مجلة الرسالة/العدد 321/خليل مردم بك
→ حول نعيم الجنة | مجلة الرسالة - العدد 321 خليل مردم بك [[مؤلف:|]] |
كتاب الأغاني ← |
بتاريخ: 28 - 08 - 1939 |
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
وصف الفرزدق (الفرزدق واسع المخيلة، حسن الملاحظة، جيد القصص؛ وهذه المزايا أهم عناصر الوصف في الشاعر، وهو أميل إلى الأسلوب القصصي في الوصف. ولو توسع في ما كان يتناوله من المعاني على سبيل التشبيه أو التمثيل أو الإشارة، لو توسع أو خصص، لخلف الأدب العربي صوراً من أروع الصور الشعرية)
ذلك مما قال الأستاذ في الشعر الوصفي الفرزدقي، وقد روى له في هذا الباب أشياء محكمة، وأشار إلى غيرها ذاكراً أماكنها في الديوان. ومما روى له قوله في السفينة:
وراحلةٍ قد عودوني ركوبها ... وما كنت ركاباً لها حين تُرحل
قوائمها أيدي الرجال إذا انتحت ... وتَحمل من فيها قعوداً وتُحمل
إذا ما تلقتها الأواذىّ شقها ... لها جؤجؤ لا يستريح وكلكل
إذا رفعوا فيها الشراع كأنها ... قَلوص نعام أو ظليم شمردل
وقوله في أسد:
وردُ السراة ترى سودا ملاغمه ... مجاهر القرن لا يكتن بالخمر
كأن عينيه والظلماء مسدفة ... على فريسته ناران في حجر
كأن عطارة باتت تَعلّ له ... بالزعفران ذراعي مخدر هصر
وقوله في شجّة يهدد بها جريراً - روى الأستاذ منه تسعة أبيات -:
بعيدة أطراف الصدوع كأنها ... ركيّة لقمان الشبيهة بالدَّحل. . .!
إذا نظر الآسون فيها تقلبت ... حماليقهم من هول أنيابها الثُعل!
إذا ما رأتها الشمس ظل طبيبها ... كمن مات تحت الليل مختلس العقل!
يود لك الأدنون لو مت قبلها ... يرون بها شراً عليك من القتل!
وقوله في الشيب:
تفاريق شيب في السواد لوامع ... وما خير ليل ليس فيه نجوم؟
وأبياته في الذئب مشهورة مستأسدة.
تغزل الفرزدق و (غزل الفرزدق على ما فيه من جفاء اصدق ما قال من الشعر. فهو الذي يكشف عن طبع الفرزدق الجافي ونفسه الماجنة الشرهة إلى اللذة. وهو غزل شهواني غير عفيف فيه فجور ومجون، وعاطفة الفرزدق فيه خشنة. وله غزل يقص فيه حوادثه الغرامية، وقد يصف الحوار الذي يدور بين أشخاص تلك الحوادث، ولاسيما النساء؛ وقصصه الغزلي أشبه بالقصص المروي لامرئ القيس).
وقد أورد الأستاذ أمثلة كثيرة من أقوال الفرزدق تبين أسلوبه في غزله - من ذلك خمسة وعشرون بيتاً - من القصيدة التي مطلعها:
ألا من لشوق أنت بالليل ذاكره ... وإنسان عين ما يغمض عائره؟!
والختام فيما أورده (الكتاب) هو:
فيارب، إن تغفر لنا ليلة النقا ... فكل ذنوبي أنت (يا رب) غافره
ومما روى الأستاذ:
يا أخت ناجية بن سامة، إنني ... أخشى عليك بنىّ إن طلبوا دمي
لو كنت في كبد السماء لحاولت ... كفاي مطلَّعاً إليك بسلم
هل تذكرين إذ الركاب مناخة ... برحالها لرواح أهل الموسم؟
إذ نحن نخبر بالحواجب بيننا ... ما في النفوس ونحن لم نتكلم
ولقد رأيتك في المنام ضجيعتي ... ولثمت من شفتيك أطيب ملثم!
منع الحياةَ من الرجال وطيبها ... حدقٌ تقلبها النساء مراض
وكأن أفئدة الرجال إذا رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض!
