مجلة الرسالة/العدد 31/حبيشة
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 31 حبيشة [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 05 - 02 - 1934 |
- 1 -
عذراء، فاتنة، ناطقة الملامح، تبسم عن ثغر نقي مؤشر. فوهاء ولكن جمالها في ذلك الفوه. حوراء، تتراءى نفسها اللطيفة رقصة في عينيها، ما تلقى عليها نظرة إلا ثبتت في قلبك بصورتها المرحة، وبسمتها الوادعة، مأنقة في ملبسها من غير تبرج، متألقة في خفرها بلا تكلف،
وكانت فتاتنا في ريعان شبابها، بدأ عودها يثمر، وأخذت حركتها تنتظم، ونظرتها تستقر ونغمتها تلين. قضت أيام طفولتها ترعى البهم، وكانت محبوبة من لداتها وصواحبها، مشهورة المواهب بينهم، يتهافتون على صحبتها ويجمعون على مودتها، ويقنعون منها بكلمة طيبة أو بسمة عذبة. وكان لابد للطفولة من نهاية، وقعدت في بيتها تاركة رعيتها للصغار من اخوتها وابتدأت حياة جديدة.
- 2 -
أنبأت (عبد الله) أمه برغبتها في زيارة بيت من حيها. وكان غلاما يفعه، فاستبان وجهتها وإذا به بيت (حبيشة) رفيقة صباه فوثبت صورتها توا إلى مخيلته، وبدا وجهها الطلق يناديه وصوتها العذب يناغيه. فدعاها لأن تتريث حتى يمضي معها، ليكسر عنها كلاب الحي الضارية وأكبرت الأم شهامة فتاها، وحستها عاطفة حقاً لأمومتها. فرجل جمته، وطيب ثيابه، ومشى يختال كالطاووس، ويترنح كالعروس، ومن مثله سيقدم على وجه صبيح طالما انتظر لحظات رؤيته؟ والآن قد أمكنته الفرصة. نعم سيراها، وفي بيتها، وتحت رقبة أهلها، ويشبع نفسه من حسنها فيروي قفره، ويبل صداه.
دخل عليها، وشد على يديها، ونظر نظرة فيها، فإذا هي غيرها بالأمس، جمال يتولد ومحاسن لا تنفد.
تحمل الفتى بسهامها، وخرج من دارها، تحدثه أمه فيغمغم، يهيم في مهامه فكره، قد أطرق برأسه وشرق بنفسه، وبعد حين زفر كالمهجور، وانتظمت أنفاسه كلمات خافتة خاشعة.
وما أدري، بلى إني لأدري ... أصوب القطر أحسن أم حبيش؟
حبيشة والذي خلق الهدايا ... وما عن بعدها للصب ع سمعته أمه، وفطنت لدائه، ولكنها تغافلت عن همه، ومشيا يلفهما الصمت، حتى اعترضهما ظبي نعطو إلى سلمة فوق رابية، رآه مقدودا كتمثال، ولمح في جيده وعينه ليلاه، فانطلق لسانه من عقاله، وجهر بصوته:
يا أمتا! أخبريني غير كاذبة ... وما يريد مسول الحق بالكذب؟
أتلك أحسن أم ظبي برابية؟ ... لا، بل حبيشة في ظني وفي أرب
وماذا تخبره أمه؟ صبت عليه ذنوبا من الملامة، وقرعته على خوره واستخذائه، وحذرته أن يتمادى في عمايته، ثم فكرت في صرف هواه إلى بنت أختها، التي عمدت تزينها، وتبدع في تجميلها علها تقع من قلبه موقعا، ولكن حب حبيشة كان قد واتى والنفس فارغة فاستحكم، وان غابت عنه تركت ربعه خاويا، وقبله وارياً
إذا غيبت عني حبيشة مرة ... من الدهر لم أملك عزاء ولا صبرا
كأن الحشى حر السعير، يحشه ... وقود الغضى والقلب مستعر جمرا
وكان عبد الله ككل الشعراء، وضع قلبه على طرف لسانه، أحب فشبب، ولذ له ذلك، فلقي أهلها منه كل بلاء، وعملوا كيدهم لصرفها عنه، فأرادوها على أن تعده موعدا، وفيه تصارحه بزهادتها فيه، وكراهتها إياه، وهم عن جنب منها يسمعون. فلما أقبل انخرط اللؤلؤ متهالكا، والتفتت حيث أهلها كامنون، ففطن لنظرتها، ورجع من حيث أتى، وقال:
لو قلت ما قالوا لزدت جوى بكم ... على أنه لم يبق ستر ولا صبر
ولم يك حبي عن نوال بذلته ... فيسليني عنه التجهم والهجر
وما أنس م الأشياء لا أنسى دمعها ... ونظرتها حتى يغيبني القبر
وظل على حبه، يقنع باللمحة، ويتعلل بالخيال حتى وقعت الوالقعة.
- 3 -
وجه النبي ﷺ خالد بن الوليد بعد فتح مكة إلى ما حولها من القبائل يدعوهم. إلى الله عز وجل فنزل ببني جذيمة من عامر ولم ينزلوا على رأيه، فأسر من استطاع منهم، وحكم السيف فيهم وكان من أسراه (عبد الله بن علقمة الكناني) صاحب حبيشة، ولما هموا ليقتلوه استوقفهم لحاجة في نفسه وطلب من آسره أن ينزل معه إلى أسفل الوادي، حتى يودع ظعنه، ولما كان منهن قاب قوسين، نادى بأعلى صوته: أسلمي يا حبيش، عند نفاد العيش) فقالت وأقبلت عليه: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء، وشدة البلاء، ولبث معها برهة، تزود منها بقبلة، تقويه على سفره الناصب، وشقته البعيدة، ثم أنشدها
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم مني سوى غلة الصدر
وأنت التي أخليت لحمي من دمي ... وعظمي وأسبلت الدموع على نحري
وبعد أن قضى لبانته، دفع لصاحبه هامته، وكان ما كان.
أحمد أحمد التاجي
دبلوم دار العلوم