مجلة الرسالة/العدد 324/رسالة النقد
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 324 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 18 - 09 - 1939 |
نظرات في كتاب:
(بعث الشعر الجاهلي)
تأليف الدكتور مهدي البصير
للأديب خليل أحمد جلو
- 2 -
لا شك أن ما روى الدكتور عن حياة امرئ القيس منسجم مطرد، وهو حجة دامغة معقولة، لو أن ما كتبه (وهو عين ما يدرسه طلاب الصف الثالث الثانوي)، هو كل ما يروى في الكتب ويُستنتج بعد المحاكمة، ولو أنه صحيح ثابت، ولكنه ناقص سقيم حين سمع الناس أن امرئ القيس شخصية خيالية، وحين يعلم أن الرواة اختلفوا في اسمه وكنيته وذريته: فهو حندج وهو قيس، واسم أبيه عمرو واسم أبيه حجر، واسم أمه فاطمة واسم أمه تملك، وكنيته أبو لهب وكنيته أبو الحارث، وأنه لم يكن له ولد ذكر، وأنه يئد بناته جميعاً، وأن له بنتاً يقال لها هند، وأنها لم تكن بنته، وإنما كانت بنت أبيه، وأنه يعرف بالملك الضليل، وانه يعرف بذي القروح.
فكان عليك يا دكتور أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما نستطيع أن تسميه (منسجم مطرد)، وما تستطيع أن تسميه حقاً أو شيئاً يشبه الحق ليجوز لك أن تسلم بوجود امرئ القيس وأن تقول: (إن ما يروى عنه (لم يكن أكذوبة) من أكاذيب القصاص).
أليس جديراً بكتاب يسمى (بعث الشعر الجاهلي) أن يستعرض ما ذكرت، وزيادة عليه مما يشم منه رائحة الأساطير والأكاذيب، ثم يعرض لها بالبحث والتحليل، والاستقراء ولاستنتاج، والتعقل والمحاكمة، لينسج منه المؤلف بحثاً يستطيع بعده أن يقول: قد بعثت امرئ القيس حقاً؟ ولكن الدكتور أغرق في تجنب الآراء المتضاربة والاختلافات المتناقضة، وما جرب أن يشطح وينطح، وابتعد عن كل أناة ونثبت فيما نقض وأبرم. فهو يجحد جحوداً مطلقاً، وينكر بغير حق شأنه في التصديق، ويروي ما يدعم مزاعمه، ويغف عما يدحضها، وهذه خصال يتبرأ منها الباحث العلمي.
إذا أردت أن أنتهي من نقد طريقته السقيمة في البحث فأسمح لي أن أحدثك يا قارئي عن برهانه على حقيقة نسبة (قفا نبك). وما هو برهانه؟ لا يتجاوز ما يذكره في ص 10 (أن القصيدة رويت في القرن الثاني، وأن كبار الرواة وثقاتهم كالمفضل الضبي وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي أحياء لم يطعنوا فيها). . . يظهر من هذا أن الدكتور مطمئن إلى ما يرويه هؤلاء كل الاطمئنان، ولم ير حاجة في الإطالة، فقد جاء بالبرهان الناصع والدليل القاطع
هل يستطيع الدكتور أن يقول إن كل ما رواه هؤلاء صحيح سالم من التجريح؟
لا شك أن هؤلاء ممن لم تفسد مروءتهم ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية، والعجب أنهم قد كذبوا أيضاً وانتحلوا. فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً هو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ويعترف الأصمعي بشيء من ذلك. ويقول اللاحقي إن سيبويه سأله عن إعمال العرب (فَعِلا) فوضع له هذا البيت:
حذرٌ أموراً لا تضير وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار
وهل من صفة البحاثة العلمي أن يقف جامد العقل إزاء ما يروى عمن عاشوا في القرن الثاني مهما ابتعدوا عن السذاجة وفساد الذمة؟
وإذا سلمنا جدلاً أن القصيدة من ناحية السند صحيحة، أليس يحسن به أن يمتحن صحة متنها؟ إنه لم يتكلف عناء ذلك في جميع ما روى من المعلقات
يا دكتور أن أكاذيب كثيرة حملت على الجاهليين ونسبت أحاديث خرافة لا تحصى إليهم في عهد الإسلام، وأضيفت مقادير وافرة من الأباطيل إلى تاريخ كل شعب وكل جيل، وحاشاك أن تجهل الافتعالات التي يمليها تضارب المصالح والأهواء ويقتضيها تطاحن الأفراد والجماعات، مما يجب ألا نتواطأ عليها بالسكوت والتسليم، فلا تحسب أنك حين نزهت بعض الرواة عن الاختلاق والكذب يحق لك أن تقول بكلام المنتصر الغالب: (إذن لنفرغ لدرس هذه القصيدة (ص 19)، فإن الباحث المنصف من شأنه أن يحتاط ويحترس من كل ما يروي، وليس من الصحيح أن تقول إن فلاناً مشهور بالصدق فيجب أن نأخذ عنه كل شيء على علاته مطمئنين راضين
هل تعرف عن (مدرسة الرأي) التي انتشرت في القرن الأول والثاني للهجرة التي كانت تشترط فيما يؤخذ به حديث شروطاً لا يسلم معها إلا القليل، حتى غالى قوم فرأوا عدم الأخذ بالحديث بتاتاً؟
أليس جديراً بك يا دكتور أن تقف موقف (اللارأيين) الذين شكوا في صحة الأحاديث ولم يكن بينهم وبين قائلها ﷺ أكثر من قرنين؟ تذكر أنك في القرن الرابع عشر للهجرة، وأن الذي نرويه شعر وليس حديثاً لا يختلقه إلا من عرض نفسه لغضب الله وناره
يقول الدكتور (ص 92) (إني أحاول في هذا الفصل أن أثبت جاهلية المعلقات أو - المطولات السبع - ومتى تم لنا القول بأن هذه القصائد السبع جاهلية حقاً، فإننا نكون قد أنقذنا أمجد صفحات الشعر الجاهلي من الجحود والإنكار. ذلك لأن هذه المطولات أقوى وأجمل وأمتع ما وصل لنا من الشعر الجاهلي على الإطلاق)
إن الدكتور يريد أن يثبت (بالجملة)
هل تعلم ما هو السلاح الذي دافع به عن المعلقات حتى خيل إليه (أن القصائد السبع جاهلية حقاً؟) إنك لا تعلم حتى أقول لك! إنه اقتصر على تبرئة حماد الرواية عن قولها لا غير!
ولكن كيف برّأه ودافع عنه دفاع المحامي المحرج البرهان والدامغ الحجة؟
إنه يقول (ص 93) (إن حماداً يستطيع أن يقول البيت أو الأبيات القليلة من الشعر المبتذل وأن يدسها في شعر أحد الجاهلين ليدل بذلك على أنه أغزر علماً وأصدق رواية من غيره من الرواة، ولكنه لا يستطيع أن يقول قصيدة واحدة ذات شخصية أدبية وقيمة فنية) ثم يقول إن شاعرية حماد لا تساعده (على وضع الشعر البليغ وإضافته إلى فحول الشعراء)
لا تطلب مني أن أضايق الرسالة بما يروى عن حماد وبما يؤثر عنه من شعر جيد رصين، وفن في النظم فريد، وشيطنة في الانتحال عجيبة، وتقليد للشعراء يعجز عنه أعظم شاعر فحل؛ ويكفي أن أذكر أهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حماد: عنه أخذوا شعر العرب، وأنه شاعر مجيد يصل من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يروي وينتحل
ويقول المفضل الضبي - والدكتور يثق به كل الثقة - إن حماداً قد افسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً. فلما سئل عن ذلك: ألحن أم أخطأ؟ قال: ليته كان كذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟
ويحدثنا عنه محمد بن سلام - والدكتور لا يشك في روايته أيضاً - أنه دخل على بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فقال له بلال: ما أطرفتني شيئاً؟ فعاد إليه حماد فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة في مديح أبي موسى. قال بلال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة! والرواة أنفسهم يختلفون في قائلها فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً
وكان يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يروي لحماد، كان يكسر ويلحن ويكذب
وثبت كذب حماد الرواية للمهدي فأمر حاجبيه فأعلن في الناس أن يبطل رواية حماد
فهل صحيح يا دكتور ما تقوله من أنك قد (أحصيت ما عرف لحماد من الشعر، على أنه له، أو على أنه محمول على بعض الشعراء الجاهليين أو المخضرمين، فكان كله أربعة وعشرين بيتاً)، وأن حماداً لا يستطيع أن يقول قصيدة واحدة ذات شخصية أدبية وقيمة فنية، وأنه لم يدس في الشعر غير البيت أو الأبيات القلائل؟
وما لنا والإطالة؟ فهل يشك أحد - غير الدكتور مهدي البصير - في أن حماداً كان يسرف في الرواية والتكثر منها، وأن له في ذلك أخباراً لا يكاد يصدقها أحد؟ فلم يكن يسأل عن شيء إلا عرفه! وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لم يعرفهم من الشعراء. قالوا: وامتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم امتحانه ثم أجازه
لا تظنوا مما حدثتكم به أني أريد أو أحاول أن أبدي رأياً في الشعر الجاهلي، وإنما كل ما طمعت فيه أن أبين لكم أن الكتاب الذي بعث الشعر الجاهلي، كما يخيل إلى صاحبه، برئ مما يدعي أو يتخيل، وأنه خال من العمق، وهو سطحي كما يقولون. أو قولوا إنه شرح لمعاني المعلقات على أنها آيات منزلات أكثر منه محاولة لبعث الشعر الجاهلي، وهو قائم على الإبهام والتضليل لمن لم يؤت نصيباً من الأدب، وعلى الغفلة والانخداع. والباحث يخيل للقراء أو قل يخيل إليه أنه قد أحاط بالأدب والأدباء الجاهلين مع أنه لم يحط من ذلك بشيء. وإنما عرف صياغة بعض الجمل، وعلماً عامياً اقتطفه من الكتب اقتطافاً. . وآية ذلك أنه في بحثه الجديد الذي سماه (بعث الشعر الجاهلي) لم يكشف للناس عن شيء جديد في أمر هؤلاء الشعراء الجاهليين وشعرهم، وإنما ظل هؤلاء عند من يشك كما كانوا، بل زادوا شكاً وارتياباً.
هذا النحو من البحث السطحي شر، لأنه قاصر وعقيم، ولأنه لم يأت بالثمرة المطلوبة أو بما يشبهها، ولأنه لا يمت إلى العلم بصلة، ولأنه لا يصلح إلا للمتوسطات من المدارس.
لقد حدثتك عن الوجه الأول والثاني، وقد كدت أن أنسى الوجه الثالث وفيه اقترف المؤلف من الأحكام الخواطئ والتفسيرات السقيمة والآراء الفطيرة ما جعلنا نتذكره ونشعر بضرورة الهداية والإصلاح والجهاد في سبيل الأدب والأدباء.
يشرح الدكتور معنى البيت:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
قائلاً: إن الشاعر (يعلن أنه يعرف ماضي الحياة وحاضرها لأنه رآهما، ولكنه يجهل مستقبلها) (ص 41) وهذا الشرح معقول مقبول لا يختلف فيه اثنان، ولكن مما يدعو إلى النظر والتروي ما يستنتجه الدكتور من قول الشاعر: (ولكنني عن علم ما في غد عم) إذ يزعم (أنه لا يؤمن بالبعث) (ص41). إن هذا الإدعاء باطل؛ فإن الرواة يتحدثون أنه تنبأ بظهور الإسلام وأوصى ابنيه كعباً وبجيراً أن يسلما. وهم يروون له أشعاراً كثيرة فيها أصول دينية. وذكر أبو عبيدة عن قتيبة ابن شبيب بن العوام بن زهير عن آبائه الذين أدركوا بجيراً وكعباً ابني زهير قال: كان أبي من مترهبة العرب وكان يقول: (لولا أن تفندوني لسجدت للذي يحي بعد الموت! قال: ثم إن زهيراً رأى قبل موته بسنة في نومه كأنه رفع إلى السماء حتى كاد يمس السماء بيده ثم انقطعت به الحبال، فدعا بنيه فقال: يا بني، رأيت كذا وكذا وإنه سيكون بعدي أمر يعلو من اتبعه ويفلح، فخذوا بحظكم منه، ثم لم يعش إلا يسيراً حتى هلك فلم يحل الحول حتى بعث رسول الله ﷺ
ولنسلم أن هذه الروايات مُفتَعَلة محمولة على زهير ولندعها جانباً، ولنرجع إلى الشاعر نفسه نسأله عن رأيه في البعث فسيقول لنا دون تردد:
فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
فاتق الله يا دكتور في دين الناس، ولا تضلك ظواهر الكلم، فإن الشاعر يريد أن يقول في بيته الذي آخذته عليه:
وما تدري نفس ماذا تكتسب غداً، وأنها لا تعلم الغيب
عفا الله يا دكتور! فلولا أنك كنت تلبس العمة وترتدي القباء وكنت شيخاً في الظاهر والباطن، كما هو معروف عنك قبل أن تقصد باريس، لاتهمناك بنكران الحساب وبرأنا زهيراً! ألست أنت الذي تقول في قصيدة وجدانية قلتها في نهر الليس (ص151)
لا تحسبن لماض ... ولا لآت حسابا
من يدري! لعل الدكتور قد زاغ قلبه حين أحس بجلال طبيعة فرنسا وحين تضاءل جلال الله أمام جلال نهر الليس!؟ سبحانك يا رب!
(يتبع)
الاعظمية
خليل أحمد جلو