وفي (ديوان المعاني) في (ما قيل في شعبان وشهر رمضان وشوال): فمنه قول الفرزدق وأجاد في ذلك:
إذا ما مضى عشرون يوماً تحركت ... أراجيف بالشهر الذي أنا صائمه
وطارت رقاع بالمواعيد بيننا ... لكي يلتقي مظلوم قوم وظالمه
فإن شال شوال تُشل في أكفنا ... كؤوس تعادي العقل حين تسالمه
ومعاني هذه الأبيات كلها مبتكرة لم يسبق إليها الفرزدق.
وإذا لم تكن هذه الأبيات لمن نسبت إليه فمن قائلها؟ وروى البحتري له أبياتاً في الشيب والشباب في حماسته منها:
فلم أر كالشباب متاع دنيا ... ولم أر مثل جدته ثيابا!
ولو أن الشباب يذاب يوماً ... به حجر من الجبلين ذابا!
قال الفرزدق في الأدب والحكمة و (للفرزدق في الأدب والحكمة مقدار من الأبيات يشتمل بعضها على رأي صحيح أو حكمة حسنة، أو قول يتمثل به، وهذا الضرب يمثل الروح العربية في أدبها وحكمتها).
وروى الأستاذ للفرزدق جميع الأبيات الآتية:
لا يعجبنك دنيا أنت تاركها ... كم نالها من أناس ثم قد ذهبوا
يفنى أخوك، فلا تلقى له خلفاً ... والمال بعد ذهاب المال يكتسب
ألم تعلموا يا آل طوعة إنما ... يهيج جليلات الأمور دقيقها
قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
والإناء في طبعات الأغاني والكامل، وطبقات الشعراء للجمحي، والإيجاز والإعجاز للثعالبي. ورواية (الأتي) اقرب إلى الفرزدقية:
فكان كعنز السَّوْء قامت بظلفها ... إلى مدية وسط التراب تثيرها
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
من هنا أخذ صاحب (اللزوميات) القائل:
وأفعلْ بغيرك ما تهواه يفعله ... وأَسمع الناسَ ما تختاره مُسمعه
وأكثرُ الأنسَ مثل الذئب تصحبه ... إذا تبيّن منك الضعفَ أطعمه
وبيت الفرزدق من شواهد الصحاح واللسان والتاج وغيرها.
وفي اللسان: (تقول هذا رجل سوء بالإضافة، وتدخل عليه الألف والآم فتقول: هذا رجل السوء. قال الفرزدق. . .)
فقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى ... كثيراً، ولكن لا تلاقى الخلائق
هذا البيت في ثلاثة أبيات ذكر البغدادي منها أثنين (قال: يونس بن حبيب: أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل؛ وذلك كما قال صديق مولانا القريب، وابن عمته النسيب الفرزدق بن غالب، وقد قيل له: انزل على أبي قطن قبيصة فحسبه ابن مخارق الهلالي، فإذا هو آخر، وذم قراه وجواره فقال:
سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت ... أبا قطن ليس الذي لمخارق
وقد تلتقي. . . و (تلاقي) إما فعل حذفت إحدى النائين تخفيفاً، وفي البيت - والحالة هذه - إكفاء أو إقواء، وإما مصدر سكنت الياء فيه ضرورة، وفي (شرح النهج) لأبن أبي الحديد: (ولكن ميزوا في الخلائق). ورواية الأستاذ المردمي والبغدادي أصح.
وروى الأستاذ لأبي فراس من مقلداته:
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جناً إذا ما نجهل!
قال الأمدي في (الموازنة) - وأني لأنقل قوله على ما بيننا من خصومة قديمة. . . -: (أنكر أبو العباس قول أبي تمام:
رقيق حواشي الحلم لو إن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد
وقال: هذا الذي أضحك الناس منذ سمعوه إلى هذا الوقت. والخطأ في هذا ظاهر، لأني ما علمت أحداً من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة، وإنما يوصف الحلم بالعظم والرجحان والرزانة، كما قال الأخطل:
شُمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
وكما قال الفرزدق: أحلامنا. . . ومثل هذا كثير في أشعارهم. ألا ترى أنهم إذا ذموا الحلم كيف يصفونه بالخفة فيقولون: خفيف الحلم، وقد خف حلمه.
ونسب أبو تمام في الحماسة إلى الفرزدق هذين البيتين:
إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وهما للعلاء بن قرظة خال الفرزدق: (قيل للفرزدق مالك وللشعر فوالله ما كان أبوك غالب شاعراً، ولا كان صعصعة شاعراً. فمن أين لك هذا؟ قال: من قبل خالي. قيل: أي أخوالك؟ قال: خالي العلاء بن قرظة الذي يقول: (إذا ما الدهر. . .؟)
وفي (ديوان الحماسة) في باب الحماسة مقطوعة - ثمانية أبيات - للفرزدق، وأختير له في باب المديح والأضياف: ستة أبيات جيدات. يقول فيها واصفاً قدره التي بعث بها إلى ضيفه: غضوباً كحيزوم النعامة أُحمشت ... بأجواز خشب زال عنها هشيمها
وروى الأستاذ المردمي للفرزدق هذا البيت:
أترجو ربيع أن تجيء صغارها ... بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها
ونسبة أبو تمام في الحماسة إلى شعيث بن عبد الله، والبيت من مقلدات الفرزدق.
وروى أبو تمام في باب الهجاء لفرعان بن الأعرف في أبنه منازل مقطوعة، فيها هذان البيتان:
وربيته حتى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت ... يداك يدا ليث فإنك ضاربه
والبيت الثاني للفرزدق في مقطوعة في أبنه لبطة، وكان من العققة (واستغنى عن المسح شاربه) من بيت في المقطوعة. قالوا: كان فرعان من اللصوص، فهل سرق المقال سرقته المال أو لص الفرزدق اللص. . .
ولم يرو أبو تمام في الحماسة للأخطل شيئاً، وروي لجرير ثلاثة أبيات في رثاء أبنه سوارة، ولا يدل ذلك على أن ليس جرير جريراً ولا الأخطلُ الأخطلَ
يقول الأستاذ: (وللفرزدق ضرب آخر، فيه زهد ونسك وتوبة ووعظ وإقرار بالذنب وزجر للنفس؛ وهذا الضرب يمثل الروح المتأثرة بالدين، وهو في كلا الضربين - في هذا وفي شعره في الأدب والحكمة - يمثل الشاعر الإسلامي في عصر بني أمية عصر العروبة المتأثرة بالإسلام، من ذلك قوله:
ألا كل شيء في يد الله بالغ ... له أجل عن يومه لا يحوَّل
وإن الذي يغتر بالله ضائع ... ولكن سينجي الله من يتوكل
تبين ما يخفى على الناس غيبة ... ليالٍ وأيامٌ على الناس دوَّل
يبين لك الشيء الذي أنت جاهل ... بذلك علام به حين تسأل
وروى الأستاذ لأبي فراس أربعة عشراً بيتاً من قصيدته التي أعلن فيها توبته وهجا إبليس، منها قوله:
وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغي ... رضاه ولا يقتادني بزمام
سأجزيك من سوءات ما كنت سقتني ... إليه جروحاً فيك ذات كِلام! تعيرها في النار والنار تلتقي ... عليك بزقوم لها وضرام!
وقد اغتبط أبو فراس بهذا الهجاء فغدا إلى الإمام الحسن البصري فقال له: إني هجوت إبليس فأسمع. قال: لا حاجة لنا بما تقول، قال: لتسمعن أو لأخرجن فأقول للناس: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس. . .
قال: أسكت، فإنك بلسانه تنطق. . .
قال الأستاذ: (وللفرزدق معان لا تدخل تحت باب من هذه الأبواب ولكنها ذات بال لأنها تلقى نوراً على حياة الفرزدق الخاصة وحياة محيطه) وأشار إلى أشياء من هذه المعاني وروى أبياتاً للفرزدق يشكو فيها إلى الوليد بن عبد الملك جور عامل، منها قوله:
أمير المؤمنين وأنت تشفى ... بعدل يديك أدواء الصدور!
فكيف بعامل يسعى علينا ... يكلفنا الدراهم في البدور!
وأنى بالدراهم وهي منا ... كرافع راحتيه إلى العبور!
فلو سمع الخليفة صوت داع ... ينادي الله هل لي من مجير!
وأصوات النساء مقرنات ... وصبيان لهن على الحجور!
إذن لأجابهن لسان داع ... لدين الله مغضاب نصور!
(يتبع - الإسكندرية)
- * *