مجلة الرسالة/العدد 314/التاريخ في سير أبطاله
→ د. هـ. لورنس | مجلة الرسالة - العدد 314 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 10 - 07 - 1939 |
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولقد ارتخص هؤلاء الساسة من دعاة المدنية الناقمين على أهل الشرق ما كانوا فيه من تأخر، كل كرامة بغية الوصول إلى أغراضهم، وانقلبت عندهم الأوضاع التي تعارف الناس عليها، وشهد التاريخ على مسرح السياسة من المضحكات ما يبكي، ومن المبكيات ما يضحك؛ فلقد عز على هؤلاء السادة الذين راحوا يُدِلون بمدنيتهم ويتطاولون بما فعلوا في سبيل الحرية الإنسان أن يروا أهل مصر ينزعون حقاً من الحرية، ويعملون على الرقي بوطنهم جادين غير متوانين، يتعاونون على الحق ويتناسون ما بينهم من دواعي الخلاف، ويطرحون الأثرة بل ويحرمون على أنفسهم الطيبات حتى يتم لهم ما أرادوا
وذعر هؤلاء الكائدون لمصر الطامعون فيها أن أفاق أهلها على هذا النحو وقد كانوا يظنونهم أمواتاً أو كالأموات، وهالهم أن يروا فريقاً من هؤلاء الفلاحين يستلبون سلطة الخديو تدريجياً ويحاولون أن يضعوا أنفسهم بحيث تكون الأمة وهم نائبون عنها مصدر كل سلطان، وأدركوا أن هذا البعث الذي أفاقت عليه مصر من نومها الطويل هو الصبح الذي يهتك أسدا لهم ويبدد آمالهم، فما ونوا يوماً كما بينا عن محاربة مصر وزعماء مصر ورميهم بكل فاحشة، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً ذلك الرجل الذي خطا نحو الحرية الخطوة الأولى وصرخ في وجه الظلم الصرخة الأولى. . .
ولم ير هؤلاء لوزارة البارودي حسنة واحدة. وكيف كانوا يرون لها حسنة ووجودها في الحكم كان ذاته عندهم أقبح السيئات وأكبر الأوزار، وإنهم ليفترون الكذب عليها وينسبون إليها من السيئات والأخطاء ما ليس لها به من علم
ولكن هذه الوزارة - وتلك عندي أكبر حسناتها - كانت لا تعبأ بما يرجف المبطلون فتمشي إلى غايتها على الشوك وقد عقد أعضاؤها النية على إنقاذ بلادهم من طمع الطامعين وكيد الكائدين، وعلى تعهدها بضروب الإصلاح في شتى مرافقها حتى تقوى فتعز على كل باغ ظلوم من خصومها
وما كان في الوزارة من عوامل الضعف سوى جهل رئيسها وأعضائها باللغات الأوربية، إلا وزير الخارجية مصطفى فهمي باشا؛ ولقد ضم إلى الوزارة ليكون لسانها في الصلة بالأوربيين، ولكنه كان من رجال العهد القديم على حد تعبير مؤرخي الثورة الفرنسية، فلم يكن ينظر إلى الوطنيين نظرة الاحترام والتقدير، وإنما كان يرى فيهم فريقاً من الفلاحين يتطلعون إلى ما ليسوا أهلاً له، شأنه في ذلك شأن الجراكسة وأشباههم من سادات مصر وكبرائها في ذلك العهد. وعلى ذلك فقد كان وجود هذا الرجل في وزارة الخارجية عبئاً يضاف إلى أعباء الوزارة، وذلك أمر لم تفطن إليه إلا بعد فوات الوقت
وفيما عدا ذلك كانت وزارة البارودي وزارة وطنية حقاً تعمل صادقة مؤمنة على تحقيق آمال البلاد والنهوض بها على الرغم مما كان يحيط بها من دسائس وما كان يملأ أسماع رجالها من نباح وعواء
انتهى دور انعقاد مجلس النواب في 26 مارس فقضى بذلك في العمل نحو ثلاثة، أشهر وهي مدة وجيزة كان يشغل بال الأعضاء فيها ترتيب أعمالهم، ولكن المجلس على الرغم من ذلك قسم أعضاءه إلى لجان مختلفة أخذت تتصل بالوزارات وتبحث معها الشؤون العامة التي تهم البلاد، وجدَّ المجلس في دراسة نصوص المعاهدات والمعاقدات العامة والخاصة المبرمة بين الحكومة المصرية والحكومات الأجنبية ورعاياها
وأخذت الوزارات تعد مشروعات الإصلاح المختلفة لعرضها على المجلس في دور انعقاده القادم؛ فكانت تنظر فيما يتطلبه التعليم وتفكر في إنشاء مصرف زراعي ينتشل الفلاحين من وهدتهم، وتعمل على إصلاح المحاكم المختلطة واختصاصاتها كما تناولت قانون الانتخاب وراحت تدرسه لتعد قانوناً جديداً يجعل للمحكومين الرقابة الفعلية على الحاكمين
