الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 310/في بلاط الخلفاء

مجلة الرسالة/العدد 310/في بلاط الخلفاء

بتاريخ: 12 - 06 - 1939


بين الشعبي وعبد الملك

للأستاذ علي الجندي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

أقبل الخليفة على رجل جالس بين يديه يرتدي جبة خزّ قد ابيض شعر رأسه ولحيته، وتدلىّ من عنقه صليب ذهب، ورائحة الخمر تنفح من عارضيه! فقال له: ويحك! من أشعر الناس؟ فأجاب الرجل - وفي صوته رنة الزهو والمخيلة والثقة بالنفس - أنا يا أمير المؤمنين

ولم يكد الشعبي يسمع هذه الكلمة حتى تمعّر وجهه ودارت به الأرض، فذهل للمرة الثانية عن آداب السلوك في حضرة الملوك، فصاح بصوت يقطر غيظاً: من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس؟

ما كان أغنى الشعبي عن هذا السؤال لو انه روّى في الأمر قليلاً! ترى من يكون هذا الجالس بين يدي الخليفة جلسة الصديق المدلّ بمكانته غير أمدح مداّح الإسلام، وأدب أدباء النصرانية، ولسان تغلب ابنه وائل ومدره ربيعة، والمنافح عن البيت الأموي وشاعر أمير المؤمنين أبو مالك الأخطل؟

لم يستطع عبد الملك أن يكتم استعجابه من عجلة الشعبي بالسؤال وجهله بشاعره الفذ وجرأته عليه! ولكنه تكلف الحلم ورمى الشعبي بنظرة نفذت إلى أعماقه قائلاً: يا شعبي، هذا شاعرنا الأخطل

وكان ما حدث كافياً أن يرد الشعبي إلى صوابه ويفثأ من غضبه على الأخطل، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فولّى وجهه شطره - زاوياً ما بين عينيه - وهتف: يا أخطل، أشعر منك الذي يقول:

هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُه ... مُقْتَبل الخير سريع التَّمام

للحارث الأكبر والحارث الأصغر والحارث خير الأنام

خمسةٌ آباؤُهم ما هم، هُمُو ... خير من يشرب صوْب الغمام وكأن عبد الملك أعجبته هذه الأبيات فسرى عنه وقال:

ردّدها عليّ. فرددها الشعبي عليه حتى حفظها

نال هذا التحدّي من الأخطل وشعر بالصغار والضعة، فمسح بيده على جبينه المنديّ وقال في غمغمة الضجر: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فمال عبد الملك على أحد جانبيه قائلاً: هذا الشعبي فقيه العراق. فزَم الأخطل بأنفه وأرسل نفساً عميقاً وقال: أمير المؤمنين - حفظه الله - إنما سألني عن أشعر أهل زمانه، ولو قد سألني عن أشعر أهل الجاهلية لكنت حريّاً أن أقول كما قلت

وهمّ الشعبي أن يتكلم فقاطعه عبد الملك بالسؤال عن حاله - وقد شغل بالحوار عن ذلك - فقال: إني بخير يا أمير المؤمنين

ومضى يتأنق في صوغ المعاذير عما كان من خلافه على الحجاج وخروجه مع أبن الأشعث

وكان عبد الملك نبيلاً حقاً فأبتدر قائلاً: مَه يا شعبي فإنا لا نحتاج إلى هذا المنطق، ولست تراه منا في قول ولا فعل حتى نفترق! وأراد أن يزيد في طمأنينته فغير وجهة الحديث قائلاً: ما تقول في النابغة؟ فقال الشعبي: إن عمر بن الخطاب قد حكم له بالسبق في غير موطن على الشعراء. وذلك أنه خرج يوماً - وببابه وفد غطفان - فقال: يا معشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول:

حلفت فلم اترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب

قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:

فأنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:

إلى ابنُ مَحرِّق أعملت رحلي ... وراحلتي وقد هَدِت العيون

أتيتك عارياً، خَلَقٌ ثيابي ... على خوف تّظَنُّ بيَ الظنون

فألفيت الأمانةَ لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون

قالوا: النابغة قال هذا أشعر شعرائكم

ثم أقبل عبد الملك على الأخطل فقال: أتحب أن لك قياضاً بشعرك شعر أحد من العرب، أو تحب أنك قلته؟ قال: لا، والله، إلا أني قد وردت أني قد قلت أبياتاً قالها رجل منا، كان والله مغدف القناع، قليل السَماع، قصير الذراع! قال عبد الملك: وماذا قاله؟ فأنشده الأخطل القصيدة:

إنا محيوك فاسلم أيها الطَّلَل ... وإن بَلِيت وإن طالت بك الطيل

حتى وصل إلى قوله:

قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقبل أن يسمع الشعبي رأي عبد الملك في الشعر، هتف بألأخطل في لهجة المتهكم الساخر: تالله لقد قال القطامي أحسن من هذا! فأدنى عبد الملك تفاحة إلى أنفه فشمها، ثم قال: وماذا قال القطامي؟ فأنشده الشعبي:

طرقت جَنُوبُ رحالَنا من مطرَق ... ما كنت أحسبه قريب المعنَق

ومر في القصيدة إلى قوله:

وإذا يصيبك - والحوادث جّمة - ... حَدثٌ، حداك إلى أخيك الأوثق

ليت الهموم عن الفؤاد تفرقت ... وَحلى التكلم للسان المطلق

فترنح عبد الملك طرباً إلى الشعر وإعجاباً به! وصاح: ثكلت القطامي أمه! هذا - والله - الشعر!

ونظر عبد الملك إلى الأخطل، فإذا هو كالمغشي عليه من الموت فأخذته الحمية لشاعره، وداخلته الشفقة عليه، فقال ينعش نفسه ويشد منها: ما أشعرك يا أخطل حين تقول في وصف الخمر

وتظل تنصفنا بها قرويةٌ ... إبريقُها برقاعه ملثومُ

فإذا تعاورت الأكفُّ زجاجها ... نفحتْ فشمَّ رياحَها المزكوم

لم يخف على الأخطل ما أراده الخليفة، فألقى على وجهه نظرة ملؤها الغبطة والرضاء! ثم عطف على الشعبي - والزهو يعبث بعطفيه - فقال: أسمعت بمثل هذا يا فقيه العراق؟!

فتربع الشعبي في مجلسه، وتنحنح، وأمرّ يده على لحيته إمراراً خفيفاً، ثم صاح في وجه الأخطل: بعض عجبك! فأشعر منك والله الذي يقول:

وأدكنَ عاتقٍ حَجْل رِبَحْل ... صَبَحْت براحه شرباً كراما من اللائى حُمِلن على المطايا ... كريح المسك تستلّ الزكاما

فقال الأخطل: ويحك! ومن يقول هذا؟ قال الشعبي: يقوله شيخك أعشى قيس. فصاح الأخطل كمن أصابه مس: قدوس قدوس!!

ولم يسع عبد الملك إلا أن يحكم للاعشى على الأخطل: إذ هناك بون بعيد بين خمر يشمها المزكوم، وخمر تستلّ منه الزكام! وهنا يشعر الأخطل بالخطر المحدق به ويرى أن ريحه قد لاقت إعصاراً! وأنه رمى من هذا العراقي الدخيل بالداهية النكراء! لقد استطاع أن يسدد إليه سهاماً قاتلة في جلسة واحدة! فما الظن به إذا تطاولت المدة وتراخت الأيام؟! إنه لا محالة سيغلبه على مكانته من الخليفة، وسيسحب عليه ذيل الخمول! فتنبهت في نفسه غريزة المقاومة التي أرهقها طول النضال بينه وبين جرير وغيره في ميدان المهاترة! فورم أنفه وانتفخت أوداجه، وانتفشث لحيته، ودارت عيناه في رأسه كأنهما جذوتان ساعرتان! وفغر فاه يدير فيه لساناً كأنه لسان ثور! واتجه إلى الشعبي هاتفاً بصوت فيه مشابه من هدير البعير المغتلم: اسمع يا شعبي، إن لك فنوناً في الحديث وشجوناً في المحاضرة، وإن لنا طريقاً واحداً لا نحسن غيره، ولست أخالك غير ثانٍ من عنانك حتى تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضاً!!

فعلت هذه الكلمات الناريّة أفاعيلها في الشعبي! فمثله لا ينكر صولة هذا التغلبي الذي لم يتورّع عن هجاء الأنصار! ويعرف أن أبياتاً من هجائه الممضّ الخبيث قد ترمى بقومه من حالق وتجلّلهم عار الأبد! فيكون أشأم همداني على همدان!

ولم يكد يتمثّل الشعبي سوء هذه المغّبة حتى ذابت حماسته فقبع في مكانه كالقنفذ الخشب! وساورته الرعدة من قمة رأسه إلى أخمص قدميّه! فالتفت إلى الأخطل ضارعاً يقول: أقلني هذه المرة يا أبا مالك! ولك عليّ عهد الله وميثاقه ألا أعود لمثلها أبداً!

وأحس الأخطل نشوة الظفر! فقال (ماطَاً صوتَه): ومن يضمن لي ذلك أيها الشيخ؟ فرفع الشعبي إلى عبد الملك عينين منكسرتين متوسلتين قائلاً: أمير المؤمنين

فضحك عبد الملك حتى بدت له سِنّ سوداء كان يسترها! وقال: أنا ضامن يا أخطل ألا يعرض لك بشيء بعد هذا!

فقال الأخطل: وأنا قد صفحت عنه يا أمير المؤمنين! وأراد عبد الملك أن يصل ما أنقطع من الحديث فقال: يا شعبي أي شعراء الجاهلية أشعر من النساء؟ فقال الشعبي: الخنساء. قال: ولم فضلتها على غيرها؟ قال: لقولها في أخيها صخر:

وقائلةٍ (والنعشُ قد فات خطوَها ... لتدركه): يا لهف نفسي على صخرِ

ألا ثكلت أمُّ الذين غدوْا به ... إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر؟!

فقال عبد الملك: أشعر منها - والله - ليلى الأخيلية حيث تقول في توبة:

مهفهف الكَشْح والسربال مُنْخرق ... عنه القميصُ لسير الليل مُحتقِر

لا يأمن الناس مُمْساه ومُصْبحه ... في كل حيّ (وإن لم يَغْزُ) يُنتظر

كان لكلام عبد الملك أثر عميق في نفس الشعبي، فانخزل انخزالاً شديداً وكسف باله! لقد انتصر على شاعر الخليفة ولكن الخليفة لم يعتّم أن أخذ له بالثأر المنيم! وقرأ عبد الملك في وجه الشعبي ما يعتلج في صدره من ألم برح! فقال: يا شعبي لعله قد شق عليك ما سمعت! فقال: إي والله أشدّ المشقة! إنني لم أفدك إلا أبيات النابغة (هذا غلام حسن وجهه. . .) وقد أفدتني أفضل منها

فقال عبد الملك: يا شعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق منهم!

ثم جعل عبد الملك يردد على الشعبي أبيات ليلى حتى حفظها، فألقى المخصرة من يده - وهي إمارة الإذن بالانصراف - فنهض الشعبي مودعاً

وخطر لعبد الملك أن ينتفع (بدبلوماسية) الشعبي، فأوفده إلى ملك الروم. قال الشعبي: فلما دخلت عليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة فأمسكني عنده أياماً. فحين أردت الانصراف قال لي: أمن بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكنني رجل من العرب. . . فدفع إلي رقعة خاصة وقال: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فسلمها إليه. فلما رجعت إلى عبد الملك، دفعت إليه الرسائل ونسيت الرقعة، ثم تذكرت بعد خروجي من الباب فكررت راجعاً ودفعتها إليه. فقال لي: هل قال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، سألني: أمن بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا، ولكنني من العرب. ثم خرجت فما وصلت الباب حتى ردني إليه فقال: أتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا. فنبذها إليّ وقال: اقرأها. فقرأتها؛ فإذا فيها: عجبت لقوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره؟! فاحتدمت غيظاً، وصحت مرتجفاً: يا أمير المؤمنين، والله لو علمت ما فيها ما حملتها! وإنما قال هذا، لأنه لم ير أمير المؤمنين! فضحك عبد الملك وقال: أتدري لم كتبها؟ قلت: لا. قال: حسدني عليك فأراد أن يغريني بقتلك! ولكن خاب فأله! فاذهب لا بأس عليك!

وقد نبل الشعبي في عبد الملك وجلت مكانته، فبالغ في إكرامه وتقريبه منه، حتى كان أول من يدخل إليه وآخر من يفارقه! وصفوة القول: أن الشعبي في دولة عبد الملك هو الأصمعي في دولة الرشيد.

علي الجندي