الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 313/بيلاطس (باشا)

مجلة الرسالة/العدد 313/بيلاطس (باشا)

بتاريخ: 03 - 07 - 1939


للأستاذ عباس محمود العقاد

بيلاطس هو الوالي الروماني الذي حكم البلاد اليهودية من قبل الإمبراطور طيبريوس عشر سنوات ظهر في أثناءها السيد المسيح وسيق إليه متهماً بما نسميه اليوم (الخيانة العظمى) والانتقاض على النظام القائم والدولة الحاكمة. فخشي بيلاطس أن يطلقه وأشفق من الحكم عليه وهو لا يدينه بجريمة، فأسلمه إلى قومه يدينونه بما عندهم من شريعة، ويجزونه بما اصطلحوا عليه من عقاب

وكان بيلاطس رجلاً حاذقاً أريباً ولكنه في بعض الأمور معوج الأساليب معرض للريبة والشكاية إلى (المراجع العليا) كما نقول اليوم

فمن أساليبه أن اليهود ثاروا عليه بتحريض الكهنة والرؤساء فلم يقمعهم بقوة القانون، ولم يرسل عليهم الجند ظاهرين، ولم يحمل أمام الناس وأمام المراجع العليا تبعة القمع والقسوة في علاج هذه الثورة، بل ألبس الجند ثياب الشعب وسلحهم بالمدى والخناجر وأمرهم أن يندسوا في غمار الشعب الهائج فيمنعوا فيه تجريحاً وتقتيلاً حتى يتفرق الجمع وتثوب المدينة إلى السكينة، ولا جناح عليه فيما زعم، فإنما هي مشاجرة جامحة بين يهود ويهود!

أمثال هذه الأساليب مع شيء من الطمع وشيء من الترف هي التي أخافته من اليهود ومن رفعهم أمره إلى عاهل الرومان فأسلمهم السيد المسيح وهو يقول في ضميره كما هو رأيه: يهود في يهود!

هذا هو بيلاطس. فمن أين جاءته الباشوية التركية ولم تظهر لها دولة في أيامه، ولم يكن لها معنى في ذلك العهد معروف؟

لم تجئه الباشوية التركية ولكنها جاءت إلى رجل يشبهه أقرب الشبه في العصر الحديث، وهو حاكم الإقليم المعروف ببحر الجاموس من أقاليم السودان في أعالي النيل، وهو كسائر الحكام هناك إنجليزي صميم لعله لا يحمل اللقب من الترك ولا من المصريين، ولكنه (وال) والوالي هناك لا يكون إلا (باشا) في لسان رعاياه، مجاراة للعرف الذي شاع في تلك الأقاليم النائية منذ سمعوا بالولاة العثمانيين

ولم يكن اسمه بيلاطس ولكنه عرف باسم بريدج، أو قد شاء المؤلف أن يعرفه لنا بهذه التسمية، وقد عالج مسألة كالتي عالجها الوالي الروماني على نحو كالذي انتحاه ذلك السلف القديم، فهو من ثم بيلاطس حديث!

وبيلاطس باشا هو اسم الرواية التي تقص لنا نبأه مع مسيحه عيسى بن النجار، وتشرح لنا من أحوال السودان الأعلى ما يغني عن مطولات في السياحة والتاريخ، وتتمثل لنا بقلم مؤلفها ميكائيل فوسيت صحيحة من وثائق الاستعمار البريطاني في القارة الأفريقية

أول فائدة تستفاد من قراءة هذه الرواية أن يأتي عليها القارئ الذي له معرفة يسيرة بأهل السودان فلا يلبث أن يقول: نعم! هذا يحصل!

ثم يرجع إلى تاريخ السيد المسيح فيرى من الموافقة والمخالفة ما يدله على الجائز وغير الجائز من ذلك التاريخ، ويقول على بصيرة: نعم هذا محتمل الحصول، وهذا لا يقع في الاحتمال

ولا ريب عندنا في أن المؤلف قد جهد بعض الجهد لتقريب الموافقة والمشابهة بين التاريخين

فاسم المهدي السوداني الذي تحدث عنه (عيسى)، واسم أمه (مريم)، واسم الخاطئة التي صبت على رأسه الطيب مريم المغربية، وصناعة الرجل الذي دل عليه الصرافة، وكراماته أو الكرامات المنسوبة إليه شبيهة بمعجزات السيد المسيح، والحوار بينه وبين المدير بريدج كالحوار بين المسيح عليه السلام وبيلاطس، ولأسباب التي أثارت الجمهرة ورجال الدين على مهدي السودان الأعلى هي الأسباب التي أثارت الجمهرة والأحبار على رسول الناصرة، والموعد يوم عيد، وكل شيء متفق متقارب حتى رجاء الشعب من الحاكم أن يطلق لهم نخاساً سفاكاً للدماء كعادته في العفو عن بعض المسجونين في أيام الأعياد

ولكن العجيب من أمر الرواية أن من يجهل تاريخ المسيحية يقرأها فلا يستغربها ولا يشعر بجهد المؤلف في ذلك التقريب والتوفيق لأنها إذا حصلت فأغلب الظن أن تحصل هكذا بغير اختلاف كبير

