مجلة الرسالة/العدد 312/على هامش الفلسفة
→ ألفريد دي موسيه | مجلة الرسالة - العدد 312 على هامش الفلسفة [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 26 - 06 - 1939 |
مرجع الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
تتمة البحث
رأينا في الكلمة الأخيرة أن الأستاذ العلامة ليفي برهل - يرى في كتابه (الأخلاق وعلم العادات أن الأخلاق ترجع أولاً إلى علم العادات الذي مرجعه استقراء التاريخ وملاحظة الحاضر، ثم يتداخل فيها النظر العقلي لتعديل ما يجب تعديله من الظواهر الأخلاقية والاجتماعية. هذا هو ملخص ما يدعو إليه. فما الرأي فيه؟
لا ريب أن هناك فائدة كبيرة من علم العادات الذي يشير باستيحائه. لأن النظريات والأفكار الأخلاقية التي تعاقبت على الزمن هي وليدة المجتمعات، وإذا ليكن من الواجب دراستها أولاً بالعقل العملي الدقيق. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من هذا أن علم العادات يختلط من الناحية العميقة بالأخلاق بحال من الأحوال
يقفنا التاريخ على أن كثيراً من أرباب الضمائر العالية عورضوا في أيامهم بآراء أخلاقية تقليدية كانت ضد مثلهم العليا، إلا أن المستقبل كان يحكم دائماً لهم، وإذا تكون ضمائرهم الشخصية سبقت الضمير الاجتماعي المستقبل وأعدته لما أرادوا له، وإذاً يكون من الممكن والواقع أن الخلقية تقوم على قتال النظريات الأخلاقية والعادات الاجتماعية التي توجد في زمنها. هاهي ذي أخلاق (بوذا) لم تكن متفقة مع عادات الهند البرهمية في القرن السادس قبل الميلاد، كما لا تتفق الأخلاق التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام مع عادات الأمم والشعوب التي بعثوا فيها ولها.
لا يقول لنا علم العادات كيف نختار عندما تتعارض المثل العليا للثورات الأخلاقية مع الآراء والحقائق الاجتماعية التي توجد معها! لننظر مثلاً للحرب، نجدها تكشف حقيقة اجتماعية لا شك فيها؛ هي تسيطر العواطف والمشاعر الحربية على جميع الشعوب، ومع ذلك لا يرضى أحد أن يرفض مثالاً أعلى هو السلام العالمي متى وجد لذلك سبيلاً. وبعبارة أخرى إن تحقق أية حقيقة ولو اجتماعية لا يلزم المرء بالانحناء أمامها واعتبارها مبدأ أخلاقياً جديراً بالتقدير
وبعد فعلم الاجتماع وعلم العادات من العلوم التي لها قيمتها وجدواها، ولكنهما لا يحلان محل الأخلاق التي تقدر الأعمال وتضع لها قواعد للسير عليها. الاستقراء المطبق على تجارب التاريخ يعلمنا حقيقة ما كان في الماضي وما هو كائن الآن لا ما يجب أن يكون. ذلك أن دراسة ماضي مسألة من المسائل من الوجهة التاريخية كمركز المرأة وحقوقها مثلاً معناه الوقوف على ما كان خاصاً بذلك من نظريات مما يجعل الدارس أكثر صلاحية من غيره لمعرفة ما إذا كان من الخير الاحتفاظ بالحالة الراهنة فيها أو تناولها بالتعديل قليلاً أو كثيراً؛ لكن هذه المعلومات التاريخية والاجتماعية التي أمدّنا بها البحث لا تكتفي وحدها لفرض حلّ حازم سواء أكان حلاً محافظاً أم معدلاً أم ثائراً. هذا حق لا شبهة فيه؛ إذ كيف يمكن تاريخياً معرفة ما يمكن أن يكون في المستقبل! أكبر دروس الماضي أنه مضى لطيته، وأن الحاضر يجب أن يتبعه أيضاً. والأخلاق لا يكفيها هذا بل تسعى كما قلنا لمعرفة ما يجب أن يكون.
وأخيراً، إذا كنا لم نرتض نظرية من النظريات السابقة التي تواردت بشأن الطريقة التي تتبع لتعرف القانون والمثل الأعلى الأخلاقي، فما هو إذا الحل الذي نرضاه؟ هذا الحل هو ختام هذا البحث الذي قد طال وقوفنا عنده
التجربة الأخلاقية
ليست الحياة الأخلاقية إلا مجموع أعمال نفسية واجتماعية خاصة، فمن الممكن أن نقول بتطبيق الطريقة الاستقرائية عليها، ولكن على نحو آخر غير الذي رآه الأستاذ (ليفي برهل). والعقل العلمي لا يتطلب منا أن نلتزم في كل موضوعات البحث طريقة واحدة، إذ يتطلب فقط أن يلائم المرء بين موضوع البحث وطريقته، وأن يعني الأخلاقي بأن يقارب بالقدر الممكن بين الطريقة التي ينتهجها في الأخلاق والطريقة التي يستخدمها العالم في العلوم التجريبية؛ أي أن يصدر عن تجارب واسعة وصدر رحب وروح غير متحيزة لا تدع للخطأ سبيلاً. هكذا عالج العلامة روه) موضوع طريقة الأخلاق في مؤلفيه القيمين، وهما: (التجربة الأخلاقية، ودراسات الأخلاق)
يرى هذا البحاثة أن العالم يقبل كمبدأ لبحثه اكتشافات أسلافه وآراءهم كفروض على الأقل يأخذ في بحثها وتمحيصها بكل ما يملك من وسائل. كذلك الأخلاقي يجب أن يبدأ بحثه من التقاليد فيمحصها ويزنها بما تمده به تجاربه الخاصة والحقائق الدينية التي لا ريب فيها والضمير القادر على الحكم الصحيح. بعض هذه الأفكار التقليدية توسع من قلوبنا وعقولنا، وتبث فينا يقيناً شريفاً وسعادة نبيلة، ونحن بعد تمحيصها لا يسعنا أن نضعها موضع الشك، كما لا يشك العالم في فروض محصها وظهر له صحتها
حقاً يجب السير مما اتفق عليه الأديان ثم من التقاليد؛ فالحياة تولد من الحياة، حياتنا الأخلاقية لم نبتدعها بل جاءتنا من حياة أسلافنا الأخلاقية إلى حدّ ما، فمن الادعاء والعبث الذي لا معنى له أن يهمل باحث كل تجارب الإنسانية الأخلاقية. ومن الغباء أن يزعم أحد قدرته وحده على أن ينشئ أخلاقاً، كما ليس في مكنة أحد أن يبني وحده علم الهندسة أو الطبيعة مثلاً
لكن حذار أن نقتصر على تقاليد البيئة الأسرية أو القومية الخاصة. يجب أن يعنى الباحث الأخلاقي بتقاليد الأمة كلها فيجتهد في تعرف أصولها في زوايا الماضي البعيد والقريب وآثارها في الحاضر؛ ومن ثم يكون لعلم التاريخ فائدته وخطره وخاصة تاريخ الفلسفة والأديان. على أنه ليس للمرء أن يحد نفسه باستشارة المكاتب؛ عليه أن يخالط - مصغياً مستطلعاً باحثاً - المساجد والكنائس وسائر دور الدين بلا تمييز، وألا ينسى المجتمعات المختلفة للأوساط الاجتماعية، بعد هذا يجب أن يبحث ويقارن ويحقق ما جمعه بهذه الوسائل من الآراء والنظريات الأخلاقية المختلفة وأن يستخلص منها ما يكون متماثلاً ومشتركاً، ويختار من بينها الأصلح حينما تتعارض حسب تجار يبه وضميره وفكرة المنزه عن الهوى
بعد هذا أيضاً يجب ألا يكتفي بتقاليد أمته وجنسه، بل يكون واسع الأفق عالمي البحث حتى يصل إلى مبادئ يمكن الحكم بصلاحيتها للجميع. والسياحة بما تهيئ لنا من فرصة تعرف تقاليد الأمم والشعوب المختلفة الدينية والاجتماعية في مواطنها الخاصة يمكن أن تمدنا بهذا البحث الأخلاقي الواسع الدقيق بمبادئ أخلاقية عامة لها قيمتها وخطرها. من أجل هذا يقول أحد الكتاب الإنجليز - بعد ما ساح كثيراً بين أوربا وأمريكا وأقام أخيراً باليابان - ما دمنا معاشر الأوربيين لم نعش إلا في نصف الكرة، فليس لنا إلا أنصاف أفكار وآراء).
وإذاً لكي نصل إلى مبادئ وأحكام صحيحة، يجب أن نسائل هذا وذاك، لا نخص بحثنا بأمة دون أمة ولا بجنس دون جنس، ولا بعصر دون عصر. يجب أن نجمع شهادات كل الضمائر التي لها قيمتها، وأن نبحث لنفهم نفسية الأفاضل والأبطال والحكماء ثم نعمل التحقيق غير المتميز في كل هذا المجموع من الآراء الأخلاقية لنعد بذلك العقيدة الأخلاقية غير المغرضة على طريقة (المروحة) حسب تعبير (روه - نفسه، وإذا يكون القانون والمثال الأعلى الأخلاقي هو نقطة الانتهاء لطرق متعددة متنوعة.
هذه هي الطريقة الحية المنتجة التي أرى أنه باتباعها نصل إلى تقرير حقائق أخلاقية صالحة لكل العقول، وإلى تعرف المثل الأعلى الأخلاقي الذي يقبل من كل الضمائر المستقيمة والإرادات الطيبة في كل البيئات والعصور.
إلى هنا انتهيت مما أردت بحثه، ولم يبق إلا أن أتوجه بالشكر لله تعالى، وإلى حضرة الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)، وحضرات القراء الذين تفضلوا بتشجيعي على جهد المقل برسائلهم وكلماتهم الطيبة. وأخص حضرة الباحث الجليل الأستاذ نصيف المنقبادي الذي لا أجدني أهلاً للثناء الذي وجهه إليّ بعدد (الرسالة) الغراء رقم 303 في ابتداء الكلمة القيمة التي بحث فيها غريزة الخير والشر من الناحية البيولوجية أي من ناحية أصلها ونشأتها وتطورها وذلك غير الناحية التي حاولت بحثها.
وإلى اللقاء بعد العودة من فرنسا إن شاء الله تعالى في أول العام الدراسي الآتي.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين