجوب بسط القوانين الشرعية على البلاد. . . ولقد وجدت هذه الدعوة مرتعاً خصباً في نفوس عامة الناس. ولما كان من الثابت قطعاً أن السواد الأعظم من الجمهور لا يعرف عن القوانين الشرعية إلا فكرة ضئيلة مشوهة رأيت من ألزم واجبات الرجل القانوني أن يتيح لتلك النفوس فرصة تذوق ما في القوانين الشرعية من صلاح وعدالة وقوة مع مقارنة هذه القوانين بالقانون المصري الحديث

ولقد اخترت القوانين الجنائية لأنها هي التي يظهر فيها الفرق جليّاً بين الشريعة الإسلامية والقوانين الحديثة، ولأنها من جهة أخرى ألصق القوانين بالحياة البشرية. وسأبدأ أبحاثي بجريمة القتل بنوعيها سواء الجريمة العمدية أو غير العمدية

فنبدأ الآن بجريمة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية ثم في القانون الحديث حتى يتسنى لنا أن نحصر أوجه الشبه وأوجه الخلاف بين التشريعين

في الشريعة الإسلامية

أحكام هذه الجريمة مستمدة من الآية الكريمة: (وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمناً إلا خطأ؛ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحريرُ رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله إلا أن يصدقوا. فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمنٌ فتحريرُ رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهَرَينِ متتابعينِ توبةً من اللِّه وكانَ اللُّهُ عليماً حكيماً)

أجملت هذه الآية الكريمة أحكام القتل الخطأ، وبالاستعانة بالسنة النبوية وبأقوال الشراح نستطيع تفصيل هذا الإجمال

(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) والخطأ الوارد هنا هو بمعنى عدم القصد. وعد القصد هو مناط الإباحة. . .

فالأصل أن الخطأ لا يعاقب الإنسان عليه (ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به) ولكن لما نتج عن هذا الخطأ إزهاق روح بشرية صار إثماً ووجب عقاب فاعله على رعونته وإهماله

ولقد عدّد الفقهاء صور الخطأ وأوجهه فقالوا: إن وجوه الخطأ لا تحصى ويربطها جميعاً عدم القصد مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلماً، أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ

وعقوبة هذه الجريمة تختلف باختلاف الشخص الذي وقعت عليه، فإن كان المجني عليه مؤمناً من قوم مؤمنين فله حكم خاص؛ وإن كان مؤمناً منتمياً إلى الأعداء ومقيماً معهم فله حكم آخر؛ وإن كان من قوم معاهدين فله حكم مخالف لما سبق

فإن كان المقتول خطأ مؤمناً من قوم مؤمنين فقد قالت في حكمه الآية الكريمة: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله)

فبناءً على ذلك يلتزم القاتل بتحرير رقبة مؤمنة وتسليم دية إلى أهل القتيل، وعلّة إلزام القاتل بتحرير رقبة مؤمنة هو أنه قد تسبب بإهماله ورعونته في قتل نفس مؤمنة كانت تعبد الله فتعين عليه إقامة نفس أخرى محلها، ولا يمكنه ذلك بالإحياء فلا مناص إذن من العتق. ولا تنس ما في هذا العمل من حض ظاهر على إزالة الرق

وهذا العتق من قبيل الكفارة التي ترفع عن المذنب عقوبة الآخرة.

ولقد اشترط العلماء في هذه الرقبة المؤمنة أن تكون رقبة قد عقلت الإيمان، لأن الغرض هو تنصيب إنسان للعبادة بدل الإنسان المقتول، فلا يصلح إذن إعتاق المجنون جنوناً مطبقاً، ومن كان في حكمه.

والعقوبة الثانية هي دفع دية إلى أهل القتيل عوضاً عن دمه، ولقد ذكر القرآن الدية إجمالاً، ولكن السنة وضحت هذا الإجمال إذ ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الدية مائة من الإبل

ولقد توسع العلماء بعد ذلك فقالوا: إن الدية قد لا تدفع من الإبل، بل قد تستبدل ذهباً، فهي عند أهل الذهب ألف دينار، وعند أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وعند أهل الشاء ألف شاة، وعند أهل الحلل مائتا حلة. . .

على أن دفع هذه الدية حق خالص لورثة القتيل إن شاءوا تنازلوا عنه، وإن شاءوا احتفظوا به؛ أما الكفارة، وهي إعتاق الرقبة المؤمنة، فلا تسقط بإبراء الورثة لأنها حق لله تعالى.

أما إن كان المقتول مؤمناً منتمياً إلى الأعداء، وكان القاتل يعتقد أنه كافر، فقد جاء حكمه في الآية: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) أي أن العقوبة هنا قاصرة على الكفارة، وهي تحرير الرقبة المؤمنة، فلا يلتزم القاتل بدفع دية إلى أهل القتيل، وسقطت الدية لوجهين أحدهما أن أولياء القتيل أعداء للمسلمين، فلا يصح أن تدفع إليهم فينتفعوا بها، والثاني أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية له لقوله تعالى: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا.

والحالة الثالثة تتحقق عندما يكون المقتول خطأ من قوم معاهدين أو ذميين، ففي هذه الحال يجب تحرير الرقبة المؤمنة وتسليم الدية إلى أهله. ونلاحظ أن هذه الحالة لا تفترق عن الحالة الأولى، وسبب الإلزام بدفع الدية هو أنه ما دام المقتول من قوم معاهدين فهم إذن أولى بديته

ثم قالت الآية في آخر الأمر: (ومن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) أي من لم يجد الرقبة، ولا اتسع ماله لشرائها، فصيام شهرين متتابعين يعفيه من هذا الواجب

هذه هي أحكام القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية وقد أوردتها بإيجاز يعفي القارئ من التفصيلات المسهبة

في القانون المصري

أما أحكام القانون المصري بالنسبة لهذه الجريمة، فقد وردت في المادة 238 من قانون العقوبات الجديد ونصها (من قتل نفساً خطأ أو تسبب في قتلها بغير قصد ولا تعمد بأن كان ذلك ناشئاً عن رعونة، أو عدم احتياط وتحرز، أو عن إهمال وتفريط، أو عن عدم انتباه وتوق، أو عن عدم مراعاة واتباع للوائح، يعاقب بالحبس أو بغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه)

هذه المادة تنص على أن هذه الجريمة نحتاج لنكوّنها إلى الأركان الثلاثة الآتية:

الركن الأول يتلخص في ضرورة صدور خطأ من الجاني، والخطأ هو سبب العقاب، إذ بدونه لا يكون هناك محل لتوقيع العقوبة. . . ويعتبر الخطأ موجوداً كلما ترتب على فعل إرادي نتائج لم يردها الفاعل مباشرة، ولا بطريق غير مباشر، ولكنه كان في وسعه تجنبها ولقد حدّدت المادة أنواع الخطأ وحصرت هذه الأنواع في الصور الخمس الآتية: وهي الرعونة وعدم الاحتياط والتحرز والإهمال أو التفريط وعدم الانتباه أو التوقي وعدم مراعاة اللوائح

ومما هو جدير بالملاحظة أن عبارات القانون واسعة يندرج تحتها كل أنواع الخطأ

والركن الثاني ضرورة وجود رابطة سببية بين الخطأ والنتيجة؛ وبتعبير آخر ألا يكون من الممكن تصوّر وقوع الجريمة بدون وجود الخطأ. فإن كان الموت مستقلاً عن الخطأ فلا محل للعقاب.

وبتعبير أكثر دقة يجب أن يكون الخطأ من أسباب وقوع الجريمة

وقد يحدث في الحياة العملية أن يساهم المجني عليه بخطأه في إحداث الجريمة؛ ففي هذه الحالة لا ترتفع مسئولية الجاني بل يظل مسئولاً، وإنما تخف مسئوليته بقدر خطأ المجني عليه وأثره في إحداث النتيجة

أما الركن الثالث فهو ضرورة وقوع الموت، وإلا فلا عقاب مهما كان الخطأ في ذاته. وهذا الشرط بديهي لأن الجريمة لا تتم بدونه، إلا أن الخطأ قد يكون في ذاته جريمة يعاقب عليها القانون

هذه هي الأركان التي تتكون منها الجريمة، وبمجرد استيفائها يجب عقاب فاعلها بإحدى العقوبتين الواردتين بالمادة إما الحبس لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وإما غرامة لا تزيد على مائتي جنيه

ولقد كانت هذه العقوبة في القانون القديم أخف وطأة منها في القانون الحالي، لأن العمل أظهر أن العقوبة المنصوص عليها في القانون القديم وهي الحبس لمدة لا تزيد على سنتين أو غرامة لا تتجاوز خمسين جنيهاً مصرياً لا تكفي في الأحوال التي يكون فيها الخطأ جسيماً أو التي يتعدد فيها المجني عليهم

هذه هي جريمة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية، وفي القانون المصري الذي هو صورة للقانون الفرنسي، ويبدو لنا أن الشريعة الإسلامية تقارب القانون الحديث في بعض الأحوال وتفترق عنه في غيرها. فهي تشبهه في الوجهة العامة من حيث اشتراط الخطأ وصوره وأوجهه، ولكنها تختلف عنه اختلافاً بيناً في العقوبة. وعندي أن أساس هذا الاختلاف هوتغير الأوضاع الاجتماعية، فعقوبة إعتاق الرقبة أساسها نظام اجتماعي يسود فيه الرق

ولكني أعتقد أنه بقليل من الاجتهاد نستطيع التوفيق بين القانون والشريعة فنطور القانون إلى أن يوافق الأسس الشرعية التي لا تقبل التغيير، ونطور بعض الأحكام الشرعية التي روعي في وضعها تغيرها بالزمان والمكان

أحمد مختار قطب المحامي