مجلة الرسالة/العدد 324/جناية أحمد أمين على الأدب العربي
→ حربان عظميان | مجلة الرسالة - العدد 324 جناية أحمد أمين على الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
دمشقيات ← |
بتاريخ: 18 - 09 - 1939 |
للدكتور زكي مبارك
- 15 -
كنت حدثت القراء فيما سلف أني لم أهجم على الأستاذ أحمد أمين إلا بعد أن صح عندي أنه يسئ إلى نفسه وإلى الأدب العربي إساءة خطرة تستوجب المسارعة إلى تعريفه بخطر ما يصنع عساه يثوب إلى رشده فيرجع إلى الصواب
وفي مطلع حديث اليوم أثير مشكلة تحدث بها إلى تلاميذه في كلية الآداب وكان لها صدىًّ، هو حيرة بعض الشبان الذين كانوا يثقون برجاحة العقل عند ذلك الأستاذ المفضال
وما الذي حدَّث به تلاميذه في تلك الكلية؟
حدثهم أن من رأيه ألا يدرس الأدب العربي في المدارس الثانوية ولا المدارس العالية، وأن الواجب أن يُقصَر درس الأدب العربي على المختصين في دراسة تلك اللغات (؟!)
هذا كلام نقله إلينا كثير من طلبة كلية الآداب، فهل هو صحيح؟
يجب على الأستاذ أحمد أمين أن يسارع إلى تكذيب هذا الكلام، إن كان من المفتريات، ويجب عليه أن يحدد الغرض منه إن كانت نسبته إليه صحيحة، لأنا نحب ألا يعرض مركزه لأخطار الإشاعات والأقاويل
والواقع أن الكلام المنسوب إلى الأستاذ أحمد أمين يتفق في روحه مع الآراء التي أذاعها في الأسابيع الأخيرة، فهو يقول صراحة بأن الأدب العربي في اغلب أحواله أدب له معدات لا أدب أرواح، وأنه لم يصور البلاد العربية والإسلامية، ولم يصف ما وقع فيها من أحداث اجتماعية، ولم يشهد بأن أهله أحسوا الطبيعة وتأثروا بألوان الوجود
ومن الواضح أن الرجل يحترس في مقالاته أكثر مما يحترس في محاضراته، فما قال أحمد أمين في مجلة الثقافة ليس إلا صورة مهذبة لما أذاعه في كلية الآداب
نحن إذن أمام فتنة جديدة، هي فتنة القول بأن الأدب العربي لا يصلح لتربية الأذواق في الجيل الجديد. وهذه الفتنة ليست من مخترعات أحمد أمين، فقد نجمت قرونها منذ أكثر من خمسين سنة حين أراد المستعمرون والمبشرون أن يوهموا أبناء الأمم العربية بأن الصلة بين ماضيهم وحاضرهم لم يبق لها مكان، وأن المصلحة تقضي بأن يوضع الأدب القديم ف المتاحف، وألا يدرسه غير المتخصصين على نحو ما يصنع الأوربيون في الآداب اليونانية واللاتينية، ثم تُقبِل كل أمة على لهجتها المحلية فتجعلها لغة التخاطب والتأليف، وبذلك تكون اللغة الفصيحة أُماً أو جدة للغات الشعوب العربية، كما صارت اللاتينية أُماً أو جدة للغات الشعوب اللاتينية. وقد صرح بذلك المسيو ماسينيون في خطبة ألقاها في بيروت سنة 1913 ونقدتها يومذاك بمقال أرسلته إلى جريدة (البلاغ) من باريس
والحق أن الفتنة التي أذاعها المستعمرون والمبشرون كانت فتنة براقة خدّاعة تُزيغ البصائر والعقول، وقد انخدع بها من انخدع في الأعوام الماضية، فكانت المفاضلة بين الفصيحة والعامية من المشكلات التي تقام لها المناظرات في بعض المعاهد والأندية الأدبية. وقد وصل صدى هذه الفتنة إلى المجمع اللغوي بالقاهرة فانقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق يقول بدراسة اللهجات المحلية وفريق يقول بأن الأفضل إنفاق المال في إحياء الأدب القديم، وقامت بسبب هذه المشكلة مساجلات فوق صفحات الجرائد بين الدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين
والظاهر أن لأستاذ أحمد أمين من أنصار القول بإحياء اللهجات المحلية، فهو يدرس على صفحات مجلة الراديو المصري ألفاظ اللهجة المصرية باهتمام يدل على تأصل تلك الفتنة في نفسه الواعية!
