مجلة الرسالة/العدد 324/دمشقيات
→ جناية أحمد أمين على الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 324 دمشقيات [[مؤلف:|]] |
حديث في القرن التاسع عشر ← |
بتاريخ: 18 - 09 - 1939 |
ليلة على سفح قاسيون!
للأستاذ علي الطنطاوي
يا ليلة السفح هلا عدت ثانية ... سقى زمانك هطال من الديم
لم أفض منك لبانات ظفرت بها ... فهل لي اليوم إلا زفرة الندم؟
(الشريف)
يا ليلة ما كان أجملها وأقصرها. . . وذلك تكون ليالي الأنس فاتنات قصيرات العمار!
يا ليلة ستمر الليالي ولا تمحو من نفسي ذكراها ولا أستطيع أن أنساها. . .
يا ليلة. . . سكرت فيها بلا كأس ولا قدح. . . لقد علمتني السكر فسأسكر الليالي الآتيات بذكراك. . . ولكن ثمالة السرور لا يكون فيها إلا رحيق الألم. . .
صدق دانتي: إن ذكرى اللذائذ الماضية تؤلمنا!
تلك هي ليلتنا على سفح قاسيون، في قهوة (حسن آغا) نظم فيها قلادة الأصحاب والأحباب، شفاءُ الطفل المحبوب (إبراهيم الرواف) فأجتمع الشمل وتم الأنس وألفت الحلقة بين العلم والأدب والشعر والفن والنكتة والغناء، وجمعت القهوة بين العراق والشام، ودمشق وبيروت، فكان في المجلس كرام أهل كل بلد وكبار أهل كل فن. . . وشاركت الطبيعة الناس في فرحة الشفاء فتزينت بحلة الأصيل المنسوجة بخيوط الذهب، وماست أشجار الغوطة دلالاً، وهمست الأوراق بترتيلة المساء، وكان المشهد لا يفيد فيه الوصف، لأن مثله لا يرى إلا في دمشق أو في جنان الخلد، ودمشق جنة المستعجل. . .
وتحدث الأستاذ البيطار، وتطارح الأستاذان الأثري والتنوخي الأشعار، ثم تسلم المجلس الأستاذ سعدي ياسين خطيب بيروت فلم يبق لأحد مجال لمقال، وطفق يلقي النكتة إثر النكتة والنادرة تلو النادرة، ونحن نمسك بخواصرنا، ونضرب من الضحك بأرجلنا ونمسح دموعنا، وهو لا يكف ولا يقف، ففكرت كم يضيع بيننا من الآداب التي لو دوناها كما دون المتقدمون لكانت لنا ثروة هائلة. وحسبك من هولها أن ما رواه صاحبنا تلك الليلة وارتجله يملأ كتاباً كبيراً. . . حتى إذا انطفأ مصباح الكون، ولبثت عروس الطبيعة ثوبها الأسود، ووجب حق الله علينا، قمنا إلى الصلاة، فأذن مؤذن منا، فلم نفرغ من الصلاة حتى أذن مؤذن آخر أن حي على الطعام. . .
ولما فرغنا وامتلأت بطوننا، حسبت المجلس سينفض، وأن القوم قد طعموا فلابد أن يتسروا، فإذا المجلس يبدأ، وإذا الشيخ سعدي يقدم المقدمات. . . ويتحدث عن الغناء والطرب، فما ظننت والله إلا أنه سيغني. ولقد سمعته حين أذن فسمعت صوتاً حلواً ورنة عذبة، ولكنى وجدته يشير إلى شاب ما فتح منذ الليلة فمه ولا تكلم بكلمة، فظننته يمزح وقلت إحدى هناته والله؛ غير أنه بالغ في إطراء الشاب وشاركه في ذلك من اعتمد ذوقه واطمأن إلى حكمه وارتضى فهمه، فشككت ولم أصدق أن يكون في دمشق مغن مجود لا اعرفه، على ولعي بأهل هذا الفن، وعلى صلتي بالأديب الموسيقي الأستاذ حسنى كنعاة لولب أهل الموسيقى. . . وكان أشد ما أخشى منه أن يردد علينا اسطوانات عبد الوهاب وأم كلثوم ويحسبها علينا ليلة طرب، وتمنيت لو ارتجل ارتجالاً ولم يجاوز أنغامنا العربية إلى أنغام لا نألفها ولا نحبها، ولا يدعى محبتها إلا قوم يراءون بالطرب منها حتى يقال إنهم متمدنون وأن لهم بموسيقى أوربة بصراً، ولست بحمد الله من هؤلاء. . .
وما لبث الشاب أن غنى، فإذا صوت تمنيت والله أن يكون لي علم الأستاذ محمد السيد المويلحي لأصفه لقراء الرسالة كما يصف هو، فأقيسه ب ـ (الكونترالتو) الذي لا أعرف اهو شيء مأكول أم ملموس، وب ـ (الميزو سبرانو) الذي لا أدري أهو حيوان أم نبات أم جماد أم هو شيطان من شياطين الموسيقى؟ ولكني وا حسرتا جاهل بهذا الفن، وليس عندنا في دمشق مويلحي آخر يخلد ذكر هؤلاء النابغين المغمورين المساكين في الرسالة!
أفيصح أن أصفه كما اعرف؟
بدأ بـ (يا ليل) بصوت ناعم حلو، فأطربني صوته، وأعجبني نغمته، ولم أعب عليه إلا خفوته ونعومته؛ وصحت وأنا رجل طروب، وصفقت، فقال لي القوم: انتظر إنك لم تسمع شيئاً. وانتظرت فإذا هو يدور بالنغمة دورة، فإذا له صوت قوي وضخم ولكنه واطئ كقرار عبد الوهاب؛ وإن كانت له قوة صوت صالح عبد الحي أو الشيخ صبحي الأمام في الشام، ثم يعلو به ويعلو، حتى يرتفع ارتفاعاً هائلاً، وهو لا يزال على قوت ورجولته، فبالغت في الإعجاب وهزني الطرب، فقالوا انتظر، أن بعد هذا لشيئاً، فسكت انتظر وما أظن أن بعد هذا شيئاً يكون، فإذا الشاب (عادل القربي) يقفز من هذا العلو إلى طبقة أعلى وأرفع، وإذا له صوت صبيّ برقته وحدته وصفائه، فاستخفى والله الطرب، حتى هممت لولا الحياء أن أقوم له فالتزمه وأقبله، وتركنا في هذا الأفق السامي، وهبط بآهة من آهاته إلى القرار، ثم تهاوت آهته واختفت حتى لقد سمعت الهاء الساكنة ينطق بها قلبه. . . ثم سكت سكتة، فلا والله ما ظننا إلا أن الدنيا قد دارت بنا، وثارت في نفوسنا عواصف من العواطف الدفينة، والذكر الكامنة لا يعلمها إلا الله، وكانت لحظة صمت وخشوع، آمنت فيها بما تفعل الموسيقى. . . ثم انتبه القوم فزلزل المكان بالتصفيق والهتاف. . .
ثم عاد ينادي هذا الليل الأصم: (يا ليل - يا ليل) والليل يصغي ويطرب، ولكنه لا ينطق فيجيب. (يا ليل - يا ليل) كم ذا يهتفون باسمك وأنت صامت! (يا ليل - يا ليل) يا ملجأ البائسين، يا سمير العاشقين، يا حبيب المتعبد الناسك، يا عدو المريض المتألم الحزين! (يا ليل) كم يخفى ظلامك من مشاهد البؤس ومظاهر النعيم (يا ليل) كم تضم أحشاؤك من الآم وآمال! كم تشهد من أفراح وأتراح! (يا ليل) كم يتمنى بقاءك سعيد جذلان، وكم يرقب فجرك ضائق حزنان (يا ليل - يا ليل) كم بين جوانبك من ساهر يراقب النجم يرقب حبيباً لن يعود أبداً. أو يناجي ميتاً لا يسمع، أو يحنو على مريض لا يشفى، أو يشكو والحياة لا تسمع شكاة (يا ليل) يا رمز السرمدية، يا حليف المسرات، يا قرين الآلام!
امتلأت نفسي شجناً، وأحيت هذه (الليالي) ليالي الخاليات وملك نفسي شعور أعهده منها كلما سمعت الصبايا لسحر الصبا. . . ومضى الشاب يقلب الأنغام فيتلاعب بالقلوب والمشاعر. ثم كرّ كرة فجاء بنغمة متقطعة مرقصة. . . وأتى بدور يترع النفوس فرحاً، واضطر القوم كلهم أن يرددوا كلمات منه بصوت منخفض يخالطه صوته الدقيق العالي فيكون منه اتساق (آرموني) موسيقى عجيب، وعاد المرح إلى المجلس، وسقط الوقار عن أوقر أهله فعلمت أن موسيقانا ليست كلها بكاء وألماً ولكن فيها المرقص المطرب، وكان الشيخ سعدي لا يدخر سكتة بين نغمتين إلا أحكم المرمى وقذف بنكتة من نكته التي لا ينفد معينها. وزلزل المجلس بأهله من الضحك والغناء، حتى لقد حسبت الدنيا ترقص معنا. ثم حط الغناء على أنشودتنا الشعبية الخالدة (يا ميجنا - يا ميجنا) تلك التي تصور بمعانيها النفس الشامية، وتمثل بصورها طبيعة بلادنا وجمال ديارنا، وهي رمز عبقريتنا الشعبي ومجال الابتكار، ومحك القريحة؛ فهي ترتجل أبداً ارتجالاً وتعقد لها المجالس، ويقوم الشاعران يتقارضان المدح أو الهجاء، وأهل المجلس يرددون اللازمة. . . (الميجنا) أنشودتنا الأزلية التي لا يعلم أحد من نظم أول مقطع منها ولا متى ينظم آخر مقطع. . . ثم أخذنا في الأغاني البلدية (هيهات يا بو زلف):
من هُون لَ أرض الدير ... من هُون لَ أرض الدير
والسّر اللي بيننا ... أيشْ وَصَّلُو للغير
وان كان ما في ورق ... لَ أكتب عَ جناح الطير
وان كان ما في حبر ... بدموع عينيّ. . . . . . . . . .
