مجلة الرسالة/العدد 312/رسالة النقد
→ البريد لأدبي | مجلة الرسالة - العدد 312 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
في سبيل العربية ← |
بتاريخ: 26 - 06 - 1939 |
مباحث عربية
تأليف الدكتور بشر فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أما المبحث الثالث ففي (المروءة) وقد نشر في الأصل بالفرنسية في (تكملة دائرة المعارف الإسلامية). وفي هذا المبحث يبرز الباحث رجلاً مدققاً عرض للموضوع في إحاطة عجيبة. ولكن الحقيقة رغم كل هذا جانبته. ذلك أن الباحث دخل الموضوع وهو يعتقد أن لفظ المروءة من الألفاظ التي ذهبت بذهاب العصر الجاهلي. والحقيقة أن استعمالات اللفظة في أوضاع متباينة هي التي خلعت على اللفظة معاني متباينة وألقت شيئاً من اللبس على أصلها. على أننا نلاحظ أن اللفظة في الأصل تفيد معنى الفرد الإنساني (الهوامش 10، 11، 12 من المبحث) واتسع معناها من الفرد إلى أن حملت معنى الإنسان الاجتماعي. وشاهد هذا استعمال اللفظة في هذا المعنى في بعض مواضع القرآن وفي بعض ما تنوقل عن العصر الجاهلي من الشعر في أعمال معهد الدراسات الإسلامية بموسكو: م 31 ج 10 ص 914 - 916) ومن هنا أصبحت اللفظة تشتمل على معنى الفضائل الاجتماعية، وأصبحت تدل على معنى الإنسانية في عصرنا الراهن. ونزول المروءة منزلة الفضيلة هو الذي جعلها جامعة كل الفضائل والأخلاق الكريمة. ومن هنا دارت عليها الآداب الجاهلية في م1 ص1 - 40)
فإذا أخذنا هذا موضعاً للنظر لم نجد معنى للإشكالات التي يثيرها الباحث والتي إن أورثت بعض الحيرة فهي لا تقنع الإنسان بوجهة نظر، ولا تجعله يرفض الأصل الذي ذهب إليه (جولد زيهر). ومن الإشكالات التي تصادفنا في هذا البحث ما ينقله الباحث عن العقد الفريد من تساؤل معاوية عن معنى المروءة - ج 1 ص 221 - وهو يستدل بذلك على التباس معنى اللفظة. غير أنه من الملاحظ أن مثل هذه الأسئلة التي ترد في كتب الأدب وفي كتب اللغة منحولة لأغراض واضحة ظاهرة منها، وإذن يكون الاستدلال بهذه الروايات في حدود دائرتها الحقيقية، لا تحميلها وجهاً لا تدل عليه. ثم عندك الروايات التي يأتي بها الباحث محملاً كل رواية دلالة خاصة للفظة (المروءة) التي ترد فيها، وهو بهذا يريد أن يقرر أن معنى المروءة كان ملتبساً على الناس. على أنه لو لاحظنا التفسير الذي قدمناه والذي يسير عليه أعلام الاستشراق في أوربا فإن كل هذه الروايات تتسق معانيها وتتوضح من أصل جامع للفضائل التي تقوم على الصلات بين الفرد والجماعة، والتي يتقوم بمفهوم فضائلها لفظ السيد. وإذا كان الباحث لا يجد غير قول واحد ينزع فيه معنى المروءة إلى السيادة في العربية، فلا أظنه جمع شوارد العربية وأوابدها واستعمالات ألفاظها في كل النصوص التي انتهت إلينا حتى يحكم بهذه الدعوى. هذا ولولا حظنا أن دعوى الباحث تستند إلى أن ابن قتيبة لم يثبت في باب (المروءة) غير وجه واحد تنزع فيه اللفظة لمعنى السيد، فإننا نجد استنتاج الباحث أكثر مما يساعد عليه النص.
ومما يحسن بي الإشارة إليه أن كلمة (المروءة) وردت في اللغة العبرية وهي من أخوات اللغة العربية نازعة فيها لمعنى السيادة (دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91)
والبحث الرابع وقف على (التفرد والتماسك عند العرب) وهو في عمومه مراجعة - فيها نظر - لأقوال المستشرقين. وفي هذا البحث ينكر الدكتور بشر فارس نظرية التفرد المنسوبة للعرب، ويرى للعربي صلات اجتماعية في حدود الحي والقبيلة. وفكرة الباحث وجيهة، ولكن ما رأيه في كون التحاق العربي بقبيلته أو حيه مظهر من الأصل الطوتمي - عند العرب القدماء، والطوتمية مصدرها فردية صرفة؟ (أنظر عن طوتمية العرب 23 وماكلينان 53 - 56 ولنا علم الأنساب العربية ص 12)
ولنا أن نتساءل هنا: هل يرى الباحث أن صلات العربي تتجاوز جماعته ممثلة في الحي أو القبيلة؟ وإذا كان لا يرى ذلك كما يستفاد من مضمون كلامه، فلماذا؟ وإذا كان يرى سبب ذلك - كما يبدو من كلامه - العصبية، فما منشأ العصبية عند العربي؟ سيعود بها الباحث إلى الأسرة، ولكن لماذا تدفع الأسرة العربي للعصبية؟ أليس في ذلك شعور بالانعزال يقوي رأي الذين ينسبون التفرد للعربي؟. . .
والبحث الخامس يتكلم فيه عن (البناء الاجتماعي عند عرب الجاهلية) وهو بحث قيم مستخلص من كتاب الباحث (العرض عند عرب الجاهلية)) ومما نلاحظه على هذا البحث أن الكاتب يقول: (ولا شك أن القبيلة بنو أب واحد من حيث تحتمل تجمع أسر أرومتها واحدة - ص 85 - وهو في هذا الكلام يستند إلى المخصص لابن سيده. ولكنا على الرغم من ذلك نلاحظ جواز أن تكون القبيلة منشؤها اجتماع عدة بطون وأفخاذ من قبائل مختلفة (ابن حزم نقلاً عن الفهرست لابن النديم ج 3 ص 187) والمراجع العربية تروي أن قبائل تنوخ وغسان والعنق تكونت من شتيت البطون التي تناثرت في الصحراء من القبائل العربية التي تفرقت بعد تركها مواطنها في الجنوب (الفهرست ج 3 ص 187 وكذا لنا علم الأنساب العربية ص 13 - 14)
أما المبحث السادس فوقف على (تاريخ لفظة شرف) ومطالعات الباحث في هذا المبحث جديرة بالنظر فيها والتأمل في مواطنها لقيمتها. والبحث السابع والأخير فمن تحقيق في (بعض) الاصطلاحات) وملاحظاته في هذا المبحث قيمة
هذا هو كتاب (مباحث عربية) وهو كتاب فريد في موضوعه وفي نهج بحثه وفي منحى تحقيقه؛ يدل على أن صاحبه صاحب ذهنية علمية متزنة يتصدى للموضوعات على أساس من التقصي للأصول والفروع مع دراية تامة بأساليب البحث. والمآخذ التي أخذها على أهميتها لا تنال من قيمة البحوث ولا من الجهد العلمي المبذول فيه. والواقع أن الدكتور بشر فارس حمّل اللغة العربية بكتابة هذا بحثاً جدياً في مسائل اجتماعية وأخرى لغوية على أساس من التحقيق العلمي ومن الطريقة العلمية الصحيحة. وتنظيم الكتاب يدل على ذوق فني وعلى تمكن من أساليب التنظيم العلمي والأخذ بسبل التبويب الصحيحة، ولا شك أن الدكتور بشر فارس بكتابه هذا شق الطريق للبحث العلمي الجديّ ولو لم يكن له غير هذا الجهد لكفى ذلك التقدير
إسماعيل أحمد أدهم