ولكن حدث أنه كانت كلما تقدمت وزارة في خطى إصلاحاتها ازدادت لهجة الصحف الأوروبية في العيب عليها والطعن فيها، واشتدت وطأة الساسة في نقد أعمالها، وتزايدت دسائسهم من حولها، وعلى رأس هؤلاء كلفن ومالت اللذان أدركا الآن، أو على الأصح وجَها، إلى أن مهمتهما في مصر أصبحت استعجال الحوادث تمهيداً للتدخل العسكري (وقد جد عرابي بنوع خاص في إصلاح نظارته التي كانت في منتهى الفوضى والخراب وذلك ليستعد للطوارئ كلها فأظهر همة فائقة في إصلاح حصون السواحل ونظم احتياطي المدفعية ووزعه على تلك الحصون)
والحقيقة التي لا يمارى فيها إلا المغرضون المبطلون أن البلاد كانت تشيع فيها روح الوطنية الصادقة التي تبرهن على صدقها بالأعمال لا بالأقوال. ولو أنه قدر للوزارة السامية أن تسير على هذا النهج لكان أثرها بعيداً في تاريخ مصر بل وفي تاريخ القرن التاسع عشر كله، فلقد كانت المسألة المصرية تعتبر من كبريات المسائل في ذلك القرن
وليس أدل على وجود الروح الوطنية في مصر يومئذ من هاتين العبارتين اللتين نوردهما في هذا المجال، وأولاهما ما كتبه دي فريسنيه في كتابه (المسألة المصرية) حيث يقول في تعليقه على مجلس النواب واختصاصاته: (إن كتاب ذلك العصر اجتهدوا في أن يسخروا من طلب الذين كانوا يطلبون توسيع اختصاص المجلس، حتى ليخيل إلى الذي يقرأ خطابات بعض الخطباء أن الوطنية المصرية كانت في ذلك الوقت تلفيقاً، وأن وادي النيل لم يكن يحتوي إلا على الفلاحين تحني العصا ظهورهم. فكل ما نرد به على هؤلاء الكتاب والخطباء، هو أن آباءنا كانوا أقل من هذا امتهاناً للوطنية المصرية في عهدهم؛ وذلك أن نوابنا في سنة 1840 لم يترددوا في أن يتكلموا في خطبهم عن الرعاية الواجبة للوطنية المصرية الناشئة. فقد كانت هناك إذاً وطنية مصرية ناشئة تستحق الرعاية في سنة 1840. ولست في هذا مبالغاً، ولا أنا ممن يحبون المبالغة، ولكن لا ريب في أنه كانت توجد في قلوب المصريين من أربعين سنة مضت مطامح كان من الممكن أن تراعي في حدود معتدلة. تلك حقيقة لا تحتمل جدلاً؛ غير أن الذين كانوا يقبضون على خط مصر لم يكونوا يرون في المصريين غير قوم مدينين. فلم يكونوا يعرفون في معاملتهم إلا مصلحة واحدة: هي مصلحة الدائنين الأوربيين التي يجب أن تقدم على ما عداها. وبذلك لم ينتبهوا إلى أن مثابرتهم على اعتبار مصر رهنا، وتدخلهم في شؤونها تدخلاً أدى بحكومتها إلى أن تصير في أيدي الأجانب، كانا قد انتهيا على طول الأيام بأن يجرحا شعور الشعب المصري الذي هو شعب حي مهما يقل القائلون في تعوده الطاعة والخضوع من أجيال).
وأما ثانية العبارتين فهي ما كتبه من باريس سنت هيلير إلى قنصل فرنسا العام في مصر 17 أكتوبر سنة 1881 قال: (ليس من السهل علينا أن نقدر من هنا قوة هذه المطامح الشرعية ولا كيف يمكن إرضاؤها، ولكن هذه المطامح حقيقية إلى أعظم حد، ومبررة من بعض الوجوه إلى أعظم حد أيضاً، فلا يمكن إهمالها ولا يمكن على الخصوص التفكير في خنقها)
من هاتين العبارتين يتبين لنا أنه كان في مصر يومئذ حركة وطنية، فليتدبر ذلك أيضاً من يريد أن يحكم على رجال ذلك العهد وفي مقدمتهم عرابي، وليشفق على أنفسهم الذين يرمون عرابياً ورجاله بالفوضى والجهل والأنانية. ليشفق هؤلاء على أنفسهم فلن يجدر بهم أن يظلوا يجهلون تاريخ هذا الرجل فيحملون الذين يعلمون حقيقة هذا التاريخ على الزراية بهم والاستخفاف بعقولهم، إذ ليس أدعى إلى الاستخفاف بعقل رجل من أن تراه يجهل أمراً من الأمور ثم إذا هو يدلي فيه برأي قاطع في لهجة يتردد في إتباعها الراسخون في العالم. . .
ما كان عرابي طائشاً ولا داعية فوضى، ولكن كان زعيماً مخلصاً يعمل بوحي من وطنيته ويصيب ويخطئ كما يصيب الزعماء غيره ويخطئون كل على قدر ما اجتمع له من الكفاية والمقدرة! والخطأ والصواب من خواص البشر ومردهما إلى العقل وسعته أو ضيقه؛ أما الصدق والإخلاص وما إليهما من صفات الزعامة والبطولة فلا تسامح فيها ولا تهاون، بل لا يصح أن تكون هذه أموراً يجوز فيها التفاوت إذا عقدت المقارنة بين زعيم وزعيم وبين بطل وبطل! وكيف يجوز في عقل أن يكون هناك صدق ونصف صدق وإخلاص ونصف إخلاص؟ إن هذه أمور جلالها وجمالها بل وجوهرها في أن تكون غير قابلة لزيادة أو نقص؛ وعلى الذين لا يزالون يخاصمون عرابياً أن يأتوا بدليل واحد عللا كذبه أو مروقه. أما الخطأ والصواب فليقولوا فيهما ما شاءوا وبيننا وبينهم حوادث هذه الثورة الوطنية على قدر ما وصل إلينا منها ترينا مبلغ ما في مزاعمهم هم من خطأ أو صواب
زار مستر بلنت قبل سفره إلى إنجلترة عرابياً في وزارة الحربية زيارة وداع، ويجدر بنا أن نثبت هنا بعض ما كتبه ماليت عن عرابي في هذه الزيارة قال: (تناقشنا في كل الموضوعات التي كانت محل الكلام في الدوائر الوطنية بما فيها من مشروعات للإصلاح وأمان ومخاوف في الداخل والخارج، وكانت بضعة الأسابيع التي قضاها عرابي في مركزه الجديد قد أنضجته وقوته؛ فناقشني في كل الموضوعات برصانة واعتدال عظيمين سواء في التفكير أو في اللهجة! وقد أكد لي أنه هو وزملاءه الوزراء يرغبون كثيراً في أن يصلوا إلى تفاهم ودي مع الحكومة البريطانية في كل المسائل التي يختلفون فيها مع الوكالة البريطانية في القاهرة، وطلب إلى أن أبلغ رسالته هذه بصفة رسمية إلى غلادستون! وقد شكا شكوى مرة من كلفن وماليت اللذين ظهر مسلكهما العدائي من الخطة التي جريا عليها فيما يختص بتشويه سمعة الوطنيين في الصحف البريطانية وقال لي: (إن السلام لا يمكن أن يوطد في القاهرة ما بقى هذان، وما بقيت علاقتنا مقصورة عليهما، فإننا نعرف أنهما يعملان لإيذائنا سراً أن لم يكن جهراً، وسنقف بمعزل عنهما جميعاً، ولكننا لا نريد أن نختلف مع إنجلترة كرامة لها. دع المستر غلادستون يرسل لنا أيا كان خلافهما لنتفاهم معه ونحن نستقبله بأذرع مفتوحة)
هذا هو جانب من حديث عرابي مع بلنت نضعه تحت أعين اللذين اتهموه بالنزق وعدم التبصر في عواقب الأمور ليقولوا لنا: هل فيه كلمة واحدة في غير موضعها؟ هل يتهدد فيه عرابي الإنجليز، ويتوعد كما كان حرياً أن يفعل لو كان كما وصفه أعداؤه؟ إنه يشكو من كلفن وماليت ويطلب غيرهما حتى يتسنى لمصر أن تتفاهم مع إنجلترا وإنك لتراه بذلك يلقي تبعة اضطراب السياسة الإنجليزية على كاهل هذين الرجلين فيرمي الإنجليز جميعاً رمية ماهرة كيسة في شخصهما، فهو يعلم أنهما يمثلان نيات حكومتهما، ثم هو يفتح الباب بذلك للتفاهم فلا يدع في مسلكه مجالاً لأعدائه؛ كل ذلك دون أن يفرط في حقوق بلاده أو يشتري بها ثمناً قليلاً وهو الذي جعل خصومه الخيانة في أوائل ما اتهموه به
(يتبع)
الخفيف