تلك الأغاني التي ولدت في أودية الشام المختبئة في سر الغيب لا يعلم بها إلا أهلوها والله العالم بكل شيء، وذراه التي لا يسكنها إلا أهلوها والنور
. . . فيا أيها المصطافون بالله عليكم، لا تقفوا عند صوفر وبحمدون وبلودان، بل تغلغلوا إذا أردتم أن تشاهدوا الجمال جمال الفطرة، واهبطوا أودية، وارتقوا ذرى، واركبوا الدواب، وسيروا على الأقدام، ولكن لا. . . لا أيها المصطافون بالله عليكم، انسوا ما قلت لكم، ودعوا الجبل على فطرته، اتركوه يعيش على جهله الفاضل، وفقره السعيد. لا تحملوا إليه الحضارة التي أفسدت بلودان وصوفر وبحمدون. . .
هذه الحضارة، ويل لنا من هذه الحضارة!
لقد سلبتنا كل شيء! فهل تسلبنا موسيقانا؟ إنا لا نجد ساعة الضيق إلا أغانينا وأنغامنا، نصب فيها آلامنا ونستوحيها الأمل ونمسح بها دموعنا. أفتريدون ألا يبقى لنا وزر نلجأ إليه ساعة الصبق؟
إن الموسيقى غذاء الروح، فشأنكم، قلدوا أوربة في كل شيء لكن دعوا لنا غذاء أرواحنا. أفتحبون ألا نجد لأرواحنا غذاء فنتركها تذوي وتموت؟
هذه صرخة قلوبنا، فهل يصغي إليها هؤلاء الذين وهبهم الله نعمة الفن ليحفظوا علينا فننا، فذهبوا يضيعون بهذه النعمة فننا؟ هل يصغي عبد الوهاب نابغة العصر؟
غني والله لأسمع في السينما أغاني القوم من أهل أوربة، فلا أحس طرباً ولا أرى فيها إلا اختلاطاً في الأنغام من باب. . .
سقياً ورعياً وزيتوناً ومغفرة ... قتلتم الشيخ عثمان بن عفانا وليقل عني من شاء ما شاء، ثم أسمع عبد الوهاب فاعجب، ولكني لا اطرب، فإذا سمعت علياً الكردي في الشام أو القبانجي في بغداد عرفت ما هو الطرب.
هكذا أنا، وهكذا الناس، فدعوا لنا أغانينا. . .
وضرب الشاب في كل فن من الغناء، ثم غنّى في أبيات أبي صخر الهذلي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوىً كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ويا هجر ليلي قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه الهجر
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر
فنقلني إلى مجالس الخلفاء التي صورها أبو الفرج، ونال مني الطرب؛ فعرفت أن لقد كان حقاً ما ذكر الأصبهاني وأن المرء قد يمزق ثوبه من الطرب، أو يحرق لحيته بالسراج وينادي النار يا أولاد ال ـ. . . ومن يضع الوسادة على رأسه ويصيح (زلابية بعسل). . .
ولكن ماذا ينفع الشاب إعجابي، وماذا تفيده هذه العبقرية وهو مضطر إلى العمل في سوق الحميدية ليعيش؟ أفليس حراماً أن يدفن هذا النبوغ في دكان؟ أليس حراماً أن صبحي الحموي يعيش متنقلاً بين القرى يراقب إصلاح لطرق المخربة وهو من أقدر من أمسك بمضراب العود؟ أليس حراماً أن يكون عليّ الكردي شيخ الفن القديم في الشام دلال بيوت؟ أليس حراماً أن يشتغل تحسين بك سيد أهل الناي في البلاد كلها بإصلاح أنابيب المياه في البيوت وهو في الثمانين من عمره؟
وفي بغداد، أليس الشيخ حيدر الجوادي عاملاً في دار لتجليد الكتب؟ وفي مصر، أما فيها كثير من أهل الفن لا يعبأ بهم أحد؟
ولكن لا بأس
لقد عهدتك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي لا بأس أن يموت الفنان جوعاً، فسينصب له بثمن خبزه تمثال، ورحمك الله يا سيد درويش. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي