الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 31/القصص

مجلة الرسالة/العدد 31/القصص

بتاريخ: 05 - 02 - 1934


إلى خراسان

للأستاذ الرحالة محمد ثابت

من رحلة قام بها الأستاذ عام 1933 إلى تركية والعراق

وإيران وأفغانستان

اعتزمت القيام من (طهران) إلى (خراسان) حيث مقر الإمام الرضى أحد أئمة الشيعة، وضريحه في (مشهد) ثانية مدن فارس، وأولى البلاد المقدسة. . تعد عن طهران مسافة نائية هي فوق مائة وستين فرسخا. والفرسخ - وهو وحده القياس عندهم - نحو ستة كيلومترات، فالمسافة كلها نحو ألف كيلومتر أو تزيد. كان القوم يقطعونها على متون الإبل والبغال والحمير قبيل الحرب الكبرى، فيما بين أربعين يوما وستين، وهي اليوم بالسيارات بين يومين وثلاثة. أخذت مكانا أماميا في سيارة كبيرة من ذوات العجل المزدوج برفقة ركب من الحجاج يناهز الخمسة والعشرين بين رجال ونساء، وشيوخ وشبان، وبدأنا السير ليلاً، وكلهم إيمان صادق لا يبتغون من وراء متاعبهم تلك ونصبهم هذا إلا زيارة قبر الإمام الرضى ومعهم زادهم، أما أنا فكنت أعتمد على المحاط وما فيها من وسائل ساذجة للنوم والطعام، آونة وأخرى كان يصيح القوم قائلين: (لاهم سل آلي مهمد آل مهماد) وأخذنا نمر بالمحاط التي يسميها القوم مسافر خانات أو (كرفان سراي) وهناك نجد أمكنة تحكي الفنادق بها حجرات فقيرة الأثاث، وغذاء بسيط كنا نتزود منه ونأخذ قسطنا من الراحة، ثم نستأنف السير ولم تكن تقوى القوم لتنسيهم ملاذهم، فقد كان الفريق الأكبر منهم يحمل الغلايين لتدخين الأفيون فينتحون جانبا من المكان ويمر الغليون عليهم جميعا , وكان في جواري إلى جانب السائق أحد علماء كربلاء بعمامته السوداء الضخمة، ولحيته المرسلة، وسحنته الناحلة، وكان يتيه على الآخرين بعلمه وبأنه من سلالة هاشمية ومن نسل العلم والعلماء، ولأولئك على الناس حق العطاء ويسمونه هناك (حق الخمس)، يقصدون الأغنياء كلما أعوزهم المال ليأخذوا منهم حقهم هذا لأنهم من السادة سلالة الرسول.

جد السائق في السير على ضوء القمر وقبس مصباحه، فخانه نظره فما نسعر إلا والسيارة تنحدر بنا عن الطريق، وتنزل هوة من دونها واد سحيق، فكادت تنخلع لرجاتها قلوبنا، وصاح الجميع، وارتطم هذا بذاك، وذاك بجانب من السيارة، ثم كانت صدمة عنيفة وفرقعة أصمت آذاننا، وإذا هي صخرة كبيرة ناتئة في منحدر الوادي توقف السيارة قبل أن تنقلب، وقد أصيب من الركاب كثير، ونالني من ذلك شج بين العينين سال منه الدم سيلاً وصدمة شديدة في الركبة اليمنى أحدثت بها كسرا لا أزال أعانيه، فقفزت من السيارة ونمت على الصخر تائها حتى الصباح فرأيت العجلة قد كسرت من أساسها، ولولا لطف الله لكنا اليوم في عالم غير الذي نحن فيه. أمضينا يوما كاملا في تلك البرية المقفرة ولم يكن لدى السائق ومعه بديل عما كسر، وكان قد رجع إلى طهران ثم عاد إلينا وأصلح ما أفسدت غفلته، واستأنفنا سيرنا شاكرين الله ان أنجانا من خطر الموت في بلك الناحية النائية وكم من سيارة خانها الحظ العاثر فهوت وهلك من ركابها الكثير في تلك الطرق الوعرة. ولقد عزا القوم سلامتنا إلى رضى الإمام عنا. وما كدنا نسير بعيداً حتى وفقت السيارة فجأة وتبين أن البنزين قد نفد، ولم يكن لدينا منه شيء، فلبثنا مكاننا حيارى ساخطين جزعين أربع ساعات حتى مرت بنا سيارة أخرى أعارتنا بعض البنزين والسيارات الكبيرة تمر تباعا ذهابا ورجعة في كثرة هائلة، تحمل جماهير الحجاج، ويقولون بان هذا الخط على وعورته أكثر الخطوط حركة في نقل المسافرين لأن (مشهد) خير لديهم من مكة المكرمة تغنيهم عن حج بيت الله الحرام في زعمهم فترى الفاني منهم والفقير المدقع يدخر أجر السفر ليصل إليها ويود لو يموت بها ليدفن في أرضها الطاهرة.

لبثنا نسير وسط الربى وصعدنا منها ما هو بالغ الوعورة في طرق لياتها متعاقبة، وكلها مجدبة عريت عن النبت إلا في بعض بطون من الأودية، حيث كنا نرى سيلا من الماء يتلوى وتقوم القرى على جوانبه بأبنيتها الوطيئة من اللبن والطين، وبعد يوم ونصف دخلنا سهولا غالبها صحراوي وتلك بداءة أرض خراسان.

استوقفت السيارة قليلا في قرية (نيسابور) مثوى رفات (عمر الخيام) الذي عاش في الربع الأخير من القرن الحادي عشر وأوصى ان يدفن في بقعة تظلها الأشجار ويكسوها ورقها الذابل مرتين كل عام. زرت مقبرته وسط الحقول، تظلها حقاً أدواح عالية قديمة، ويزورها من الأجانب خلق كثير لأنه قد خلد له ذكرا بما كتب في رباعياته التي ترجمها الناس إلى جميع اللغات، ولقد أبى عليه علماء الدين تشييد مدفنه لاتهامهم إياه بالزندقة لأنه كان إباحيا في شعره.

عادت الربى فتسلقناها وأشرفنا على (مشهد) وهي في حجر الجبال بعد أن لبثنا في الطريق ثلاثة أيام وأربع ليال كاملات قاسينا خلالها كثيرا. هنا وقف السائق ونبه القوم أن هاهي مشهد فارقبوها تبركا فأخذوا يحاولون رؤية القبة الشريفة وسط الضباب والدخان المنبث وكل من لمح منها قبسا قرأ آيات التبرك وعمد إلى قطع الأحجار يجمعها في كومة، ثم أقبل على السائق يهبه من أنعامه ما تيسر.

دخلنا مشهد تحوطها المزارع والبساتين ثم أخذنا نخترق طرقا فسيحة يحفها الشجر وتقوم عليها المباني الحديثة الوطيئة، وقد كانت من قبل أزقة مختنقة كسائر بلاد فارس، لكن يد الإصلاح تناولتها اليوم على نحو ما فعلت في طهران، وقد استرعى نظري بناء القنصلية البريطانية بعظيم امتداده وهو أثر من آثار النفوذ الإنجليزي الذي كان يسيطر على البلاد بجانب النفوذ الروسي. حتى حدث مرة أن حاول بعض الناس أن يعلو ببناء بيته الملاصق لتلك الدار فمنعه القنصل إذ لا يجوز كشف حرمة الدار الإنجليزية أما اليوم فلا يكاد يكون لذاك النفوذ ظل أبداً.

قصدت زيارة ضريح الإمام الرضى، الذي بدت لنا قبته الذهبية البراقة من أميال، وإذا المسجد والحرم فاخران إلى حد كبير. مداخلهما عدة، الباب تلو أخيه في زخرف جذاب وفن شرقي بديع بالقيشاني والبلور والمرمر والرخام، وأمام كل واجهة رئيسية بهو مربع تحفه الحجرات المزركشة أقيمت لطلاب العلم في طابقين وتتوسطه قناة الماء يغترف منها الجميع للشر والغسل وتنظيف الملابس والأحذية ومآرب أخرى، والباب الرئيسي للضريح مكسو كله بالذهب الخالص في فجوات وتعاريج جذابة، وفوق الضريح قبة مكسوة بالذهب الخالص وللمسجد مئذنتان دقيقتان، عليهما غشاء من ذهب. أما عن العالم المتراص كالموج المرتطم هنا وهناك فحدث في دهشة فائقة. كنت أسيراً ولا أكاد أشق لي طريقا بينهم، ومنهم المثقف أنيق الهندام والمتسول البائس في الخرق البالية والأقذار التي ينبعث منها مكروب المرض فيوشك أن يخترق أجسادنا. هذا إلى العلماء في عباءاتهم وعمائمهم السوداء للشرفاء منهم، والبيضاء لغير الشرفاء يخضبون لحاهم بالحناء جميعاً، ومن زوار الأجانب خلق كثير، عراقيون وهنود وأفغان ومن كافة العالم الإسلامي، وعلى الجدران يرتمي الكثيرون في خمول زائد وجلهم ممن أضناهم المرض وشوه البؤس أجسادهم، ويتوسط أحد الأفنية سبيل مذهب في داخله نافورة حولها السلال تحمل القعاب للمحتسين ويشرف عليهم كهل توقد حوله الشموع صباح مساء وبين آوية وأخرى يمد مغرفة يحرك بها الماء والسعيد من استطاع أن يتذوق هذا الماء الطاهر: أخيرا دخلت الضريح الفضي وإذا المدفن وسط شباك الفضة والذهب ترصعه الجواهر الثمينة وقد أتممت تطوافي حوله في ثلث ساعة كدت أختنق خلالها من كثرة الزحام وهنا رأيت عجباً: نواح وصياح ولطم وتقبيل واستلقاء على الأرض ولمس للأعتاب بالخدود وما إلى ذلك مما تقشعر له الأبدان. هنا أسرع شيخ يطوف بي وناولني أدعية مطبوعة يجب أقرأها وأركع أسجد وأقبل، فأسرعت بالتخلص منه بفضل زميل فارسي عرفته، فخاطب المطوف قائلا بأنني عالم قارئ بكل أولئك، وقد علمت بعدئذ أنني لو رفضت الإذعان للأمر وحدي لظن أني ملحد ولكان ما لا تحمد عقباه، وبجانب الضريح قبر هرون الرشيد غير أنه منبوذ في ناحية غير طاهرة وقد وضعوه بحيث يلمسه الزائرون بأدبارهم عندما يطوفون حول الرضى وذلك احتقارا لشأنه وكثير منهم يلعنه بعد الزيارة ويركله برجله ووجهه مقابل للأمام ويقول (لعن الله المأمون وأباه) وذلك لأنه سني أولاً، ثم لأنه والد المأمون الذي اتهم بدس السم للإمام، وقد سافر الرشيد إلى هناك في حملة ضد أحد الحكام الذين مالأوا بني أمية، فوافته منيته هناك فأوصى بأن يدفن في هذا المكان الذي أقام عليه الاسكندر المقدوني علماً، ونبأ بأنه سيكون مدفن رجل عظيم، ولما جاء المأمون ولى الرضى حاكما على تلك البلاد من قبله، ولما عاد إلى بغداد وتم له الأمر دس للرجل فمات ودفن إلى جوار الرشيد. خرجت إلى الفناء وإذا في كل ركن من أركانه عالم يرتقي منبرا وحوله خلق كثير جلوس على الأرض في وجوم وشبه ذهول وهو يقص عليهم أنباء الإمامين علي والحسين وجميعهم يبكون، وكلما أشار في قوله إلى الفاجعة صاحوا ولطموا جباههم وخدودهم في فرقعة مؤلمة ومنهم الطفل والمراهق والسيدة والعجوز والكهل الفاني والمتفقه والأمي الجاهل، وذاك التبشير يضل سحابة اليوم في جميع أركان الأفنية. ولما أوشك الغروب سمعت من شرفة الباب الأوسط طبولا تقرع في نقرات مثلثة ثم أعقبها صياح وتلا ذلك نفخات في أبواق طويلة مزعجة، وظل هذا حتى غربت الشمس فكأنهم يودعونها كما يفعل المجوس بذاك الذي يدخل الرهبة ويلقي الرعب في القلوب. فقلت في نفسي أهكذا يلعب رؤساء الدين بأذهان البسطاء لا ابتغاء مرضاة الله بل لملء جيوبهم هم وذراريهم الذين لا يحصيهم عد؟ تأخر معيب وتدهور يعطي الأجنبي عن البلاد أسوأ الفكر؛ وحتى تقضي حكمة الشاه على كل أولئك، سيظل هذا حجر عثرة في سبيل تقدم البلاد.

والذي شجع الفرس على اتخاذ (مشهد) كعبة مقدسة، الشاه عباس أكبر ملوك الصفويين هناك وكان عصره ثالث العصور الذهبية في فارس. صرف قومه عن زيارة مكة لكراهتهم للعرب ولكي يوفر على قومه ما كانوا ينفقون من مال طائل في بلاد يكرهونها، فاتخذ (مشهد) كعبة وجه الشعب إليها ولكي يزيدها قدسية حج إليها بنفسه ماشيا على قدميه مسافات تفوق ألف كيلومتر ومائتين فتحول الناس اليها، ويندر من يزور الحجاز منهم اليوم وهم يحترمون كلمة (مشهدي) عن كلمة (حجي) لان من زار مشهد لا شك أكثر احتراما وطهارة ممن زار مكة في زعمهم!