مجلة الرسالة/العدد 312/ألفريد دي موسيه
→ دراسات إسلامية | مجلة الرسالة - العدد 312 ألفريد دي موسيه [[مؤلف:|]] |
على هامش الفلسفة ← |
بتاريخ: 26 - 06 - 1939 |
بين العبقرية والحب!. . .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
سلك ألفريد دي موسيه في شعره طريقاً ما سلكه أحد قبله. فلقد أذاب أناته عبرات في قصائده وأخرجها للناس، فإذا فيها معان رائعة لا تنفد: تبسم بالذكرى، وتموج بالزفرات، وتنسم بوقد الجوى ساعة، وعطر الهوى ساعات. . .
وإنك لتجد في حياته الخاصة أطاريف كثيرة تتجلى في حبه اللاهب وصباه الفاجر وطفولته اللاهية. فقد كان فتى غرانقاً خلب نساء، ذا شعور من ذهب استرسلت إلى كتفيه. وكان أنيقاً في لباسه، رقيقاً في طباعه، رفيقاً بأصدقائه. حفلت طفولته بالترف والنعيم؛ فقد كان أبوه ذا يسار وسعة، فنشأه تنشئة فيها إدلال ونعومة؛ يلهو في النهار مع ابنة عمه بين الزهر، ويصغي في المساء إلى أحاديث عمه عن نابليون - الذي كان آنئذ قد ملأ الدنيا وشغل الناس - وأقاصيص جده عن الأيام الخوالي، وأعاجيب (ألف ليلة وليلة) و (دون كيشوت)، وغيرها؛ فكان يشعر بلذة عميقة في تخيل تلك العوالم التي تفيض بالحب، وترّف بالبطولة، وتسجو بين السعود والنحوس.
وعشق شاعرنا ابنة عمه، ولما يبلغ الرابعة من عمره؛ وقد كانت تقص عليه تحت الشجر وبين الزهر أحلى الأقاصيص فسألها الزواج ذات يوم، وهو لا يدري من أمره شيئاً. فضحكت منه. وتضطر بعد شهور إلى الرحيل عنه، فيبكي لفراقها، ويحزن لبعدها؛ وتكون هذه الدموع أول ما ذرف الشاعر في سبيل الحب. . .
وكان لهوه وترفه يدفعانه إلى أعمال فيها عبث الطفولة الساخر الذي لا يخشى شيئاً، أو يخاف أحداً؛ فلقد ألقى بكرة البليارد يوماً على مرآة في البهو فحطمها، وعمد إلى نجف الصالة في يوم آخر فمزقها؛ فلم يُسأل عما فعل خشية أن يثور حسه الرهيف فيجهد جسمه النحيف.
ولما التحق شاعرنا بكلية هنري الرابع لقي من رفقائه أذى كثيراً: كانوا يسخرون منه ويهزءون به ويسمونه (بالآنسة) لشعره الأشقر الجعد، ولربطة عنقه الزاهية. فكان يصبر صبراً جميلاً، ويدعهم يلعبون ويمرحون؛ حتى إذا ما أتى الامتحان أراهم الجد كيف يكون، والجوائز كيف تنال!
وما كاد ينهي درس الفلسفة حتى ظهر ميله للأدب، ولكنه كان يريد أن يبرع فيه. كتب ذات مرة إلى صديقه (بول فوشيه) يقول له:
(أنا لا أريد أن أكتب الآن، فإذا كتبت فيجب أن أكون شكسبيراً أو شيلر)
ودرس شاعرنا الحقوق وقليلاً من الطب، وعنى بالرسم والأدب والموسيقى. وتركته أسرته يفعل ما يشاء، فلم يكن بحاجة إلى العمل الذي يدر المال، وكان الزمان أنيقاً والعيش رقيقاً وأهله كما قلنا من ذوي اليسار
واستطاع صديقه (فوشيه) أن يعقد أواصر الصداقة بينه وبين هوغو، وأن يدخله في مجمعه الأدبي فتعرّف هناك على (دفيني) و (دوماس) والنقادة (سانت بوف)
وكان هذا النفر يقضي أمساء الآحاد عند القصصي الكبير (شارل نودييه) مع (لامرتين) و (بلزاك) و (جيرار دي نرفال) العاشق المجنون و (غوتييه) و (دي لا كروا)؛ فكانوا يستمعون إلى أقاصيص (نودييه) ويتناشدون الشعر على حين تجلس ابنة صاحب الدار ماري إلى البيان (ورأسها الجميل الأشقر يلمع كالشقيقة بين سنابل القمح كما يقول موّسيه، وأناملها الناعمة تتنقل هنا وهناك، ونحن نستمع إلى الشعر، أو نجد في الرقص)
وكان موسيه إذ ذاك وضيء الطلعة متلألئ الوجه يخلب الفتيات. حتى ليصفه (بانفيل) بأنه كان (كالإله الشاب الجميل لتجعيد شعره المسترسل إلى كتفيه كأنه الموج الراعش تحت أشعة الشمس)؛ فأخذ يغشى المجالس ويتنقل بين الفتيات، وينظم الأشعار ويكتب أقاصيص أسبانيا وإيطاليا. فردد الناس اسمه، ثم جذبه المسرح نحوه، فإذا بصاحب (الأوديون) يطلب منه مسرحية شديدة الحماسة: فكتب الشاعر (ليلة البندقية) فمثلت (بين الصفير والضجيج) وباءت بفشل عظيم.
على أن هذا الفشل لم يبعد شاعرنا عن المسرح، فلقد كتب بعد ذلك مسرحيات كثيرة أخفق بعضها ونجح بعضها، واستطاع بفضل ذلك أن يصبح مخبراً أدبياً لمجلة (باريس) و (الطان).
ثم نشر أشعاره في مجلة (العالمين). وفي هذه الفترة مات أبوه.
عندئذ عاش فتىً مغامراً يرتاد الملاهي، ويضاحك الحسان، ويعاقر الخندريس. والتقى ذات يوم بجورج صاند، وكانت قد نبه ذكرها، واشتهرت بأقاصيصها ومغامراتها، وصرمت حبال (ساندو) عشيقها. . . فأعجبته وأعجبها، ثم دعته بعد أيام إلى دارها وهناك تعاهدا على أن يبقيا صديقين ويعيشا معاً
وبدأ الحب يشب وينمو، فعاش معها في عالم زاخر بالأماني مائج بالرؤى، فظلّلته بعطفها ووصلها، وأذاقته طعم الوجد والهوى، وأسمعته أغاني الحب فسكر وانتشى، وعاش معها في غيبوبة رف النعيم في جنباتها، وضحكت على حفافيها المنى: قصف، جنون، لهو، شباب، لذة، سكر. تلك كانت حياتهما؛ على أنهما لم يمتعا بهذا كله طويلاً وأتت رحلتهما إلى إيطاليا ليذهب كل شيء. . . وليودعا آمالهما الضاحكات، ويعود الشاعر إلى وطنه ليمعن في البكاء
فلقد أرادت جورج أن تذهب إلى (البندقية) مدينة الحب والشعر؛ فلم ترض أمه عن هذه الرحلة خوفاً على أبنها. فأقسمت لها جورج لتعنين به العناية كلها. وسافر العاشقان إلى البندقية فوصلا إليها في يونية من عام 1843
وكانا لا يزالان في نشوة الحب وفوران الأحلام. فعاشا فيها أياماً لذة كانت آخر أيام الهوى؛ فقد أصابت جورج حمى مذ مرت على البندقية في جيئتها، فعني بها الشاعر؛ ثم مرض ألفريد بعد شهور، فأحضرت له طبيباً اسمه (باجيلّو) أعجبها. . . فتركت موسيه في غرفته مريضاً وتبعت الطبيب، فتخاصم الشاعر وحبيبته وانكب على الخمر يعاقرها لينسى الفاجعة التي أصابت حبه وقلبه، ثم ترك جورج مع الطبيب وعاد إلى باريس وحيداً
لم ينس موسيه في باريس جورج. فكان يمر على مغاني حبهما، ينظر إليها فيذكر ليالي الوصل، فتشجيه الذكرى ويعود إلى نفسه يذرف الدموع، وينظم (الليالي) ويتسلى بالرسائل التي كانت ترسلها إليه وتنصح له أن يحب غيرها، وأن يتذوق الملذات كلها. (ليرتشف قلبك لذات الحياة جميعها. . . ولكن ليؤد رسالته جيداً لتستطيع أن تردد يوماً إذا نظرت إلى الماضي فتقول: لقد تألمت كثيراً وخدعت أحياناً، ولكني ارتشفت وأحببت. . . لقد عشت أنا بنفسي. . . لم أكن شخصاً خلقته كبريائي وأوجده وهمي. . .)
وانكب شاعرنا يكتب ويؤلف، ثم عمد إلى اللذات يرتشفها وإلى الخمور يعاقرها، وهو يتألم ويبكي ويقول: (دع هذا الجرح المقدس. . . دعه يتسع)
(فلا شيء يجعلنا عظماء. . . كالألم الشديد. . .!)
وفي سنة 1848 قبل الشاعر في المجمع العلمي الفرنسي عضواً، وهو في إحدى الحانات. . . على أنه لم ينتفع بالعيش بعد جورج أبداً: فقضى حياته بائسة، وخبت تلك العبقرية الوهاجة وانطفأ ذلك الذكاء المشع، وغاض الجمال الخلاب ومات وله من العمر سبعة وأربعون عاماً وهو يقول:
(وأخيراً. . . أريد أن أنام. . .!)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد