مجلة الرسالة/العدد 311/كامل الخلعي وناحية الشذوذ في حياته
→ رِسالَة الفَّن | مجلة الرسالة - العدد 311 كامل الخلعي وناحية الشذوذ في حياته [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 19 - 06 - 1939 |
بمناسبة ذكراه الأولى
للأستاذ محمد يوسف دخيل
ينقضي العام الأول على مغادرته الدنيا، ومع ذلك فهو لا يزال مجهولاً، وسيبقى مجهولاً إلى الأمد البعيد؛ لا لأنه كان شخصية تافهة ضئيلة الأثر في نفوس الجماهير، ولا لأنه كان غامضاً يمز على إفهام الناس كشف حقيقته، بل لأنه ظهر في عصر من الغموض والركود، بحيث لا يعني الجماهير بغير مظاهر الحياة وأشباحها البارزة للأبصار المجردة. ولو كانت الحياة الفكرية ذات وضع يمكن أن يحسه الناس في مصر لما مرت عليهم صورة من صور الأحداث الشاذة دون أن يتفهموا ويستكشفوا غامض الشذوذ فيها. وإذن لحفلوا بحياة (كامل الخلعي) لا من الجانب الموسيقي، فحسب، بل من جانب لم يعن به القوم في حياة هذا الفنان: وهو الجانب الفلسفي.
لقد كان (كامل الخلعي) صاحب رسالة خاصة في الفلسفة، لا أدري أكانت في كنهها فوق متناول العقلية المعاصرة، أم أن الناس لم يحفلوا بها عامدين لانصرافهم إلى حياة المادة الهينة بعيدة عن الفكر، وما يحيط الفلسفة من غموض، وما يستلزمه بحثها من تكاليف.
وسواء جهلت الجماهير شخصية (كامل الخلعي) عن عمد أو امتنع عليهم فهم رسالته في الفلسفة، فهو قد غادر الدنيا تشيعه أسراب من سحائب الغموض وثوى في مرقده بين صبابات من مجاملات الأقلام جافة الدموع
كان (الغموض) هو شعار الفلسفة التي انطبعت بها حياة (كامل الخلعي) ولذلك ظل الناس يجهلون حقيقته حتى أقرب الناس إلى نفسه. وقد كان مسرفاً في الحرص على أن تفيض روحه الفلسفية على كل مجهول. وفي هذا المنحى الدقيق تلمس الإيمان الصحيح في عقيدة (كامل) وتحس تمكن الدين من نفسه لأنه رغب عن متاع الدنيا واستطاب أن يجوع ليختفي عن سمعه صوت الجياع حتى لا يثير عواطفه توجع الغير وآلامه. فيكون من الأمور العادية عنده أن يدفع بكل ما في جيبه لمستجد شعر بمرارة حاجته. ثم يعود إلى بيته ماشياً على قدميه، وليس عند أولاده طعام اليوم، وكلما نازعه الإحساس بالندم أمام عسرته لتفريطه في قوت أولاده تذرع بقوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) استطاع (كامل الخلعي) أن يفهم الدنيا فهماً صحيحاً في دقة وإمعان، واستطاع أن يستوعب المجتمع ويتفهم نواحي التقارب والتباعد من حياة الأفراد في بيئاتهم المختلفة، وأن يندمج في الجماعات اندماجاً كاملاً. ومع ذلك لم تستأثر به بيئة دون أخرى، لأن العقلية الشاذة التي تهيأت لهذا الفنان العبقري كفلت له أن يهتضم البيئات دون أن تجتذبه إلى صميمها واحدة منها، ولهذا كان له عديد من الشخصيات التي لو وجد صاحبها في غير مصر لانصرف لدراستها علماء النفس والفلاسفة
إذا أثيرت في مجلس ذكرى (كامل الخلعي) انطلق المتحدثون في تناول ذكراه بشتى أنواع الحديث وليس فيهم من يضع إصبعه على نقطة الصواب من أحاديث المجلس. . . وأغلب ما يجتمع عنده حديثهم أن الرجل كان مخبول العقل! وهي كلمة طالما ترامت إلى سمع (كامل) وهو حي يرزق، فكان يبتسم لها في اطمئنان غير مبال بما يذهب إليه الناس في شأنه من مذاهب. ذلك لأنهم ما كانوا يجدون لأنفسهم مخرجاً من التفكير في عقلية (كامل الخلعي) إلا أنه مخبول ذلك الذي يطوف الحارات والأزقة باحثاً عن الكلاب الضالة والقطط المشردة ليدفع إليها من الطعام ما يباعد بينها وبين الجوع
استقبل كامل الدنيا طفلاً لعوباً كما يستقبلها أترابه من أبناء الذوات والمترفين. ولكنه لم يلبث أن اصطدم بأول حادث هز عواطفه البكر في مستهل حياته. لم يكن قد تجاوز الخامسة حين بدت نذر الثورة العرابية، وكان والده يومئذ من ضباط الجيش المقيمين بالإسكندرية. ففي ساعة واحدة صدرت الأوامر بتأهب الجيش، ولم يجد الضابط الباسل فرصة لتوديع ولده الطفل واكتفى بأن بعث إلى منزله (بكوم الشقافة) من نقل زوجه وطفلها الصبي سريعاً إلى دمنهور مستقر العائلة. والطفل المبكر في نموه العقلي يستطيع أن يحس هذا الموقف كما أحسه (كامل) إذ أدرك أن والده الضابط قد لا يعود إليه لأن القتال قد بلغ حماسته بين المصريين والإنجليز. ولم يشك كامل في أن والده قد لقي مصرعه في خط النار عند كفر الدوار، ولكن مفاجأة أخرى اصطدمت بها أعصابه الغضة بعد انتقال ميدان القتال إلى التل الكبير وبعد عام كامل فإذا بالضابط يعود إلى أسرته حياً بعد أن أدى في سبيل الوطن واجبه، وأن انتهت الحرب على غير ما يبغي الأحرار
وبالرغم من أن (كاملاً) قد استعاد الحياة في كنف والده بعد يأس من لقائه، إلا أن الحادث لم يغادر ذاكرته ولم يزايل الأثر أعصابه، بل بقيت ذكرى هذا الألم متغلغلة في نفسه وصدره فحولته إلى مخلوق كثير الدموع دقيق الإحساس رقيق الشعور بكل ما يحيط به من ألم وسرور، يبكي لبكاء الباكين ويفرح لسرور الفرحين
وفي القاهرة بدأت المرحلة الأولى لشخصية (كامل) إذ كانت المدرسة أول تجربة أظهرت النزوع المرتكز في عقليته، وهو عصيانه لكل نظام يحد من الحرية وإن أوجبت هذا النظام طبيعة الوجود. وقد جنت هذه النزعة على (كامل) في حياته ومستقبله إذ قطعت عليه طريق الدراسة التي يلتمس من ورائها المستقبل المادي في الحياة، فما انتهى من دراسته الابتدائية حتى تمرد على هذا النوع من التعليم المحدود في نطاق البرامج
وصادفته صدمة أخرى أكرهته على التشرد بعيداً عن حضانة الوالدين، إذ تفرق ما بين هذين الوالدين من رباط. فانطلق كامل يضرب في الأرض أفاقاً يلتمس الحرية والتعزي عن فجيعته في حضانة والديه. وعبثاً حاول والده أن يخضعه لطاعته التماساً لدفعه إلى المدرسة يستكمل دراسته. واستقر الفتى بعد ذلك على اختلاس التردد على مكتبة والده في ساعات متقطعة استطاع من ثناياها في مدى عامين أن يقرأ كتاب (العقد الفريد والأغاني) وتاريخ ابن الأثير والجبرتي وطائفة من دواوين شعراء العرب؛ وهو لما يجاوز الخامسة عشرة.
في هذه الفترة كان (كامل الخلعي) يتهيأ لأن يستمع إليه الخاصة مطرباً يحيي موات النفوس ويراه الناس خطاطاً ورساماً قد دق إحساسه بروح الفن. وهو في هذا المجال من الصبا ينطلق بين الجماعات المختلفة: فتارة نراه في مجلس العلماء وأعلام الأدب من طراز (السيد توفيق البكري) نقيب الأشراف يومئذ وقد اصطنع (كاملاً) لنفسه، أميناً لمكتبته؛ وتارة تراه يدارس أساتذة الموسيقى في عصره ويستلهمهم أسرار الفن وأصوله وقواعده
وفي هذا السياق من التخبط في الحياة، انتقل والده إلى ربه بعد أن ضعف بصره ووهنت قواه. فلم يتريث (كامل) في طريقه بل واصل حياته مستهيناً بكل ما اعترضه في جهاده؛ واستطاع بعقله الخصب أن يصل إلى قمة الشهرة عن جدارة، فكان الأديب واللغوي والفقيه والشاعر والخطاط والرسام بل الموسيقي الذي استهوى القلوب، وتزاحم الأعيان وخاصة العلماء والأدباء على التماس الاستئثار به في مجالسهم يحادثهم في الأدب ويطربهم بسحر أغانيه العذاب
لقد نضج (كامل الخلعي) قبل الأوان، وشارك أساتذته في ثروتهم من الأدب وعلم الموسيقى، فلم يكن كثيراً على نبوغه المبكر أن يفاجئ الناس وهو في سن السادسة والعشرين بكتابه (الموسيقى الشرقية) فيأخذ به بين علماء الموسيقى في مصر والشرق مكانة (العالم المتمكن) ولكنه ابن السادسة والعشرين
واستطاع (كامل) أن يتعلم من اللغات التركية والفارسية والإيطالية وأن يجيد الفرنسية إجادة الرسوخ. وهو بعد أن تطاول كتابه (الموسيقى الشرقية) إلى أقطار العالم تترامى إليه رسائل المعجبين من كل صوب، مما أوجد في نفسه الرغبة إلى اقتحام مخاطر الرحلات، فزار الشام وتركيا وإيطاليا وفرنسا وتونس، وقضى في كل منها عدة من السنين اتصل فيها بعلماء الموسيقى وأعلام الأدب حتى اندمجت شهرته بشهرتهم وتبادل معهم كل جديد من الرأي في الموسيقى العربية والإفرنجية
ثم هو يستقر بعد ذلك في مصر أستاذاً كاملاً في علم الموسيقى يرجع إليه المشتغلون بها في كل ما استشكل عليهم من غامض الفن. وهو في نفس الوقت يتهيأ لأن يفاجئ المصريين بنوع لم يتعرفوا إليه في الموسيقى من قبل هو نوع الأوبرا والأوبريت التي أبرز فيها شخصية السيدة منيرة المهدية على المسرح الغنائي لأول مرة في التاريخ سنة 1916 تركز بعدها كيان الأوبرا الغنائية في فن التمثيل
ويواصل (كامل) بعد ذلك جهاده الفني بين المسرح و (جوقات الطرب) بما قدم لفن الغناء من تلاميذه النوابغالذين علا نجمهم وإن تنكروا بعد ذلك في محنته. ولكنهم اليوم أصحاب السمعة والصيت دون أستاذهم المجهول الذي ساهم في وضع أساس الفن ومهد له سبيل الحياة. ثم مات عن خصاصة وعاش تلاميذه في رخاء من تركة أستاذهم الفنية، وهي ليست من القلة بحيث تفقد وجودها وسط هذه الفوضى العابثة من الألحان والأغاني التي يخرج علينا بها مطربو هذه الأيام. فقد تجاوزت تركة (كامل الخلعي) من الألحان الأربعين رواية بين الأوبرا والأوبريت موزعة بين فرقة السيدة منيرة المهدية وشركة ترقية التمثيل العربي (شركة مصر للتمثيل والسينما اليوم) وفرقة الكسار. بل من إنتاج (كامل الخلعي) تزودت أشهر المطربات في مصر فسمون بأغانيه إلى مرتقى مجدهن الذي من عليائه تكونت لبعضهن ثروة تغني مئات من طراز الخلعي الذي مات فقيراً معدماً بعد أن مهد لتلاميذه الطريق إلى الشهرة والثراء. وكان من أشد ما لاقاه (كامل) في أخريات أيامه من مرارة وألم أن مغنية كبيرة ممن لحن لهن (كامل) بلغ بها الشح إلى اغتياله في حق له عندها من ثمن قطعة لحنها لها ربحت منها مئات الجنيهات ضنت عليه بعدها بأجره، وكان من حقه عليها أن تكفيه شر ما لاقى من فقر ومسغبة.
فبقدر ما أسرف (كامل) في العطف على الفقراء والمكدودين وبسط لذي الحاجات كفيهن جحد الناس فضله ونسوا أياديه على الفن وتنكروا لأولاده من بعده. وهو لم يكن يجهل هذا المصير الذي آذنه عند تدهور قواه وسقوطه على فراش الموت، لأنه خبر المجتمع ودرس حياة الجماعات وأمعن في فهم الأخلاق التي تسود القوم من تنكر وجمود وأثرة
كان (كامل الخلعي) مخلوقاً غريب الأطوار في حياته وعقليته. لم يضع كيانه في بيئة خاصة ولم يلتزم جماعة معينة في المجتمع. فبينا تراه نديم العظماء في سهراتم الخاصة وسمرهم الطروب، إذا بك تشهد له في نفس اليوم مجلساً متواضعا بين جوقة من (أولاد البلد) في حي (العشماوي) أو غيره من الأحياء الوطنية في القاهرة، يلقنهم أغانيه الشعبية المرحة التي احتكرها جماعة (الصهبجية) وجوقات الطرب في الأفراح الشعبية. وفي نفس الوقت تكون إحدى درره الفنية ساطعة الضوء على مسرح من مسارح التمثيل الغنائي تجتذب بروعتها لب الجماهير. وقد يلزمه فنه الموحي من روح الطبيعة مجالسه إحدى الطبقات من الشعب لتطبيق أغانيهم على لحن صادفه في رواية مسرحية جديدة وقد عهدت إليه (شركة ترقية التمثيل العربي) يوماً بتلحين رواية (طيف الخيال) وفي الرواية مشهد من مشاهد (الحواة) فدفعة إخلاصه لفنه إلى أن يجوب أحياء القاهرة باحثاً عن أحد الحواة ليشركه معه في وضع اللحن الملائم لهذا المشهد. فكان حظه من التوفيق مطابقاً لما سبق له من نجاح دائم في ألحانه المسرحية
وإذ كانت حياة (كامل الخلعي) الموسيقية قد طغت على قيمته العلمية فحجبت عن الجماهير شخصيته كأديب وعالم خصب، فإنه من غير شك كان ينحو في الحياة منحى فلسفياً أفرد له شخصية شاذة ذهب الناس في تكييفها مذاهب شتى. فلم يوفق باحث من كتاب الاجتماع إلى إبراز شخصية من حيز الغموض والمجهول.
ولقد تناول حديثي عن (كامل الخلعي) مرة مع صديقي الأستاذ أحمد خيري سعيد ناحية شاذة في ميول الرجل ونزعاته الإنسانية، فذكرت لصديقي أنني مرة كنت أرافق (كاملاً) في حي (باب الخلق) وصادفنا صاحب عربة (من عربات النقل) أثقل على حصانه العبء فما كان من (كامل) إلا أن اندفع على الرجل في حالة عصبية ثائرة وأبى إلا اقتياده إلى قسم البوليس! أي جريرة ارتكبها الرجل؟ لقد استعمل القسوة مع الحيوان المسكين وصديقي هذا هو الإنسان الوحيد فيمن اعرفهم الذي وضع الجواب الصحيح لتصوير (كامل الخلعي) في هذا الموقف الشاذ، إذ قرر أن الرجل من غير شك له عقلية فيلسوف ولكن من نوع لا يعيش في هذا الجيل!
هذا هو (كامل الخلعي) الذي كسب من فنه آلاف الجنيهات ومات معدماً إلا عن تركة من الألحان يتناهبها جيل جديد من الملحنين كل مجهودهم أنهم يجيدون نقل الحان (كامل الخلعي) وأغانيه من رواياته القديمة إلى مقطوعات جديدة، ثم هي بعد ذلك ألحان وأغان يكتسب بها ناقلوها ومغنوها أقواتهم ويجمعون ثرواتهم، وأصحاب التركة من أولاد (كامل الخلعي) في عزلة عن الناس وعن الوجود
محمد يوسف دخيل