فهل تكون مقالاته في مجلة الراديو المصري نواة لمحاضراته عن الأدب العربي المصري بكلية الآداب في الأعوام المقبلات؟
نحن فهمنا أن الغرض من إنشاء كرسي للأدب المصري بكلية الآداب هو درس الآثار الأدبية العظيمة التي أبدعها المصريون باللغة الفصيحة منذ فتح العرب مصر إلى اليوم لأن مصر تفردت بمزايا كثيرة بين الأمم العربية، فاعظم مكتبة عربية في العالم هي دار الكتب المصرية، وأعظم جامعة عربية في العالم هي الجامعة المصرية، وأعظم معهد إسلامي في العالم هو الأزهر الشريف، وأعظم صحافة عربية في العالم هي الصحافة المصرية، وأعظم معجم عربي وهو لسان العرب ألف في القاهرة، وأعظم كتاب في أسيرة النبوية وهو سيرة ابن هشام أُلِفَّ في مصر، وأعظم كتاب في تاريخ الإنشاء وهو صبح الأعشى ألفه أديب مصري هو القلقشندي، وأعظم موسوعة عربية وهي نهاية الأرب ألفها أديب مصري هو النويري، وأعظم شارح لمذاهب التصوف، وهو الشعراني، مصري من أبناء المنوفية. . . ومصر كانت الملاذ لعلماء العرب بعد أن اعتدى التتار الهمجيون على بغداد؛ ومصر كانت الملجأ لأحرار التفكير من العرب حين اضطهدهم الأتراك في سورية ولبنان؛ ومصر كانت ولا تزال صلة الوصل بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، وبفضل سواعد المصريين اندحر الصليبيون؛ وبفضل مصر حبطت دسائس المبشرين في الشرق وهم أعوان المستعمرين في تقويض دعائم الحضارة العربية
فما الذي سيصنع أحمد أمين حين يدرس الأدب المصري بكلية الآداب؟
أترونه يفهم الغرض الأصيل من الأدب المصري فيرفع آصار الخمول عن مآثر المصريين في خدمة الأدب واللغة والتاريخ والتشريع؟ أم ترونه يتخذ مادة الدرس من الكلام عن أحاديث الحاجة خدُّوجة والمعلِّم مشحوت؟
إن كلية الآداب لن تعيش بمنجاة من رقابة النقد الأدبي، ولن يهمس أحمد أمين بكلمة أو فكرة بدون أن تصل إلى من يهمهم معرفة جوهر الرسالة الأدبية التي تذيعها كلية الآداب، ولن يرن في أبهاء تلك الكلية صوت ينطق بالحق أو بالباطل إلا وحوله أرصاد من عقول الشبان الأذكياء الذين توِّجههم عزائمهم وقلوبهم إلى أن يكونوا أبطال الفكر العربي الصحيح في العصر الحديث!
وإني لموقن بأن أصدقائنا من أساتذة كلية الآداب يعرفون جيداً أن الأمة تنتظر أن يكون ذلك المعهد العظم أهلاً في كل وقت للأمانة العظيمة التي عهدتْ بها إليه، فلا يكون مسرحاً للآراء الفطيرة التي يذيعها بعض الناس في إحدى المجلات
لقد رجونا ألف مرة أن تكون كلية الآداب بالقاهرة هي النبراس الذي تستضئ بها العقول في الشرق، وقد استطاعت تلك الكلية بفضل المتفوقين من أساتذتها وخريجيها أن ترفع لواء الدراسات الأدبية والفلسفية، فمن المجازفة بسمعتها العلمية أن تصفح عمن يقفون عند الحدود السطحية في فهم الأدب والتاريخ
أقول هذا وقد كتب إليَّ أحد المتخرجين في تلك الكلية خطاباً يقول فيه: إن اللغة العربية ليست لغة المصريين. ولو شئت لصرحت باسم صاحب ذلك الخطاب، ولكنه صديق عزيز لا أحب أن أعرضه للاتسام بسمة الخطأ الذي وقع فيه أساتذة أحمد أمين وإنما يهمني نقض هذا الرأي لأنه على ضعفه يرفع رأسه من وقت إلى وقت، ويخيل للناس أنه قادر على الحياة وأنه يستطيع أن يمشي على رجلين أو على أربع، وأنه خليق بأن تُنصَبْ له الموازين!
وهذه الشبهة لها صورة من صور الحق:
فاللغة العربية ليست لغة مصرية، وإنما هي في الأصل لغة أجنبية حملتها العقيدة الإسلامية
هذه الشبهة تحمل وجهاً جميلاً من وجوه الحق، ولكنها تذكر بحكاية اللص الذي رأى صاحب الدار يجول في أرجاء داره فصاح: من الذي هناك!
أيها القراء
أسمعوا الحجج الآتية، ثم كذبوني إن استطعتم، ولن تستطيعوا أبداً. أنتم تعرفون أن أهل مصر تكلموا اللغة العربية نحو ثلاثة عشر قرناً، فهل تعرفون أن المصريين تكلموا لغة واحدة ثلاثة عشر قرناً قبل أن يتكلموا اللغة العربية؟
هل يستطيع رجل من علماء الآثار المصرية أن يثبت أن أهل مصر كانت لهم لغة واحدة في أي عهد من العهود قبل أن يعرفوا اللغة العربية؟
إن التاريخ يؤكد أن المصريين قبل الإسلام كانت لهم لغة في الشمال ولغة في الجنوب، ويؤكد أنهم عرفوا لغة ثالثة هي اللغة اليونانية، وكانت لغة رسمية في بعض العهود، وربما استطاع التاريخ أن يقول إن مصر كان فيها ثلاث لغات: لغة لأهل مصر الوسطى ولغة لأهل الجنوب ولغة لأهل الشمال
وقد يستطيع التاريخ أن يؤكد أن بعض الأقاليم المصرية عرفت اللغة العربية قبل الإسلام. والتشابه بين اللغة المصرية واللغة العربية أثبته كثير من الباحثين منهم المرحوم أحمد باشا كمال وأحدِّد الغرض فأقول:
إن اللغة التي تسود سيادة تامة في قطر من الأقطار ثلاثة عشر قرناً لا تكون لغة أجنبية وإنما تكون لغة قومية. وسيأتي يوم تسمى فيه اللغة العربية باسم آخر هو اللغة المصرية، لأن العرب الأصليين في حوا ضرهم وبواديهم لا يتذوقون اللغة الفصيحة كما يتذوقها المصريون، ولولا مصر لانقرضت لغة العرب منذ أجيال طوال
يا بني آدم من أهل مصر، أسمعوا وعوا إن مصر - لحكمة أرادها الله بالعرب والمسلمين - هي البلد الوحيد الذي انقرضت لغاته القديمة لتحل محل اللغة العربية، وهذا حظ لم تظفر بمثله أمة عربية: فالأقطار الشامية تحيا فيها اللغة السريانية واللغة العبرانية؛ والبلاد العراقية تحيا فيها اللغة البابلية واللغة الكردية، ولغات أُخر يعرفها أهل تلك البلاد؛ والجزيرة العربية تحيا فيها لهجات مختلفات؛ والبلاد المغربية فيها ما تعرفون من لغات متنافرة بعضها قديم وبعضها حديث، والرجل العربي قد يحتاج في تلك البلاد إلى ترجمان
وقد عصفت عصور الظلمات بلغة القرآن في كثير من الممالك العربية، فاضطرت بغداد وكانت عروس العروبة إلى أن تتكلم اللغة الفارسية بضعة قرون، ثم قهرها الظلم بعد ذلك على أن تتكلم اللغة التركية زمناً غير قليل؛ والشام في مختلف أقطاره تعرض كارهاً لأمثال تلك الخطوب. ومع هذا لطف الله بمصر فظلت موئل اللغة العربية، وكانت المساجد في القاهرة وفي سائر الحواضر المصرية مدارس جامعة لنشر علوم اللغة والدين، وما يزال الناس يذكرون كيف حفظ الأزهر الشريف مخلفات الفُرس والهنود والعراقيين والشوام والمغاربة والأندلسيين في ميادين المعقول والمنقول
فالذين يهمسون بأن اللغة العربية في مصر لغة أجنبية هم قوم مجرمون يستأهلون التأديب وكيف تكون لغة أجنبية وقد تغلغلت في دمائنا وأرواحنا نحو ثلاثة عشر قرناً، وكنا الدرَّع التي تصد ما يوجه إليها من سهام ونبال؟
إن اللغة العربية في مصر أرسخ من اللغة الفرنسية في فرنسا ومن اللغة الإنجليزية في إنجلترا ومن اللغة الألمانية في ألمانيا، لأن تلك اللغات بصورتها الراهنة لم تعش في بلادها ربع المدة التي عاشتها اللغة العربية في بلادنا، والفرق بيننا وبينهم أنهم سلموا من الدسائس وابتلينا نحن بالدسائس
وهل يستطيع شاعر مثل فيكتور هوجو أن يجد في أجداده من تكلم اللغة الفرنسية كما يجد حافظ إبراهيم من أجداده من تكلم اللغة العربية؟
وأين كانت اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية في الوقت الذي ظهرت فيه أشعار أبي تمام والبحتري، وأبن الرومي، والشريف الرضي باللغة العربية؟
وهل في الدنيا لغة عاصرت القرآن وبقيت مفهومة لأهلها على نحو ما يفهم القرآن في جميع البيئات العربية؟
إن مصر هي التي حفظت لغة القرآن بلا جدال ولا نزاع، فمن العار أن يوجد في أبنائها من يقول إنها لغة أجنبية
ومن أعجب العجب أن تحفظ لنا الأمم العربية هذا الفضل، ثم نتنكر نحن لهذا الفضل!
من اعجب العجب أن تذكرنا الأمم العربية بماضينا في خدمة اللغة العربية، ثم يكون فينا من يقول بأن اللغة العربية في مصر لغة أجنبية
فما هي لغتنا إذن؟
إن اللغات المصرية القديمة لن تعود أبداً، ولو أنفقنا في سبيلها غاليات الأنفس والأموال، فهل ترون أن نتكلم بعض اللغات الأوربية، وهي أجنبية أجنبية أجنبية؟
وهل يدعو إلى هذا الرأي غير مخلوق جهول لا يعرف ما تعيش به الأمم من المقومات الذاتية؟
إن مصر ستحتفل بعد قليل بالعيد الألفي للقاهرة، فهل تستطيع مدينة في الشرق أن تقول إنها أدت للدراسات العربية والإسلامية ما أدت القاهرة؟
هل تستطيع مكة وهي مهد اللغة العربية أن تقول إنها تنافس القاهرة في ماضيها اللغوي والأدبي؟
وهل طبع المصحف في مكة بقدر ما طبع في القاهرة؟
وهل أذيعت تفاسير القران في أي بلد عربي بقدر ما أذيعت في القاهرة؟
وهل نشرت عيون المؤلفات العربة إلا بفضل مطابع القاهرة؟ وهل عرف التسامح في درس المذاهب الإسلامية كما عرف في القاهرة؟
احفظوا نعمة الله عليكم، يا أهل مصر، وكونوا عند ظن الأمم العربية بوطنكم المحبوب
ولنفرض أن العامية هي لغة المصريين وأنها ترجع إلى عهد سبق الإسلام هو عهد الهكسوس كما قال بعض المبشرين، فما عسى أن تكون تلك العامية المصرية؟ أليست لغة عربية فصيحة المفردات لا ينقصها غير الإعراب وهو ليس شرطاً أساسياً في الإفصاح؟
أنا لا أسمي هذه اللغة عامية، وإنما أسميها لغة التخاطب ولكل أمة في الدنيا لغتان: لغة تخاطب ولغة إنشاء ومن حدثكم أن أمثال الإنجليز والفرنسي والطليان والألمان يتكلمون كما يكتبون فاعرفوا أنه غافل جهول
وكيف تصح تلك الدعوى العريضة وقد عرف كل من عاش في البلاد الأوربية أن العوام لهم لغة سهلة بسيطة لا تقاس إلى لغة من يحيون في البيئات العلمية والأدبية؟
فمن كان في ريب من ذلك فليشهد بعض الأفلام الفرنسية التي تمثل لهجات الصناع والعمال أو تصور مناحي التعبير عند أهل الشمال أو أهل الجنوب، فإن فعل فسيعرف أن لغة التخاطب تختلف قليلاً أو كثيراً عن لغة الخطابة ولغة الإنشاء
إننا نعرف أن العصر العباسي كان عصر ازدهار اللغة العربية في العصور الماضية، فهل تظنون أن عامة الناس في البصرة والكوفة وبغداد كانوا يتكلمون كما يتكلم المبرد والجاحظ ومسلم ابن الوليد؟
إن في أدباء فرنسا لهذا العهد من يشكك في قدرة جمهور الأدباء هناك على التعبير الأصيل باللغة الفرنسية، ولأحد مؤلفيهم كتاب أسماه:
فهل يكون معنى ذلك أن اللغة الفرنسية خفيت أصولها على أدباء باريس وليون؟
أم يكون معناه أن الغيرة على اللغة تثور في صدور الأدباء من حين إلى حين بسبب التسامح الذي يشهدونه في تعابير بعض الكتاب كما فعل عبد القاهر الجرجاني في مقدمة دلائل الإعجاز حين رأى ما يشبه ذلك عند كتاب القرن الخامس؟
إن الناس عندنا لا يفرقون بين الحالات التي يختلف فيها بعض الكتاب عن بعض، وهم يظنون أن كل إنشاء يخالف إنشاء الجاحظ أو ابن العميد هو من شواهد انحطاط اللغة العربية؛ وهم يتوهمون أننا تفردنا بين الأمم بالحيرة بين لغتين: إحداهما لغة التخاطب والثانية لغة الإنشاء
ولو كان ذلك المتخرج في كلية الآداب قد تخرج في قسم اللغة العربية لا في قسم التاريخ لعرف أن الجاحظ على فضله نص على أن هناك مواطن لا يجوز فيها التعبير بغير اللغة العامية، وهذا يشهد بأن حياة اللغة العامية ليست نذيراً للغة الفصيحة بالهلاك، فالذوق يوجب أن يكون لكل مقام مقال وألا نحدث العوام كما نحدث الخواص
وهل كان أهل مكة والمدينة يتكلمون فيما بينهم بنفس الأسلوب المعروف في القرآن والحديث؟
إن القرآن نزل على العرب بلسان عربي مبين، ومع ذلك لا يمكن القول بأن العرب لذلك العهد كانوا يعبرون عن ذوات أنفسهم في شؤونهم اليومية والمعاشية بنفس الأسلوب الذي عبر به القرآن عن الشؤون الدينية والدنيوية
فكيف يطلب منا أن نتكلم كما يتكلم شعراؤنا وخطباؤنا في جميع الشؤون، وألا قيل إننا خوارج على اللغة العربية؟
وهل يطلب من تجار الغورية بالقاهرة أو تجار الشورجة في بغداد أو تجار الحميدية في دمشق أن يتكلموا كما يتكلم علماء مصر والشام والعراق؟
وهل يتكلم سكان محلة بِلْ فيل في باريس كما يتكلم أساتذة السوربون؟
أنا أعرف أن أستاذنا برونو كان يوصينا بأن نستمع إلى محاورات العوام في المترو، ولكن لهذه الوصية مدلول آخر، فهو كان يريد النص على أن لغة التخاطب فيها مرونة قد لا توجد في لغة الإنشاء، وأن من العقل أن ننتفع بتلك المرونة في بعض المقامات لأن انصراف العوام عن الزخرف والتنميق أعطى لغتهم خصائص من السهولة والوضوح، وهما من أهم عناصر البيان
وأؤكد للقراء أن الفرنسي الذي ينتقل من الشمال إلى الجنوب قد يجد من اختلاف الألفاظ والتعابير ما لا يجده العربي حين ينتقل من مصر إلى العراق
فكيف يجوز لبعض الناس أن يوهم القراء بأن العرب تبلبلت ألسنتهم وأن التفاهم بين خواصهم وعوامهم صار من المعضلات؟
إنه لا مفر من الاعتراف بأن اللغات العامية لها مكان في كل أرض، لأنها لغات بسيطة سهل تؤدي الأغراض اليومية في المعاملات. ولو فرضنا اللغة الفصيحة على جميع الناس لكان ذلك ضرباً من الإرهاق. . . ولا خطر على العرب من أن تكون لهم لهجات عامية تقترب أو تبتعد وفقاً للظروف الجغرافية، ولكن الخطر كل الخطر هو في جعل اللهجات المحلية أصولاً ثابتة يتدارسها العلماء ليعطوها من السلطة الأدبية ما يمكنها من الانفصال عن اللغة الفصيحة بعد جيل أو جيلين، كما يصنع الأستاذ فلان الذي يعد نفسه ليكون (أصمعي) اللهجة المصرية في هذا الزمان! وماذا يقول فلان وفلان وفلان إذا حدثتهم بأن اللهجات المحلية في البلاد العربية أصبحت تقترب من اللغة الفصيحة بسرعة عجيبة لم تكن تخطر في البال بسبب انتشار الصحافة والتأليف؟
إن العوام في جميع البلاد العربية يقرءون الجرائد والمجلات ويفهمون مغازيها ومراميها بلا صعوبة، وشاهد ذلك يعرفه أصحاب المجلات المصرية الذين يشهدون بأن قراءهم في خارج مصر يعدون بالألوف
فهل يمر ذلك بلا تأثير في تطور اللهجات المحلية؟
شرقّوا قليلاً أيها المصريون لتدركوا فضل اللغة الفصيحة في نشر معارفكم بأقطار الشرق، ولتروا كيف يعتز الرجل المصري حين يرى له إخواناً يفهمون عنه في أقطار تفصلها عنه البحار والصحارى والجبال
أنتم لا تعرفون قيمة الحرص على وحدة اللغة العربية، ولا تدركون قيمة النعمة التي خصكم بها الله حين جعلكم حَفَظَة التراث العربي، ولو عرفتم ذلك لأفضيتم حلل الثناء على من ينشدون أخوتكم من أهل الشرق، ويذكَرونكم في كل يوم بأنهم إخوانكم الأقربون وإن بعدت الدار، وشطَّ المزار
إن الأديب الذي طويت اسمه حفظاً لسمعته ينسى أن المزية الصحيحة التي رفعته مكاناً عليَّاً بين زملائه هي قدرته على مخاطبة الجماهير بلغة مصونة من اللحن والتحريف، فإن أصر على معاداة اللغة الفصيحة فليجرب حظه بطريقة عملية، ثم لينظر كيف تميد الأرض تحت قدميه
أما بعد فهل ينتهي صديقنا الأستاذ أحمد أمين؟
هل يدرك أن شبان اليوم يعانون أزمة خطيرة بسبب الدسائس التي يصوبها المستمرون والمبشرون إلى صدر اللغة العربية، وإن واجب الأساتذة بكلية الآداب هو حماية أولئك الشبان من تلك السموم الفواتك؟ هل يعرف أن فرنسا على عظمة إيمانها بسيطرة لغتها الفصيحة سيطرة قاهرة تحسب ألف حساب بخطر اللهجات المحلية وتتخوف من انتقاض (البروفانس) وإنها لذلك أعلنت غضبتها الأدبية على الشاعر ميسترال؟
من حق السيد فلان أن يتحذلق كيف شاء فيدّعي أن الأدب العربي لا يستحق الدرس في المدارس الثانوية والعالية، ومن حق السيد فلان أن يقول بأن اللغة العربية لغة أجنبية، ومن حق السيد فلان أن يقول بأن المصريين ليسوا من العرب؛ من حق هؤلاء أن يقولوا ما يشاءون ما دام القانون لا يحرم الاعتداء على اللغة كما يحرم الاعتداء على الدين. . . ولكنا سنريهم أن سيف القلم أمضى من سيف القانون
(للحديث شجون)
زكي مبارك