وقد سمعنا نحن بأنباء مهديين متعددين ظهروا في تلك الأقاليم، وسمعنا عن واحد منهم أباح بعض المحرمات ورفع بعض التكاليف، واحتج لذلك بما شاء من التعلات والتأويلات. ويخيل إلينا أنه هو هذا الذي عناه صاحب الرواية لقربه من مكانها، وقربه كذلك من زمانها، وهو حوالي مقتل (لي ستاك) حاكم السودان، فإن كان في الرواية توفيق مقصود فليست فيها مبالغة ولا شذوذ عن المعقول

على أن القارئ لا يستفيد هذه الفائدة وحدها من قراءة الرواية لأنه يعرف منها أشياء شتى عن أساليب الإنجليز في استعمارهم لأمثال تلك الأرجاء، وسياستهم لأمثال تلك الشعوب، واضطلاعهم بتصريف الأزمات وهم بعيدون عن الرؤساء كلما طرأ من الحوازب ما يدعو إلى تصريف سريع

فالحاكم (بريدج) يعرف العربية معرفة جيدة، وهو ومساعدوه يقرءون تاريخ النوبة وتاريخ الإسلام وسيرة النبي عليه السلام ومذاهب العلماء في الظواهر النفسية والنقائض الاجتماعية، ويتتبعون أخبار الاستعمار في الدول الأخرى فيعتبرون بها أو يقيسون عليها ويأخذون بصوابها ويجتنبون أخطاءها

فإذا شغلوا الناس بالألعاب والمسابقات في المواسم الوطنية أو المواسم الإنجليزية فلعلة يصنعون ذلك لا لمجرد اللهو وتزجية الفراغ. أو كما جاء على لسان واحد منهم وهو يتكلم عن الحاكم: (لقد تعلم مما قرأ عن مجرى الأمور في ميلانيزيا وغيرها من جزائر المحيط الهادي، فإن المبشرين هنالك قد غيروا من عقائد أبناء البلاد، فأعرض هؤلاء عن العراك فيما بينهم وزهدوا في الرقص وليالي السرور، وضعفت في نفوسهم حمية الحياة وشهوة البقاء. إنهم لا يعيشون أو لا يرسلون شعلة الحياة إلى ما بعدهم من الأجيال فهم على وشك الانقراض. وهكذا يحدث هنا فيوشك أن ينقرض القوم أو هم على الأكثر متماسكون لا ينمون مع الأيام. لقد منعنا العراة أن يقتتلوا، ومنعنا العرب أن يغيروا على العراة، فشق على هؤلاء وهؤلاء أن يشغلوا أنفسهم وأن يفثأوا ما في طبائعهم من شوق إلى الصيد والنضال، وفارقتهم حماسة العيش. فهذا الذي جعل الحاكم بريدج مهموماً بإيقاظ تلك الطبائع وتوجيهها بعد تهذيبها إلى حب الرياضة والمغالبة في هذا المضمار.

وجاء على لسان أحدهم: (من هم المسلمون حق الإسلام في زماننا هذا؟! إنهم لنحن نحن طلاب الحقائق العلمية. إنهم لنحن نحن أصحاب الإيمان بالتوحيد الشامل لأبعد الكواكب وأصغر الذرات، وعلى ديننا هذا يدور العمل وتأتي الأعاجيب من اليابان إلى فلباريزو، ومن رأس الرجاء إلى سبتزبرجن، إلى ماوراء هذه وتلك من أرجاء القطبين. نحن نطلب الحق وليس غير الحق نطلب. ونحن لا نتبع نبياً واحداً ولكننا نستقصي كل شيء، ونمحص كل شيء، وننبذ كل باطل، ونرفض كل ضلال)

ومع عناية هؤلاء الحاكمين بالخفايا النفسية في الرعايا الفطريين أو ذوي النصيب المحدود من الحضارة تراهم لا ينسون العناية بإرضاء القوم ومجاراتهم فيما يشتهون مما لا ضرر فيه

فيبعث الزعيم من الزعماء البدويين إلى الحاكم في طلب طبيب يشفيه من عرج مزمن فلا يرده الحاكم ولا ييئسه من الشفاء، بل يكلف خير أطبائه أن يحمل معه الجهاز الكهربائي والبلاسم الضرورية ويزوده بالنصائح التي تنفعه عند الرجل وذويه. . . ثم لا ينسى أن يهمس في أذنه وهو منصرف: ولا تنس أن تأخذ معك شيئاً من عقاقير الباه فإنهم سائلوك عنها لا محالة وفي مقدمتهم المريض!

وإذا حسن لديهم أن يتوخوا مظاهر الهيبة بين المحكومين فليس ذلك بمانعهم أن يحتالوا على تمليقهم ومجاملتهم كأنهم خدم مسخرون في طاعة السادة ذوي الأهواء والبدوات. وهكذا يساس الملك في جميع الأقطار، ولا سيما في أقطار يلخص حاكمها مشاكلها كلها فيقول: إنها تنحصر في مشكلة واحدة وهي: (مسافات الأماكن ومسافات الأحوال)

عباس محمود العقاد